الحوثيون وخلط أوراق "النقد" بالسياسة

زيادة حالة التشظي والانقسام

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مبنى المصرف المركزي اليمني في صنعاء

الحوثيون وخلط أوراق "النقد" بالسياسة

لا يكاد يمر يوم أو أسبوع تقريبا دون أن تتصدر جماعة الحوثيين في اليمن، الموالية والمتحالفة مع إيران، واجهة الأحداث بـ(مغامرة) تتباهى بتبنيها وإعلان المسؤولية عنها، أو بـ"انتهاكات" يزعم خصومهما تورطها فيها.

فبعد نشوة الجماعة بإغراق اثنتين من سفن التجارة العالمية في المياه الدولية للبحر الأحمر، تزامن، الأسبوع الماضي خبر اعتراض البحرية اليمنية لشحنة أسلحة ومعدات عسكرية وأجهزة اتصالات مهربة، تزن 750 طنا، كانت في طريقها إلى مناطق سيطرتها، وذلك مع إزاحة الجماعة الستار عن ورقة نقدية، من فئة المئتي ريال، بدلا عن ورقة من فئة الـ250 ريالا، قامت بطباعتها وطرحتها للتداول في المناطق الواقعة تحت سيطرتها اعتبارا من صباح يوم الأربعاء الفائت، الـ16 من يوليو/تموز الجاري، وفق ما أعلنه مبنى البنك المركزي الذي تهيمن عليه الجماعة في العاصمة "المختطفة" صنعاء، وذلك بعد أيام من صكّها عملة معدنية من فئة الـ50 ريالا.

من حيث الشكل تبدو هذه الخطوة ضرورية لتعويض السوق المالية بكمية جديدة من الأوراق النقدية بدلا عن كميات كبيرة من الأوراق القديمة المهترئة أو "التالفة" من الفئتين المشار إليهما، لكن الأمر لم يخل من حمولة "سياسية" أكبر مما يحتملها الأمر، حاول بعض المندفعين والمتحمسين من أنصار الجماعة تمريرها من خلال هذه العملية.

ردود فعل متباينة

الآراء بشأن هذا التطور انقسمت على نحو حاد بين خبراء الاقتصاد والمال والأعمال ورجال السياسة على جانبَي الصراع اليمني، أي الحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دوليا، وجماعة الحوثيين "الانقلابية" المصنفة من قبل الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين كـ"جماعة إرهابية أجنبية" وتخضع لحزمة من العقوبات الاقتصادية فرضتها وزارة الخزانة الأميركية خلال مراحل عدة على الجماعة وبعض الكيانات والأفراد الذين تعتقد الوزارة بارتباط أنشطتهم بتمويل وتدوير أموال الجماعة في الداخل والخارج.

قبل يومين من طرح الحوثيين لفئتيهم النقديتين، المطبوعة والمسكوكة، وصف البنك المركزي اليمني الذي يتخذ من مدينة عدن- المُعلَنة عاصمة "مؤقتة" للبلاد- الخطوة الحوثية بأنها "فعل عبثي تدميري صادر عن كيان غير قانوني"، واعتبر أن "هذا التصرف غير المسؤول يُعد استمرارا للحرب الاقتصادية التي تمارسها الجماعة "في نهب مقدرات ومدخرات المواطنين لتمويل شبكاتها المشبوهة بمبالغ مهولة، دون أي غطاء قانوني أو نقدي".

وحذر البنك المواطنين وفروع البنوك وشركات الصرافة وقطاع الأعمال في مناطق سيطرة الحوثيين، التي تمارس الأنشطة المستثناة والمسموح بها في إطار العقوبات الدولية الصادرة بحق الجماعة، من التعامل بالعملة المزوّرة، سواء الجديدة أو القديمة.

قبل يومين من طرح الحوثيين لفئتيهم النقديتين، المطبوعة والمسكوكة، وصف البنك المركزي اليمني الذي يتخذ من مدينة عدن- المُعلَنة عاصمة "مؤقتة" للبلاد- الخطوة الحوثية بأنها "فعل عبثي تدميري صادر عن كيان غير قانوني"

المبعوث الدولي إلى اليمن، هانز غروندبرغ، اعتبر الخطوة الحوثية "إجراء أحادي الجانب" وليست السبيل الأمثل لمعالجة التحديات المتعلقة بالسيولة "بل تُهدد بتقويض الاقتصاد اليمني الهش أصلا، وتعميق تفكك أطره النقدية والمؤسسية، كما قال.

غروندنبرغ أضاف في بيان له بهذا الشأن أن "هذه الخطوة تُعد خرقا للتفاهمات التي تم التوصل إليها بين الأطراف في 23 يوليو/تموز 2024 بشأن التهدئة في المجال الاقتصادي"، مُجددا دعوته إلى "العمل بدلا من ذلك على اتباع نهج منسق يعزز الحوار ويدعم جهود الاستقرار الأوسع، والسعي إلى إيجاد حلول عملية تخدم مصلحة جميع اليمنيين".

وحذر خبراء ومحللون اقتصاديون من خطورة ذلك على الأوضاع الاقتصادية الهشة والإنسانية المتردية، ومن أن تضاعف هذه الخطوة "من حالة التشظي والانقسام" وتهدد بفصل اقتصاد الحرب في مناطق الحوثيين عن منظومات الاقتصاد اليمني في بقية مناطق البلاد، وتفرض توجها نحو "اللاعودة" إلى مسار اقتصادي محايد، خصوصا إذا أدى ذلك إلى تضخم أو انخفاض في قيمة الريال داخل مناطق سيطرة الجماعة.

هذا فيما سخر مواطنون وناشطون شباب في مناطق هيمنة الحوثيين من هذه التدابير، معتبرين أنهم لم ولن يكونوا مستفيدين من استبدال أي فئة نقدية بسواها. فأغلبهم، كما يقولون، بلا مرتبات منذ سبعة أعوام من الحرب، ولا يعلقون أي أمل على هذه الخطوة أو غيرها ما لم تصل إليهم معاشاتهم سواء من قبل سلطات الأمر الواقع الحوثية أو الحكومة اليمنية الشرعية.

أ.ف.ب
أنصار الحوثيين في اليمن خلال تجمع لإحياء ذكرى يوم القدس العالمي في صنعاء، في 28 مارس

كان من المتوقع قبل عدة أشهر أن تتخذ الحكومة اليمنية قرارا بتغيير العملة كواحدة من وسائل الضغط المقترحة على الحوثيين، لكنها عدلت عن هذه الفكرة لأسباب ربما وجدت معها أن تغيير العملة في ظل الحرب مسألة غير قانونية ولا عملية، ويجب أن يكون من المستبعد اللجوء إلى مثل هذه العملية من قبل أي طرف كان، ما لم تتم استعادة "الدولة" ويكون هناك برلمان منتخب يقر بالإجماع هذا الإجراء السيادي بطريقة دستورية، وفي ظروف طبيعية تماما.

الحوثيون وتسييس العملة

يفترض أن يكون من المستبعد قيام الحوثيين باستبدال الفئتين النقديتين السالف ذكرهما دون الأخذ بعين الاعتبار ما سبقت الإشارة إليه، لكن من اللافت أن يسارع بعض المحسوبين على الجماعة، بإيعاز منها أو من دونه، إلى المبالغة في وصف ما قامت به وتصويره على أنه "خطوة أقلقت خصوم صنعاء"! معتبرا أن ما جرى "لم يكن مجرد ورقة نقدية جديدة، بل إعلان ضمني بأن "هناك دولة تُدير اقتصادها، وتحمي سيادتها النقدية، وتعرف متى تتدخل بحزم لوقف التآكل المالي الناتج عن الحصار وسنوات العدوان"! إلى غير ذلك من المحاولات لـ"تجميل صورة الميليشيات" والقفز بها إلى مصاف الدول المؤسساتية التي لا تتجرأ على الادعاء بأنها تدير اقتصادها باستقلالية تامة عما حولها من اقتصادات متداخلة مع بعضها حول العالم.

هناك الكثير من "الكلام" على جانبي الصراع بشأن تأثير الإجراء النقدي الحوثي الجديد والتبعات المترتبة عليه، وكل ذلك مرهون بطبيعة الموقف الذي يمكن أن تعتمده الحكومة "الشرعية" ردا على ذلك الإجراء.

ثمة احتمالات عدة من بينها أن تلجأ الحكومة اليمنية إلى "إيقاف الاعتمادات المستندية بالعملة الصعبة لاستيراد السلع المخصصة لمناطق سيطرة الحوثيين"، حيث يثار السؤال هنا حول قدرة جماعة الحوثي على "تغطية فاتورة الاستيراد بصورة مباشرة دون اللجوء إلى البنوك في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية".

وفي حال وقف حركة التبادل التجاري بين المنطقتين، فمن سوف يكون "المتضرر أكثر من سواه" غير المواطن اليمني الفقير الذي أثقلت حرب الإخوة/الأعداء كاهله بأعباء من كل نوع.

كيف جرت طباعة الورقة الحوثية؟

من المعروف أن طباعة الأوراق النقدية هي من أكثر الأمور تعقيدا وتحتاج إلى تقنيات عالية لا تملكها كل "الدول" ولهذا فمن المؤكد أن يكون الحوثيون قد لجأوا إلى جهة أو جهات ما للمساعدة.

وسائل إعلام يمنية نسبت إلى مصادرها أن العملية تمّت بتنسيق مع شبكة يقودها رجل أعمال إيراني ورد اسمه في قائمة العقوبات الأميركية عام 2017 لتورطه في عمليات تزييف عملات لحساب "فيلق القدس" حيث قام، وفقا لتلك المصادر، بتوريد طابعات وأحبار أمنية عبر شركات وسيطة للتمويه، نجحت في التحايل على القيود الأوروبية المفروضة على تصدير معدات الطباعة المتقدمة، ولا يستبعد كثيرون أن تقوم جماعة الحوثيين بمزيد من هذه الخطوة التي أقدمت عليها، وذلك دون اكتراث بالتبعات أيا كانت.

من المعروف أن طباعة الأوراق النقدية من أكثر الأمور تعقيدا وتحتاج إلى تقنيات عالية لا تملكها كل "الدول" ولهذا فمن المؤكد أن يكون الحوثيون قد لجأوا إلى جهة أو جهات ما للمساعدة

لطالما سعى الحوثيون إلى إيجاد اقتصاد حرب خاص بهم، مواز لاقتصاد الحرب القائم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

تقرير للجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة كان قد أفاد بأن "جماعة الحوثي تحصل بطريقة غير رسمية على أموال من الجبايات والزكوات المختلفة تزيد على مليار وثمانمئة مليون دولار، إلى جانب طرق رسمية عن طريق الشركات والكيانات الاقتصادية التي نشأت واستفاد منها النافذون في الجماعة" هذا فيما نشأ في الجانب الآخر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اقتصاد حرب آخر مماثل بغطاء شرعي.

نجحت العملية رغم موت المريض

يزعم الحوثيون بأنهم نجحوا في تثبيت سعر صرف الريال القديم، بخلاف فشل البنك المركزي في عدن لكن هذا النجاح المزعوم، في رأي البعض "لم يكن نتيجة كفاءة اقتصادية، بل كان بسبب ثبات– أو حتى تناقص– الكتلة النقدية في مناطق الحوثيين". في المقابل، فإن الكتلة النقدية في المناطق الأخرى تزايدت باستمرار، حيث تم تمويل النفقات بطباعة أوراق نقدية دون غطاء كاف، وفقا لهؤلاء، وفي كلتا الحالتين فقد تسبب ذلك في تذبذب وارتفاع الأسعار على حساب معيشة المواطنين البسطاء.

أ.ف.ب
ورقة مالية من فئة 200 ريال للعملة الرسمية المعتمدة دوليا

كان تصميم الأوراق النقدية اليمنية يخضع في السابق لمعايير تقنية عالية الدقة، وارتبطت الرموز المرسومة عليها بدلالات سياسية وتاريخية جرى التوافق على أن تتميز بها تلك الأوراق، إذ استبعد أن تحمل صورا لأي من أعلام ورموز وشهداء اليمن في الفترات الحديثة التي شهدت صراعات سياسية معينة، وجرى اللجوء إلى اختيار رموز من الحضارات اليمنية القديمة تجنبا لأي جدل أو سجال.

لكن الملاحظ أن جماعة الحوثيين حرصت في ورقتها النقدية الجديدة على وضع رموز أخرى، إسلامية كـ"مسجد الجَنَد" في محافظة تعز ، وغيره مثل "جامع العيدروس" بمحافظة عدن، ما دفع بعض الناشطين إلى اتهام جماعة الحوثي بتعمد "طمس الهوية اليمنية التاريخية، والتلاعب المتعمد برموز الحضارة الحميرية العريقة" من خلال ما وصفوه بـ"تزوير ممنهج" للعملة الوطنية برموز مذهبية سلالية ترتبط بتاريخ الجماعة وليس بالتاريخ الوطني للدولة اليمنية القائمة منذ آلاف السنين قبل الإسلام وبعده، وذلك في سياق ما يعتبره يمنيون كثر "محاولات حوثية مستمرة لتغيير شكل ومضمون ومفهوم الدولة، بما في ذلك التلاعب بالمناهج التعليمية، وتغيير أسماء الشوارع، والمساس الآن بتصاميم العملة الوطنية" وغير ذلك.

font change