هل تخلى ترمب عن اليمن لإيران والحوثيين؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
عناصر من تنظيم "الحوثي" ينفذون هجوما على سفينة الشحن "ماجيك سيز" التي ترفع علم ليبيريا في البحر، في 8 يوليو 2025

هل تخلى ترمب عن اليمن لإيران والحوثيين؟

خطيرة ومقلقة لأغلب دول العالم، تلك الهجمات التي شنتها مؤخرا جماعة الحوثيين الموالية لإيران في البحر الأحمر، وأسفرت عن إغراق السفينة "إترنيتي سي" قبالة الحديدة، واحتجاز عدد من بحارتها، وفقا لبيان السفارة الأميركية لدى اليمن، وذلك بعد أيام فقط من إغراق سفينة "ماجيك سيز".

تبرهن هاتان الحادثتان وما سبقهما من هجمات على فشل دولي ذريع في التعامل مع ممارسات هذه الجماعة التي استأنفت أنشطتها في المياه الدولية، وذلك بذريعة نصرة قطاع غزة في مواجهة تعنت إسرائيل، في الوقت الذي تنشط فيه وساطات مكثفة لإنهاء الحرب في القطاع.

الواضح أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة وبريطانيا، أخفق مرة أخرى في إجبار الحوثيين على تغيير سلوكهم "المزعزع لأمن وسلامة الملاحة الدولية" في ممر مائي حيوي مهم للعالم بأسره.

مؤشرات وتحذيرات

في الأسبوع الماضي تزايدت التقارير التي تتحدث عن تنامي القدرات الصاروخية وغيرها من الإمكانات لدى الحوثيين أكثر من أي وقت مضى، كما تقول تلك التقارير. والواقع أن العالم لم يكن بحاجة إلى التأكد من هذا بعد أن وفر الحوثيون أنفسهم الدليل القاطع على ذلك بالصوت والصورة، وبشكل استعراضي (هوليوودي) ليكشفوا عن قدراتهم تلك.

لكن هذه القدرات لم تكن في الواقع وليدة اللحظة، ولكنها كانت قد تطورت بسرعة على يد إيران منذ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسميا في الـثامن من مايو/أيار عام 2018 انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقع مع إيران في باريس عام 2015، لتشعر معه طهران بالخطر، ولتقول بصريح العبارة على لسان أكثر من مسؤول رفيع فيها إنه "لم تعد هناك إمكانية للوثوق بالولايات المتحدة، خصوصا في ظل رئاسة ترمب".

أخطأت بريطانيا، التي أمسكت بالملف اليمني في مجلس الأمن الدولي بعد تخلي ترمب عنه خلال ولايته الأولى، عندما دعمت بقوة منع استعادة القوات الحكومية اليمنية لمحافظة الحديدة الاستراتيجية

منذ ذلك الحين عمدت إيران، بشكل ممنهج ومدروس وشبه سري، على رفع وتفعيل القدرات العسكرية لأذرعها، خصوصا في اليمن، ذلك البلد القصي الذي تصعب مراقبة أنشطتها فيه، والغارق في أتون حرب داخلية لم تخف إيران خلالها دعمها لمن تسميهم "أنصار الله" الحوثيين في مواجهة خصومها في الداخل والإقليم، لكن الحقيقة هي أن طهران كانت تتحسب ليوم لا بد أن يشهد مواجهة مؤكدة مع الولايات المتحدة، طال الزمن أم قصر، ولا بأس لديها في هذه الحالة من أن تستخدم أذرعها في المنطقة لتأجيل تلك المواجهة قدر ما تستطيع ولأطول وقت ممكن.

أ.ف.ب
أعمدة دخان تتصاعد جراء انفجارات على سفينة الشحن "ماجيك سيز" التي ترفع علم ليبيريا، والتي هاجمها مقاتلون تابعون للحوثيين في البحر، في 8 يوليو 2025

بداية الإخفاق في اليمن

لنفهم الأمر أكثر، يحسن بنا أن نتذكر أسباب ذلك، فقد أخطأت بريطانيا، التي أمسكت بالملف اليمني في مجلس الأمن الدولي بعد تخلي ترمب عنه خلال ولايته الأولى، عندما دعمت بقوة منع استعادة القوات الحكومية اليمنية لمحافظة الحديدة الاستراتيجية، بعد أن كانت هذه القوات قد أطبقت الخناق على الحديدة، ودفعت لندن من خلال الضغط الدبلوماسي المكثف نحو التوصل إلى ذلك باتفاق استكهولم أواخر عام 2018، وهو الاتفاق الذي تحايل عليه الحوثيون منذ اللحظة الأولى لبدء تنفيذه، وذلك عبر الالتفاف على كل الآليات التي حددها لضمان تطبيقه، وفي مقدمتها آلية الرقابة والتفتيش في ميناء جيبوتي على السفن المتوجهة إلى ميناء الحديدة للتحقق عبر لجنة خاصة من عدم احتواء تلك السفن على أسلحة أو معدات عسكرية قد يتم تهريبها للحوثيين من إيران التي كانت ترسل شحنات من النفط لدعمهم.

خلال الأشهر الأخيرة نجحت سلطنة عُمان في إقناع الرئيس الأميركي بوقف حملته العسكرية الواسعة على الحوثيين مقابل توقف الجماعة عن استهداف السفن الحربية والتجارية الأميركية

نوايا في غير محلها

الخطأ ذاته وقعت فيه إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، عندما قررت التخفيف من تصنيف جماعة الحوثيين من "منظمة إرهابية أجنبية" إلى مجرد "منظمة إرهابية" وقامت بتعيين تيم لندركنغ مبعوثا خاصا لها إلى اليمن، أملا في "استدراج" الحوثيين إلى مربع التفاوض من أجل السلام، حيث بدت إدارة بايدن كأنها لا تدري أن "جهاز التحكم" في قرار هذه الجماعة ليس بيدها، بل في إيران، التي حاولت التذاكي بالقول لكل من ناشدها التدخل الإيجابي في الصراع اليمني إن "من يطلب من طهران الضغط على الحوثيين للاستجابة لنداءات السلام إنما طرق الباب الخطأ". ولم يكن هذا القول سوى مغالطة كبرى تصر عليها إيران حتى اليوم رغم ما كشفت عنه أحداث السنوات الأخيرة من استمرارها في تهريب السلاح والتقنيات المتطورة والخبراء إلى الحوثيين بطرق ملتوية، وفق ما أكدته بيانات وتقارير دولية عدة.

استطاعت إيران، منذ نحو عقدين من الزمن، خلق أمر واقع، نشاز وغير مستقر في اليمن، معتمدة على حلفائها الحوثيين، الجماعة المذهبية، التي مكنها الدعم الإيراني المتنوع الأشكال من الصعود بقوة لتصبح قوة تعذر كسرها خلال حروبها الست مع الداخل اليمني، وخلال حرب السنوات السبع التي شارك فيها تحالف عسكري عربي، أو حتى بعد الضربات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية لمناطق سيطرتها.

إيهام ترمب

وخلال الأشهر الأخيرة نجحت سلطنة عُمان في إقناع الرئيس الأميركي بوقف حملته العسكرية الواسعة على الحوثيين التي استمرت من 15 مارس/آذار من العام الجاري حتى صباح الأحد 16 من الشهر نفسه، وذلك مقابل توقف الجماعة عن استهداف السفن الحربية والتجارية الأميركية، لكن هذا التفاهم أبقى على حق الحوثيين في استهداف إسرائيل بذريعة مساندة قطاع غزة، ليبقى فتيل الحرب مشتعلا، إذ ما لبثت الجماعة أن عادت إلى استهداف وقرصنة السفن التجارية في البحر الأحمر، بما فيها تلك التي كانت ترفع العلم البريطاني.

استدراك متأخر

جاءت إدانة واشنطن، عبر سفارتها لدى اليمن، لهجمات الحوثيين الأخيرة في البحر الأحمر غير حازمة ولا كافية حتى وإن قال بيان للسفارة الأميركية لدى اليمن إن "الهجمات الحوثية الأخيرة في البحر الأحمر وتنسيقهم (الحوثيين) مع إيران لضرب إسرائيل يبرهن على الحاجة إلى يقظة مستمرة من جانب مجلس الأمن، الذي يجب أن يتحرك لإنهاء التعنت الذي يعيق الأداء الكامل لفريق الخبراء المعني باليمن".

كذلك أثارت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي سجالا مع المندوب الروسي حول فاعلية عمل بعثة "أونما" الأممية في الحديدة، لكن كل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد (كلام سياسي) في محاولة لتصحيح خطأ الحسابات الأميركية في التعامل مع الحوثيين، وذلك أمام العالم.

المتوقع أن يظل اليمن المنكوب، معزولا عن كل ما يجري، ومتروكا بلا "يوم تال" كغيره من دول المنطقة التي تبحث عن موقع في النظام الإقليمي الجديد المرتقب

إسرائيل تستغيث

وبحسب ما ذكرته وسائل إعلام إسرائيلية فإن تل أبيب طلبت الأسبوع الماضي من واشنطن العودة للتدخل في شن ضربات جوية على مناطق سيطرة الحوثيين، سيما بعد الهجمات "الإرهابية" الأخيرة لهؤلاء في البحر الأحمر التي استهدفت سفنا (تجارية) عابرة في المياه الدولية، ويرجح محللون أن تعود واشنطن إلى ذلك إذا ضمنت مشاركة دول غربية حليفة في هذه العملية لخفض كلفة تدخلها، وفي حال توفرت لديها معلومات جديدة بشأن ما يمكن استهدافه، غير أن مسؤولا أميركيا كبيرا قال "إن واشنطن لن تتدخل إلا إذا خرق الحوثيون اتفاقها معهم واستهدفوا سفنا أميركية، الأمر الذي جرى فهمه على أنه نوع من الخذلان والأنانية من جانب الولايات المتحدة يغري الحوثيين بالاستمرار في اعتداءاتهم على حرية وسلامة الملاحة البحرية في البحر الأحمر.

هل تخلت واشنطن عن اليمن؟

هكذا يبدو ذلك جليا، لكن الصورة أوسع من ذلك، إذ قال الرئيس دونالد ترمب إن إدارته "تخطط لتسهيل التوصل لتسوية سلمية في السودان وليبيا" دون أي إشارة إلى الصراع القائم في اليمن الذي أدى تجاهل أزمته إلى ما نحن عليه اليوم من فوضى أمنية تمس أمن المنطقة والعالم وليس هذا البلد وحده، في حين لم تطلق أي جهة في السودان أو ليبيا رصاصة واحدة على أي سفينة.

كيف نقرأ المشهد الآن؟

في عموم الشرق الأوسط نلحظ حراكا واسعا، سياسيا ودبلوماسيا وحتى عسكريا وأمنيا لإعادة ترتيب المشهد بعد الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان وإيران، والتدخل العسكري الأميركي المباشر والحاسم لإنهاء هذه التوترات كذلك بالطرق الدبلوماسية أيضا.

أ.ف.ب
سفينة الشحن "إيترنيتي" التي ترفع علم ليبيريا وهي تغرق بعد تعرضها لهجوم بحري من قبل الحوثيين، في 8 يوليو 2025

غير أن اليمن (غير السعيد) يظل الغائب الأكبر في كل هذه التطورات، والحاضر فقط في بقائه خارجها وفي معزل عنها بحجة صراعاته الداخلية واستمرار المواجهة بين جماعةِ الحوثيين الموالية لطهران وإسرائيل التي يُرجح أن موعد تصفية حسابها مع الجماعة لم يحِن بعد حتى الانتهاء من إعداد خططها لذلك.

ونتيجة لهذا، فالمتوقع أن يظل اليمن المنكوب، حتى إشعار آخر، معزولا عن كل ما يجري، ومتروكا بلا "يوم تال" كغيره من دول المنطقة التي يجهد كل منها اليوم في البحث والعمل على تحديد موقعه في النظام الإقليمي الجديد المرتقب، بما في ذلك إيران نفسها، الداعم الرئيس للجماعة الحوثية، ما معناه أن اليمن سوف يكون خارج هذه التسويات، كما لو كان في كوكب آخر وليس جزءا من المنطقة.

font change

مقالات ذات صلة