الدفاع المتقدّم في الشرق الأوسط... معركة جديدة بين إيران وإسرائيل

اعتمدت إسرائيل، خلال العقود الماضية، سياسة ترتكز إلى الردع التقليدي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
صورة للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي معروضة في وسط ساحة ولي عصر بطهران، 13 يوليو

الدفاع المتقدّم في الشرق الأوسط... معركة جديدة بين إيران وإسرائيل

لا يزال الشرق الأوسط يرزح تحت حالة من "الجمود المعلّق"، فلا هو غارق في حرب شاملة، ولا هو ينعم بسلام دائم، وكأن هذا التوازن الهشّ في انتظار الخطوات التالية لكلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، بعد حرب الأيام الـ12 التي اندلعت في يونيو/حزيران 2025، بينما تترقّب الأنظار ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا ولبنان، حيث قد يُمثّل انكماش النفوذ الإيراني الإقليمي مقدّمةً لمسار أكثر استقرارًا في هذين البلدين.

ما يفاقم خطورة المرحلة الراهنة تصادم استراتيجيتَي "الدفاع المتقدّم" لكل من إسرائيل وإيران، إذ ينطلق الطرفان من قناعة راسخة بأن بسط النفوذ خارج الحدود هو الضمانة الأساسية لأمن الداخل. ولا تقتصر آثار هذه المواجهة المحتملة بين البلدين على مستقبلهما فحسب، بل تطال مجمل المسار الاستراتيجي للشرق الأوسط.

لقد اعتمدت المنطقة، على مدى عقود، على شعور بالاستقرار هش وغير حقيقي في الغالب. وقبل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي شنّتها "حماس" على إسرائيل، كان هناك توافق ضمني بين إيران وإسرائيل على تجنّب المواجهة المباشرة، الأمر الذي أتاح هامشا من الاستقرار المؤقّت. غير أن هذا الاستقرار كان يفتقر إلى أي مصلحة متبادلة في الدبلوماسية أو مساعٍ حقيقية لتحقيق السلام. فقد جسّد الخطاب الإيراني الداعي إلى محو إسرائيل تجاه إسرائيل هذه الفجوة، تماما كما جسّدتها معارضة إسرائيل للاتفاق النووي الموقّع عام 2015 خلال ولاية ترمب الأولى، ورفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لمحاولات التقارب الدبلوماسي مع إيران في ولايته الثانية.

أتاحت الشبكة الإقليمية التي نسجتها إيران قدرا من "الإنكار المعقول" لأفعالها. فهي وفّرت لطهران عمقا استراتيجيا عبر تحدّي إسرائيل بشكل غير مباشر بواسطة الوكلاء

هندسة الردع غير المتكافئ قبل 7 أكتوبر

استند واقع "اللاحرب واللاسلم" بين إيران وإسرائيل، قبل هجمات 7 أكتوبر، إلى نموذجين متناقضين للسياسة الخارجية. فمن جانبها، اعتمدت إيران استراتيجية "الدفاع المتقدّم" لحماية أمنها الداخلي من خلال توسيع نفوذها الإقليمي، عبر شبكة من الميليشيات النشطة تشمل "حماس" و"حزب الله" اللبناني و"الحشد الشعبي" في العراق والحوثيين في اليمن. ومع انزلاق أجزاء واسعة من المنطقة إلى أتون الحروب الأهلية، تحوّلت هذه الاستراتيجية التي طوّرتها طهران كنهج دفاعي إلى أدوات هجومية ضد خصومها، وفي مقدّمتهم إسرائيل.

في المقابل، اعتمدت إسرائيل، خلال العقود الأربعة الماضية، سياسة أكثر ثباتا ترتكز إلى الردع التقليدي القائم على تفوّقها العسكري. ومع أن إسرائيل بدورها طبّقت في مراحل مبكرة من تاريخها نوعا خاصا من "الدفاع المتقدّم"– كما في حرب السويس عام 1956، وحرب الأيام الستة عام 1967، واجتياح لبنان في 1982– فإنها مالت، بعد معاهدة السلام مع مصر وحصولها على حدود آمنة منذ ثمانينات القرن الماضي، أكثر إلى الردع التقليدي.

أ ف ب
فلسطينيون يسيطرون على دبابة ميركافا إسرائيلية بعد عبور السياج الحدودي مع إسرائيل من خان يونس في جنوب قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023

أما إيران، فقد بلورت عقيدتها في "الدفاع المتقدّم" استنادًا إلى صدمة الحرب العراقية–الإيرانية (1980–1988)، سعيا لتجنّب أي صراع على أراضيها. فأنشأت شبكة نفوذ خارجية تتّسم بالديناميكية، ووسّعت حضورها من خلال "فيلق القدس" داخل البنى السياسية والعسكرية والدينية في سوريا والعراق ولبنان. وفيما بقي النموذج الإسرائيلي ردعيًا وساكنًا نسبيًا، فإن النموذج الإيراني تميّز بالحركية ودمج بين الأهداف الدفاعية والهجومية.

لقد أتاحت الشبكة الإقليمية التي نسجتها إيران قدرا من "الإنكار المعقول" لأفعالها. فهي وفّرت لطهران عمقا استراتيجيا عبر تحدّي إسرائيل بشكل غير مباشر بواسطة الوكلاء، من دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. وروّجت إيران لهذا الانخراط باعتباره موقفا دفاعيا ضد إسرائيل والولايات المتحدة، فضلا عن كونه دعما للقضية الفلسطينية. ولعدة سنوات، شكّلت هذه المعادلة مزيجا فعّالا من الضغط والحماية: إذ مكّنت إيران من تصعيد التوترات من خلال وكلائها، دون أن تثير ردا إسرائيليا مباشرا وواسع النطاق. بعبارة أخرى، جسّدت هذه الاستراتيجية قدرا معتبرا من "الغموض الاستراتيجي".

شبكة الميليشيات التي اعتُبرت يوما مكمنَ قوةٍ استراتيجيا، تحوّلت سريعا إلى عبء. وفي النهاية، بدل أن توفّر تلك الجماعات لطهران عمقا دفاعيا يحمي الداخل، جلب دعم طهران لها الدمار

السابع من أكتوبر وانهيار الغموض

ما لبث التوازن الهشّ بين إيران وإسرائيل أن انهار في أعقاب هجمات "حماس" المدمّرة على إسرائيل في أكتوبر، إذ تحوّلت حالة "اللاحرب واللاسلم" إلى "لا سلام" فقط. وبهذا، فقدت إيران ميزة الغموض الاستراتيجي التي كانت تمكّنها من تجنّب السلام من دون الانزلاق إلى حرب شاملة. ففي اليوم التالي للهجوم، بدأ "حزب الله" بقصف إسرائيل بالصواريخ انطلاقا من جنوب لبنان، وسرعان ما انضم إليه الحوثيون عبر استهدافهم لحركة الملاحة في البحر الأحمر دعما لـ"حماس". وقد شكّل الدعم العلني الذي قدّمته طهران لهذه الهجمات نقطة تحوّل، لكنه جاء بنتائج عكسية. إذ أعادت إسرائيل تموضعها الأمني، متخلية عن نهج الردع والاحتواء التقليدي الذي تبنّته خلال العقود الأربعة الأخيرة، لتعود إلى عقيدة "الدفاع المتقدّم"، حيث رأت أن أمنها الوطني يقتضي بسط قوتها إقليميا والتحرك استباقيا.

وسّعت إسرائيل نطاق عملياتها ليشمل سلسلة هجمات استراتيجية متواصلة على "حماس"، أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، كما استهدفت "حزب الله" والحوثيين، وكثّفت من ضرباتها في سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد في عام 2024. وفي العام نفسه، تبادلت إيران وإسرائيل الضربات المباشرة مرتين، قبل أن تنفّذ إسرائيل هجمات استباقية على إيران في عام 2025. وكما هي الحال في العقيدة الإيرانية، فإن نسخة إسرائيل الجديدة من "الدفاع المتقدّم" تنطوي بدورها على دوافع هجومية، كما يتضح من تصريحات بنيامين نتنياهو بشأن "تغيير وجه الشرق الأوسط" في عامي 2024 و2025.

ومع انطلاق النسخة الإسرائيلية من الدفاع المتقدّم، بدت آثارها مدمّرة على إيران. فشبكة الميليشيات التي اعتُبرت يوما مكمنَ قوةٍ استراتيجيا، تحوّلت سريعا إلى عبء. وفي النهاية، بدل أن توفّر تلك الجماعات لطهران عمقا دفاعيا يحمي الداخل، جلب دعم طهران لها الدمار وأوجد نقاط ضعف جديدة على حدودها، مما جعلها أقرب إلى ساحة مواجهة مباشرة مع إسرائيل.

تبادل الأدوار الاستراتيجية

أفضى هذا التحوّل إلى تقارب خطير بين عقيدتين متنافستين للدفاع المتقدّم: العقيدة الإيرانية التي تَجذّرت على مدى عقود، والعودة الإسرائيلية إلى ممارسة استراتيجية هجومية وقائية خارج حدودها.

وفي يونيو/حزيران 2025، شنّت إسرائيل هجمات على منشآت الدفاع والتخصيب النووي الإيرانية، بدعم ومشاركة مباشرة من الولايات المتحدة. وبذلك استعادت دورها كقوة إقليمية تسعى إلى تغيير موازين القوى، بعدما كانت قد تخلّت عنه لفترة من الزمن، معتمدة سياسة القوة الوقائية بدلا من الاحتواء الحذر. ويعني هذا ببساطة تبنّي إسرائيل نسخة متجددة من "الدفاع المتقدّم"، تعكس العقيدة الإيرانية ذاتها. ولم يعد قادتها يتحدثون عن البقاء في المنطقة والتعايش معها، بل باتوا يتحدثون عن إعادة تشكيلها أيضا.

التصادم بين عقيدتي الدفاع المتقدم لإيران وإسرائيل لا ينطوي فقط على خطر تجدد المواجهة العسكرية، بل يحمل تهديدا مباشرا لمستقبل المنطقة

غير أن هذا التحول يحمل في طياته خطرا حقيقيا. فإغواء التوسّع المفرط، حيث لا يقتصر الهدف على الردع بل يمتد إلى إعادة التكوين، بات حاضرا بقوة. وعندما ينخرط الطرفان في استراتيجية الدفاع المتقدّم، فإن احتمال التشابك، وسوء التقدير، والتصعيد غير المنضبط، يتزايد بصورة مقلقة.

والنتيجة أن الطرفين تبادلا أدوارهما الاستراتيجية: فإيران التي كانت تدير شبكة نفوذ إقليمية واسعة، وجدت نفسها مضطرة إلى التراجع والدفاع، بينما أصبحت إسرائيل الطرف المبادر والمبادر بقوة. ومع تراجع قدرة طهران على بسط نفوذها، تبقى العقيدة الدفاعية المتقدّمة راسخة في ثقافتها الاستراتيجية، لا سيّما في ضوء تجربة حرب الثمانينات مع العراق، والضربات الإسرائيلية– الأميركية المشتركة التي طالتها في يونيو 2025. إلا أن إيران باتت الآن في مواقع الدفاع، تردّ على الوقائع بدل أن تصنعها. ويبدو أن استراتيجيتها الدفاعية مضطرة للتكيّف مع واقع جديد فقدت فيه الكثير من نفوذها التقليدي.

أ.ف.ب
القائد العام للجيش الإيراني، أمير حاتمي، خلال اجتماع في غرفة قيادة الحرب التابعة للجيش الإيراني في مكان لم يُكشف عنه في إيران، في 23 يونيو

ولا عجب في أن تسعى إيران إلى استعادة حضورها الإقليمي مستقبلا عبر أدوات جديدة، ولا سيّما أن منطق "الدفاع المتقدّم"، على تآكل أهم أدواته، لا يزال قائما. ويبقى مكمن الخطر يكمن في أن تلجأ طهران إلى إعادة بناء تحالفاتها الميليشياوية لاستعادة توازنها، وهو أمر، حتى لو تحقق، لن يعيد لها بالضرورة قوة الردع السابقة. وقد تطوّر نموذجا جديدا من "الدفاع المتقدّم" ربما سعى هذه المرة إلى امتلاك سلاح نووي.

تداعيات إقليمية: العودة إلى هوبز

يعيد هذا التحول الاستراتيجي الشرق الأوسط إلى منطق هوبزي مكثف، يقوم على الخوف، وانعدام الثقة، والاحتماء بالذات.  ورغم افتقار المنطقة تاريخيا إلى أطر إقليمية فعالة لاحتواء التصعيد، فقد كانت الصراعات خلال العقد الماضي تدور غالبا عبر حروب الوكالة داخل دول منهارة مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن. أما اليوم، فقد باتت المواجهة علنية ومباشرة أكثر، إذ تعمل كل من إيران وإسرائيل وفق نموذج أمني أولويته عسكرية، حيث تطغى الحسابات الصلبة على الخيارات الدبلوماسية. لم يعد الطرفان يكتفيان بالاشتباك غير المباشر، بل دخلا في صراع تقليدي جلي وواضح. فإذا استمر هذا المسار، فستكون الكلفة باهظة. من جانب إيران، أدى "التأمين" على شكل الدفاع المتقدم إلى إنهاك اقتصادها ونفور قطاعات واسعة من شعبها. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن التورط في وضع دفاعي أمامي طويل الأمد قد يعرّض مؤسساتها الديمقراطية للتآكل، ويمسّ مكانتها العالمية، ويفتح الباب أمام انتقام غير متماثل، بل وقد يدفع إيران في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار سياسي بالسعي وراء رادع نووي.

الدبلوماسية كضرورة استراتيجية

إن التصادم بين عقيدتي الدفاع المتقدم لإيران وإسرائيل لا ينطوي فقط على خطر تجدد المواجهة العسكرية، بل يحمل تهديدا مباشرا لمستقبل المنطقة. فالدفاع المتقدم، سواء عبر الوكلاء أو الضربات الاستباقية، نهج محفوف بالمخاطر ولا يمكن إدامته دون أفق سياسي واضح وغاية استراتيجية بعيدة المدى.

النظام الإقليمي الأكثر استدامة سيتطلب اتفاقا استراتيجيا جديدا، يمزج الأمن بالدبلوماسية، والردع بالحوافز، والمصلحة الوطنية بالتعاون الإقليمي

اليوم، يقف الشرق الأوسط أمام مفترق حاسم، إما الانزلاق أكثر نحو صدام مباشر بين أقوى قوتين عسكريتين في المنطقة– وكلتاهما باتت تتبنى عقيدة دفاعية تستند إلى العمل الاستباقي كشرط للأمن– أو الاستثمار الجاد في الدبلوماسية وبناء منظومة إقليمية للأمن. لطالما اعتمدت المنطقة على وساطة خارجية، من الولايات المتحدة، وأحيانا من الصين في الأعوام الأخيرة. لكن آن الأوان أن تتولى القوى الإقليمية زمام مبادرة السلام. فدول مجلس التعاون الخليجي، وتركيا، ومصر، بل وحتى العراق، تملك أدوارا مهمة يمكن أن تسهم في رسم خارطة طريق جديدة، إلى جانب مؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة.

نحو اتفاق استراتيجي

ما نشهده ليس مجرد معركة عسكرية، بل صراع عقائد. فعقيدة الدفاع المتقدم الإيرانية، التي ولدت من صدمة حرب الخليج الأولى في الثمانينات، باتت الآن تحت ضغط استراتيجي بعد تدهور الكثير من ميليشياتها والهجمات المباشرة من إسرائيل والولايات المتحدة. أما عودة إسرائيل إلى استراتيجية الدفاع المتقدم وبسط القوة، والتي ولدت من صدمة هجمات 7 أكتوبر 2023، فهي لم تُختبر بعد في الحقائق الجديدة للشرق الأوسط، لكنها قد تكون مزعزعة للاستقرار. تجربة إسرائيل السابقة مع الدفاع المتقدم ولدت من شعور عميق بعدم الأمان والتهديدات. أما عودتها هذه المرة فقد تغذيها مزيج من التهديد والفرصة لتشكيل المنطقة. لا يمكن لنهجي الدفاع الخارجي الإسرائيلي والإيراني أن يحققا أمنا دائما. وكلاهما يجازف بإدامة دائرة الانتقام والتجذر وسوء التقدير. والخلاصة أنه عندما يعتمد كلا الجانبين على الدفاع المتقدم، فإن النتيجة لن تكون توازنا، بل هي صيغة عالية المخاطر للتصعيد المستمر وعدم الاستقرار الإقليمي.

إن النظام الإقليمي الأكثر استدامة سيتطلب اتفاقا استراتيجيا جديدا، يمزج الأمن بالدبلوماسية، والردع بالحوافز، والمصلحة الوطنية بالتعاون الإقليمي. ولا شك أن التحدي هائل، ولكن البدائل– استمرار الجمود المعلق أو التصعيد الكارثي– أسوأ بكثير.

لقد وصلت إيران وإسرائيل إلى نقطة تحول، فخياراتهما بعد ذلك لن تحدد مستقبلهما فحسب، بل ستحدد أيضا ما إذا كان الشرق الأوسط سيظل رهين حالة دائمة بين الحرب والسلام، أم يتجه نحو حرب شاملة، أم عساه يتحرك أخيرا نحو استقرار أكثر ديمومة.

font change