إسرائيل وإيران... العداء المستحكم والسلام المستحيل

المفاوضات التي تطالب بها الولايات المتحدة بين الجانبين طريق طويل من المخاتلات

رويترز
رويترز
طيار مقاتل إسرائيلي يتفقد طائرة إف-15 في قاعدة تل نوف الجوية، إسرائيل، 3 يوليو 2025

إسرائيل وإيران... العداء المستحكم والسلام المستحيل

فصل جديد من التوتر بين إيران وكل من إسرائيل والغرب، بعد حرب ضروس لا يبدو أنها وضعت تماما أوزارها بعد، وذلك بدأ تحت عناوين عريضة ثلاثة:

أولها، تقييم ما إذا كانت الحرب قد أدت إلى تدمير كلي أو جزئي للبرنامج النووي الإيراني، وما إذا كان لا يزال بوسع إيران العمل على إعادة بناء هذا البرنامج، خلال وقت قصير أم بعد سنوات.

ثانيها، التحقق من مصير "اليورانيوم المخصب" الذي كانت إيران قد أنتجته بكميات كبيرة، وتقول إنها لا تزال تحتفظ به في مكان آمن.

ثالثها، إقناع إيران بالعودة إلى مسار التفاوض حول برنامجها، بما في ذلك السماح بعودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لمعاينة المفاعلات الإيرانية الرئيسة الثلاثة، التي تم استهدافها في كل من فوردو، ونطنز وأصفهان. لكن ذلك أصبح أكثر صعوبة بعد تصديق الرئيس الإيراني على قانون تعليق التعاون مع الوكالة الدولية. كل هذا يعيد الأمور مجددا إلى مربع انعدام اليقين، ويفتح المجال أمام احتمالات انتقالها إلى سيناريوهات جديدة من الصراع، من دون نهايات محددة لها.

دوامة الجدل والمزاعم

كان الاتفاق "الشفهي" المفاجئ والمثير للجدل، لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، قد فتح الباب واسعا لسجالات صاخبة، ونقاشات لا تزال محتدمة حول العالم، خصوصا في الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، بشأن ما إذا كان هذا الاتفاق يعني "استسلاما" من قبل إيران، أملته الضربات الأميركية الماحقة لمنشآتها النووية، أو "تسليما" من قبل الجميع بأن الحرب استنفدت أهدافها، ولا ينبغي السماح باتساع نطاقها أو إطالة أمدها.

غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وصف وقف إطلاق النار مع إيران بأنه "انتصار تاريخي" لبلاده، فيما اعتبر الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، ذلك بمثابة "النصر العظيم للأمة" على حد قولهما. ثم جاء خطاب المرشد الإيراني، علي خامنئي، متحديا، وغير تصالحي، ومنكرا للهزيمة.

نصيب ترمب

لكن آخرين يرون أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هو المنتصر الوحيد، فقد دخل من وراء ستار "حربا" أراد بها ما أراد، قبل أن يتدخل مباشرة، ليصنع بعد ذلك بالدبلوماسية ما استطاع، وأرضى معظم الأطراف تقريبا، بما في ذلك إيران، التي تنفست الصعداء نتيجة لذلك، بدليل قبولها باتفاق غير مكتوب، ودون شروط أو مفاوضات على ضمانات وآليات مراقبة، كما يجري عادة كأساس لنهاية أي حرب.

استفاقت طهران من حلمها النووي، جريحة، دون خيارات، وبلا أصدقاء أو حلفاء حقيقيين، يقفون بحزم إلى جوارها، حيث تخلى الكل عنها، وفي مقدمتهم روسيا

أوهام النصر بين إيران وإسرائيل

لم يكن من الوارد ولا الجائز منطقا، توقُّع أن "تنتصر" إيران في حرب فُرضت عليها، وهي مغلولة الأيدي، بعد عقود من الحصار الاقتصادي المشدد، والخنق السياسي المحكم، والضغط العسكري أخيرا بكل أشكاله.

كما لا يصح إنكار أن ميزان القوة، منذ البداية، كان لا يميل بأي قدر لصالح إيران المكبلة، بل لصالح إسرائيل التي تعيش في بحبوحة من أحدث الأسلحة المتطورة، ولا يعوزها الدعم السياسي من قبل أكبر القوى العالمية في الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا.

لن نحتاج للانتظار طويلا حتى ينقشع دخان الحرب، ونرى نتائجها على الجانبين، وهي على أي حال لن تكون لمصلحة إيران، التي خرج شعبها من هذه الحرب بأعمق درس تعلمه في تاريخه، وهو أن "رومانسية الأيديولوجيا" وحدها لا تساوي شيئا أمام جبروت التكنولوجيا ودهاء الذكاء الاصطناعي.

رويترز
أعلام إيرانية وتبدو من خلفها النيران والدخان في منشأة نفطية في طهران، قصفتها الطائرات الإسرائيلية، 15 يونيو 2025

مشاهد غير مسبوقة

أدمت الحرب الطرفين، الإسرائيلي والإيراني على حد سواء، حيث عاش الإسرائيليون، خلال أيام القتال الاثني عشر، أوقاتا لم تكن في حسبانهم، ذهابا إلى المخابئ والملاجئ، وعودة مؤقتة منها محفوفة بالمخاطر، ورأوا دمارا في أهم مدنهم، أثار الشك لديهم في مصداقية حكومتهم وقوة "جيش الدفاع" الذي لا يُقهر.

وفي الجانب الآخر الإيراني، أحدثت الضربات والاغتيالات والاختراقات الأمنية الإسرائيلية العميقة لإيران، صدمة عنيفة هزت الثقة بنظام الحكم، ولاسيما بعد أن أدت العمليات العسكرية والاستخباراتية في أول أيامها إلى اغتيال قائد الحرس الثوري، حسين سلامي، ونحو ثلاثين آخرين من قادة الحرس، واستهداف عشرة من العلماء النوويين الذين واصلت إسرائيل قتلهم حتى الساعة الأخيرة، قبل توقف الحرب إلى جانب قادة ميدانيين آخرين.

هل تجرعت إيران السم للمرة الثانية؟

استفاقت طهران من حلمها النووي، جريحة، دون خيارات، وبلا أصدقاء أو حلفاء حقيقيين، يقفون بحزم إلى جوارها، حيث تخلى الكل عنها، وفي مقدمتهم روسيا التي قالت: "إنها لا ترتبط مع إيران بأي معاهدة دفاع مشترك، وإن طهران لم تطلب منها أي دعم عسكري" وكذلك الصين التي استفادت مع روسيا من النفط الذي تصدره إليهما إيران بأسعار تفضيلية، ولم تجد الأخيرة من بكين وموسكو خلال الحرب، سوى مواقف سياسية وكلامية ليس إلا، في وقت احتشد فيه الغرب الأميركي والأوروبي وراء إسرائيل، بكل أشكال الدعم العسكري والسياسي والمالي.

إيران فهمت أخيرا أن العالم لا يرغب في رؤية دولة نووية جديدة، في الشرق الأوسط بعد إسرائيل وباكستان والهند، ولهذا قرر مرشدها، علي خامنئي أن يتجرع السم الذي تجرعه سلفه، آية الله الخميني

لعل إيران فهمت أخيرا أن العالم لا يرغب في رؤية دولة نووية جديدة، في الشرق الأوسط بعد إسرائيل وباكستان والهند، ولهذا قرر مرشدها، علي خامنئي أن يتجرع ذات السم الذي تجرعه من قبله سلفه، آية الله الخميني، لتتوقف حرب السنوات الثماني مع عراق صدام حسين، أواخر ثمانينات القرن الماضي.

لماذا العداء مستحكم؟

إسرائيل وإيران بلدان مختلفان عن بعضهما بشدة، وكلاهما على طرَفي نقيض من الآخر، إذ لا جوار، ولا حدود بينهما، ولا قيم مشتركة تجمعهما، ولا مصالح اقتصادية يلتقيان عندها، بل هي في الغالب مصالح متضاربة ومتصارعة على الموارد والأسواق، ابتداء من العراق والشام وحتى إلى أفريقيا.

فضلا عن ذلك، فالمجتمع اليهودي أغلبه متدين، وجاء إلى فلسطين، مؤمنا بأنها "أرض الميعاد" وفقا للعقيدة التوراتية، تاركا مواطنه الأصلية، معتبرا إياها "بلدان الشتات" رغم احتفاظهم بجنسياتهم وهوياتهم القانونية فيها.

أما إيران، فبلد تغلب عليه العاطفتان الدينية والقومية، الأولى بحكم انتمائه للإسلام على طريقته، وبناء على تصوره المذهبي "الخاص" لهذا الدين، والثانية بحكم ارتباطه بفارس كأرض وحضارة ضاربة بجذورها اللغوية الثقافية في أطناب وجدانه.

ثم هناك حاجز نفسي بين الجانبين، لا يمكن لأحدهما تخطيه، سببه الأساسي هو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والحروب والمجازر المروعة، والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين، منذ قيامها عام 1948 ولا يختلف الأمر هنا عند غير الإيرانيين من المسلمين، إلا أن موقف إيران، تجاوز حدود الدعوة إلى مقاومة الاحتلال، وإجباره على التسليم بحق الفلسطينيين، في بناء دولتهم على أرضهم، إلى التهديد باقتلاع إسرائيل وإزالتها من الوجود.

جعلت إسرائيل وإيران من البلدان العربية الواقعة بينهما مسرحا لإدارة صراعاتهما، واستدعتا بذلك قوى محلية وإقليمية ودولية للتدخل في هذا الصراع، وعلى رأسها تركيا والولايات المتحدة

ألهذا، يبدو السلام مستحيلا؟

جعلت إسرائيل وإيران من البلدان العربية الواقعة بينهما مسرحا لإدارة صراعاتهما، واستدعتا بذلك قوى محلية وإقليمية ودولية، للتدخل في هذا الصراع، وعلى رأسها تركيا المتوجسة من خروج الأوضاع في المنطقة الكردية الواقعة في جنوبها وشمال شرقي سوريا، والولايات المتحدة التي لا تحتاج إلى ذرائع لتبرير تدخلها بحجة حماية أكراد سوريا، وروسيا التي حضرت لمساعدة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الذي شجعته إيران على "عسكرة" الثورة السورية، لتصبح الأمور بعد ذلك أكثر تعقيدا بينهما.

اتخذت إيران من القضية الفلسطينية شعارا للمواجهة مع إسرائيل، من خلال أذرع لها في لبنان مثل "حزب الله"، وفي سوريا والعراق من خلال بعض الفصائل الشيعية المسلحة، و"حماس" في غزة، والحوثيين في اليمن، ولم يكن ذلك سوى لدرء الخطر عن نفسها، وتشتيت الانتباه عن مشروعها النووي وبرنامجها الصاروخي.

أ.ف.ب
تفعيل أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية لاعتراض الصواريخ الإيرانية فوق تل أبيب في 18 يونيو 2025

ومن جانبها، جعلت إسرائيل من القضاء على برنامج إيران النووي، عنوانا لمعركتها مع إيران، وفزاعة لتخويف العالم من نوايا إيران لإنتاج سلاح نووي، لا يستهدفها فقط بل الشرق الأوسط برمته والبشرية عامة.

وجاءت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لتجعل المواجهة بين الطرفين أقرب ما تكون، عن طريق غير مباشر أولا، في غزة ولبنان وسوريا، ثم مباشر ثانيا يوم 13 يونيو/حزيران 2025، لتصل الأمور إلى ما انتهت إليه بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التوصل مع طهران وتل أبيب إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد تدخل أميركي، شبه حاسم، بقصف مفاعل فوردو وآخرين في نطنز وأصفهان، ولكن هل انتهت الحرب فعلا، وحان الوقت لتحقيق السلام كما بشر بذلك ترمب؟

النظام الإيراني لم يسقط بالضربة القاضية، وثمة خشية من أن يعود إلى إعادة بناء قدراته النووية، طال الزمن أم قصر، خصوصا في ظل الغموض الذي يحيط بمصير اليورانيوم المخصب الذي أنتجته إيران

الأمر، حتى اللحظة، لا يزال ضربا من الخيال، ونوعا من الأمنيات، فالنظام الإيراني لم يسقط بالضربة القاضية، وثمة خشية من أن يعود إلى إعادة بناء قدراته النووية، طال الزمن أم قصر، خصوصا في ظل الغموض الذي يحيط بمصير اليورانيوم المخصب الذي أنتجته إيران، منذ انسحاب ترمب من الاتفاق النووي الموقع معها في باريس العام 2015، يقول الإيرانيون إنهم لا يزالون يحتفظون بـ "تقنية" برنامجهم النووي، بصرف النظر عن تدمير منشأته ومرافقه وأجهزته، رغم ادعاء إسرائيل في وقت سابق أنها نجحت في سرقة أرشيف هذا البرنامج بالكامل.

هذا، فيما فتحت نتائج الحرب شهية إسرائيل، لاستئناف القتال في أي لحظة عند أي خرق للاتفاق، ولا يزال قادتها العسكريون يرددون أن "المعركة انتهت، لكن الحرب لا تزال قائمة".

استنتاجات وخلاصات

من الواضح أن أولوية إيران كانت أولا لوقف الدمار، الذي تتركه الحرب غير المسبوقة أو المتكافئة في كل ساعة تقريبا، رغم اعتياد إيران في كل تاريخها على حروب طويلة الأمد، كـ"الحربين الكبيرتين" مع الإمبراطورية الروسية في ثلاثينات القرن التاسع عشر، اللتين انتهتا بهزيمة إيران، وانضمام جزء كبير من القوقاز وتركمانستان إلى تلك الإمبراطورية، أو حرب الثماني سنوات مع عراق صدام حسين، التي امتدت من العام 1980 وحتى العام 1988 وانتهت بهزيمة إيران أيضا.

أما المفاوضات التي تطالب بها الولايات المتحدة بعد الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل، فطريق طويل قادم من المخاتلات، يجيده حائك السجاد الإيراني، الذي اعتادت فيه بعض عائلاته على نسجه لعقود، لدرجة أن تتوارث مهمة إكماله لمائتي عام وأكثر ، فهذه هي العقلية الإيرانية المعروفة بطول النفَس والبال.

font change

مقالات ذات صلة