الحوثيون وإسرائيل... مواجهة مشروعة أم ضرب من اللامعقول

التحذير الأخير

أ.ف.ب
أ.ف.ب
طائرة مدمرة في مطار صنعاء الدولي، بعد يوم واحد من قصفه من قبل طائرات إسرائيلية، في 7 مايو 2025

الحوثيون وإسرائيل... مواجهة مشروعة أم ضرب من اللامعقول

في أحدث موجة، هي الأخطر في التصعيد بين إسرائيل وجماعة الحوثيين في اليمن، ضربت المقاتلات الإسرائيلية، مرة جديدة، ربما كانت الأعنف، ما يمكن اعتباره (عصب) الاقتصاد اليمني الهش في مناطق سيطرة الحوثيين في الساحل الغربي للبلاد.. موانئ الحديدة الثلاثة، ميناء الحديدة الرئيس، وميناء رأس عيسى النفطي، وميناء الصليف التجاري. بالإضافة إلى محطة (رأس كتنيب) لتوليد الطاقة الكهربائية.

جاء الهجوم الإسرائيلي الأخير بمثابة رسالة واضحة الدلالة في طبيعة هذه العملية الواسعة وتوقيتها، لا تمثل نوعا من الانتقام ورد الفعل على إطلاق الحوثيين صاروخين على إسرائيل لم يعرف مصيرهما كالعادة، ولكن ليوجه تحذيرا أخيرا للحوثيين، على ما يبدو، بأن أي تصعيد جديد من قبلهم يمكن أن يقود إلى عمليات عسكرية واستخبارية أوسع نطاقا من هجمات إسرائيل السابقة على مناطق سيطرة الحوثيين في صنعاء أو الحديدة، فوزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس هدد بصراحة من جانبه بأن "التعامل مع الحوثيين في اليمن سيكون كما جرى مع إيران" وربما توجد لدى وزارته خطط جاهرة للتعامل مع سيناريو كهذا، كما سبق أن صرح بذلك، بناء على تعليمات سابقة قال إنه تلقاها من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

لكن الجماعة سرعان ما عادت إلى توعد الولايات المتحدة وإسرائيل بالتصدي لمقاتلاتهما الشبح "إف-35" إلى جانب إعلان مسؤوليتها عن إغراق السفينة البريطانية "ماجيك سي".

ما هي سيناريوهات المواجهة؟

الواضح أن الطرفين، الإسرائيلي والحوثي، لا يعرفان بعضهما (جيدا) من نواح كثيرة مطلوبة في الحروب.. أولها أن إسرائيل في حيرة من أمرها فهي تعلم أن اليمن بلد منقسم، والحوثيون لا يمثلون سوى أنفسهم وبعض من طائفتهم (الزيدية) وثانيها، أن الحوثيين ليسوا دولة لها نظامها السياسي ومؤسساتها على غرار لبنان، رغم تواضع حالته وانقساماته لكن هناك دولة على الأقل يمكن التخاطب معها.

ثالثا، أن الحوثيين ليسوا جيشا له عقيدة عسكرية ومعسكرات ومواقع ويلتزم بالدفاع عن سيادة اليمن على أراضيه وعن مصالحه، بل مجرد (ميليشيات) مرتبطة عقائديا بالولي الفقيه في طهران، وتعمل بطرق غامضة وسط المدنيين، وفي الكهوف والتحصينات الجبلية وفي سراديب خرسانية تحت الأرض، وتطلق صواريخها ومسيراتها، كما يتهمها البعض، من مدارس وأحياء سكنية، وتحاول قتال عدو بعيد بحجة نصرة غزة التي لم تكن أصلا في أجندتها إلا منذ قررت إيران إنشاء ما سمته "محور المقاومة" أو جبهة الإسناد لغزة اللذين ضما إلى جانب "حزب الله"، الحوثيين والفصائل الشيعية في العراق وسوريا.

إسرائيل في حيرة من أمرها فهي تعلم أن اليمن بلد منقسم، والحوثيون لا يمثلون سوى أنفسهم وبعض من طائفتهم (الزيدية). وثانيها، أن الحوثيين ليسوا دولة لها نظامها السياسي ومؤسساتها

رابعا، أن اليمن في الواقع ليس دولة حدودية مجاورة لإسرائيل أو المناطق الفلسطينية المحتلة، فضلا عن أن طبيعته الجغرافية الوعرة والمعقدة، وبعده الخرافي عن إسرائيل بما يزيد على ألفي كيلومتر، إنما يخدم الحوثيين، بما يجعل من الطبيعة فيه كأنها تقاتل إلى جانبهم، الإسرائيليون مثل الأميركيين، لم تعد لديهم لهذا السبب أهداف جديدة، ولهذا فإنهم يقصفون ذات الموانئ والمطارات التي تكرر استهدافها سواء خلال الهجمات الأخيرة أو من خلال الغارات الجوية الأميركية والبريطانية، ومن غير المستبعد أنه تم إخلاء تلك المنشآت قبل مهاجمتها، ليبدو أن الهدف، إسرائيليا أو أميركيا بات بالنتيجة هو منع الحوثيين من إعادة تأهيلها والاستفادة منها كمطار صنعاء مثلا، وتدمير رافعات ومرافق موانئ الحديدة حتى لا تعود قابلة لاستقبال حتى شحنات النفط الضرورية للحؤول دون تمكين الحوثيين من تدويرها في السوق السوداء كما اعتادوا على ذلك في السابق لتمويل مجهودهم الحربي، وفقا للرواية الأميركية.

إذن فإسرائيل والحوثيون كلاهما يحارب طواحين الهواء، ولا يحقق أي هدف من وراء هذه المواجهة العبثية، فلا إسرائيل ولا الولايات المتحدة قادرتان على كسر شوكة الحوثيين وإزالتهم من المشهد، دون عمليات برية تقوم بها قوات وطنية يمنية موحدة وبقيادة واحدة وبدعم عسكري واستخباري ولوجستي من قبل الولايات المتحدة والإقليم، كما نصحهما بذلك محللون عسكريون حتى في واشنطن ولندن وغيرهما في أوروبا والشرق الأوسط.

أ.ف.ب
مسلحون يمنيون خلال مسيرة تضامنية مع أهالي غزة، في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين في 24 نوفمبر2023

ولا الحوثيون في المقابل قادرون على إنقاذ سكان غزة من الإبادة الجماعية، ولا الضفة الغربية من خطر الاستيطان والضم، ولا الإضرار بإسرائيل بأي قدر بما بقي في ترسانتهم من صواريخ ومسيرات لا يعرف حجمها أو عددها أو أماكن تخزينها وإخفائها.

نقطة أخرى مهمة وهي أن قتال الحوثيين لإسرائيل والغرب، لا يحظى بالتأييد في نظر غالبية اليمنيين، ولا يمثل تعبيرا عن موقف اليمن الرسمي والشعبي الذي لا يعترف بإسرائيل، بل يتعاطف بشدة مع الفلسطينيين ضدها، ويعتبر منذ البداية أن قرار الحوثيين بالحرب معها هو قرار سيادي يخص الدولة اليمنية ببرلمانها وحكومتها ولا يمكن لجماعة مسلحة بعينها احتكاره ومصادرته والانفراد وحدها باتخاذه تحت أي ذريعة.

إسرائيل والحوثيون كلاهما يحارب طواحين الهواء، ولا يحقق أي هدف من وراء هذه المواجهة العبثية

لقد تسبب انخراط جماعة الحوثيين في الحرب مع إسرائيل واستهدافها للسفن التجارية وناقلات النفط والغاز العابرة لمضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن.. تسبب في ردود فعل عنيفة من قبل الغرب، وخصوصا من قبل الولايات المتحدة ما ألحق أبلغ الضرر بالمصالح الحيوية، سيما الموانئ والمطار ومحطات توليد الكهرباء، وتسبب في نقمة شعبية متزايدة على الحوثيين بسبب كلفتها على الشعب اليمني ومصالحه، وذلك بصرف النظر عن المظاهرات التي يجرى تسييرها لتأييد مواقف الحوثيين إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة والشعارات التي ترفع خلالها، ولا تعني شيئا لليمنيين المعروفين بعواطفهم الدينية تجاه الفلسطينين منذ قيام إسرائيل وحتى اليوم.

تهديدات ومبالغات

يكرر الحوثيون تهديداتهم، التي ينظر إليها كثيرون في الغرب على أنها غير واقعية أو عملية، وذلك لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا، ملوحين أحيانا باستهداف بعض دول الجوار إذا هي قدمت أي تسهيلات لاستهدافهم، وبهذا يثبت الحوثيون أنهم لا يفهمون صورتهم جيدا لدى الآخرين، ولا يكترثون لردود فعل تلك القوى الدولية بل إن تلك التهديدات باتت تثير الكثير من السخرية والتندر لدى كثير من الأوساط في تلك الدول إزاء التمارين الإنشائية، وطريقة إلقائها الحماسية من قبل المتحدث العسكري باسم الجماعة نيابة عن (القوات المسلحة اليمنية) التي تفكك جيشها على يد الرئيس السابق (عبد ربه منصور هادي) قبل أن يتبعثر هذا الجيش في أنحاء مختلفة من البلاد، أغلبه في محافظتي حضرموت ومأرب، أما ما تبقى من ذلك الجيش فمجموعة محاربية الحوثيين إلى جانب جحافل من رجال القبائل الذين تم تدريبهم على يد خبراء الحرس الثوري الإيراني و"حزب الله" اللبناني وفق بعض الصور ومقاطع الفيديو التي جرى تداولها حينذاك.

ما يحدث اليوم بين إسرائيل والحوثيين هو نوع من الكوميديا السوداء، حيث يدرك الطرفان أن المواجهة بينهما غير متكافئة، ومع هذا يعرفان أنه ليس بقدرة أحدهما هزيمة الطرف الآخر، وأن ما يحدث عمليا هو محاولة تل أبيب استعراض قوتها بالسيطرة على أجواء المنطقة وفرض رؤيتها السياسية على بعض دولها بدعم من الولايات المتحدة، وهي تعلم أن ذلك مستحيل الحدوث كما تحلم.

ما يحدث اليوم بين إسرائيل والحوثيين هو نوع من الكوميديا السوداء، حيث يدرك الطرفان أن المواجهة بينهما غير متكافئة، ومع هذا يعرفان أنه ليس بقدرة أحدهما هزيمة الطرف الآخر

ومن جانبهم يحاول الحوثيون بدورهم تقديم أنفسهم بديلا عن "حزب الله" اللبناني الذي مني مع إيران بهزيمتين مذلتين وأدركا أنهما تلقيا درسا مريرا لا بد من التعامل معه بحذر ومرونة ووعي، بينما الحوثيون لا يبدو أنهم استوعبوا بعد جوهر المتغيرات التي جرت في كل من سوريا ولبنان والترتيبات القائمة لمستقبل العلاقة مع (الجارة) إسرائيل، وحتى على صعيد الوضع في غزة الذي يقول الحوثيون إنهم يستميتون بشدة في نصرتها، ولا ندري بعد كل ذلك إلى أين سيوجهون صواريخهم وطائراتهم المسيرة، خصوصا بعد مغادرة خبراء الحرس الثوري و"حزب الله" الذين يؤكد البعض أنهم كانوا هم من ينفذ أو يشرف على إطلاق الصواريخ الباليستية والمسيرات، فيما كان دور المسلحين الحوثيين هو تأمين أماكن الإطلاق، إلا أن آخرين لا يوافقون على هذا الرأي ويرون أن العمل كان مشتركا بين الأطراف الثلاثة، الحوثيين و(ضيوفهم) المدربين الإيرانيين واللبنانيين.

رويترز
تصاعد الدخان من موقع الغارات الجوية الإسرائيلية على ميناء الحديدة

الأرجح أنه بعد تسوية الوضع في غزة، واستكمال ترتيبات تطبيع العلاقات بين إسرائيل وسوريا ولبنان أن تزداد إيران انكفاء على نفسها وتضميد جراحها، وأن يجد "حزب الله" اللبناني نفسه في مواجهة غير محسوبة النتائج ولا مفتوحة الخيارات لتسليم سلاحه الذي هو أساس وجوده في المعادلة اللبنانية خصوصا أن ما هو مطلوب من بيروت هو أن تتكفل هي بمعالجة هذا الملف بنفسها، وما هو متوقع من الحوثيين هو أن يعودوا للحرب مع الداخل اليمني، فهم في الأساس (مشروع حرب) أعد عدته لما بعد كل حرب، لكن الآخرين في اليمن مجتمعين أو منفردين استعدوا لذلك أيضا.

font change