حرب أميركا على "الحوثيين"... جردة حساب للربح والخسارة

قد تكون الجماعة جانبت الصواب في اعتقادها بأن وقف الغارات الأميركية دون الإسرائيلية هو "الأهم"

أ.ب
أ.ب
ناقلة نفط مشتعلة بعد غارات جوية أميركية استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي الذي يسيطر عليه الحوثيون في الحديدة، اليمن، 18 أبريل

حرب أميركا على "الحوثيين"... جردة حساب للربح والخسارة

جيد أن تتوقف الهجمات المتبادلة، وغير المتكافئة، بين جماعة الحوثيين الموالية لإيران وكل من القوات الأميركية والجيش الإسرائيلي، سواء باتفاق أو بنصف اتفاق، مؤقتا أو دائما، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المرافق والمنشآت المدنية "الوطنية" اليمنية العامة التي طالتها الحرب على الحوثيين، وفي مقدمتها الموانئ والمطارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من الأصول المدنية التي يُتهم الحوثيون باستخدامها لأغراض عسكرية.

الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين الولايات المتحدة والحوثيين، بوساطة عمانية، غير مكتوب أو موقَّع عليه، بل غير واضحٍ أو شاملٍ ولا ينهي المواجهة بين الطرفين، ولا يمنع من استئنافها، وربما تم بنوع من الطُّعم أو دس السم في العسل، قدمته إيران لواشنطن على "طبق" من وقف هجمات الحوثيين على خطوط الملاحة البحرية وإسرائيل، وإن كانت مصادر الحوثيين تؤكد أن الأخيرة غير مشمولة بالاتفاق، في حين أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن عدم اكتراثه بالأمر، وأن إسرائيل ليست بحاجة إلى أخذ الإذن من أحد لمهاجمة الحوثيين.

القرار الأميركي بوقف الحرب جاء، على الأرجح، أملا في "التهدئة" قبيل زيارة الرئيس دونالد ترمب للمنطقة، غير أن الأمر يتطلب وقفة لقراءة أكثر عمقا لنتائج الحملة العسكرية الأميركية-الإسرائيلية على مناطق سيطرة الحوثيين، وما إذا كانت قد حققت أهدافها، وما هي كلفتها وعواقبها ومضاعفاتها على مستقبل اليمن "غير السعيد" بكل ما جرى ويجري.

قال الرئيس الأميركي إن قراره بوقف الحرب جاء بعد إعلان الحوثيين "الاستسلام" ووقف هجماتهم البحرية على السفن واستهداف إسرائيل، فيما لم يصدر عن الحوثيين تعليق على ذلك، لكن بعض أوساط الجماعة صوَّرت قرار ترمب بإيقاف الحرب بأنه جاء نتيجة لتعذر منع هجمات الجماعة.

استسلام بشروط أو لا شروط

لا نعلم الكثير عن بنود الاتفاق الأميركي-الحوثي، وماذا يمكن البناء عليه مستقبلا، وذلك باستثناء ما صرح به الرئيس الأميركي، وما أشار إليه المتحدث باسم الجماعة الحوثية محمد عبدالسلام، بأنه تم بعد "مراسلات" واتصالات قادتها مسقط، العاصمة العمانية، عن طريق غير مباشر، لكننا نستنتج من ذلك أن هذا الاتفاق كان ظرفيا وجزئيا، ولا يمكن التعويل عليه كثيرا، بأي حال.

من المؤكد أن الضربات الصاروخية الأميركية، خصوصا، قد ألحقت ضررا بالغا، ماحقا ومؤلما، بالقدرات العسكرية للحوثيين، ماديا وبشريا، حتى وإن كنا لا نملك تقييما محددا لهذه المحصلة من الخسائر

كلفة الحرب أميركيا

لا بد أن تكون واشنطن قد أنفقت الكثير من المال والوقت والجهد على عملياتها العسكرية في اليمن، فالحرب في نهاية المطاف "مكلفة" لكنها بالنسبة للولايات المتحدة فاتورة على فائض القوة والثروة، بخلاف كلفتها التي دفعها اليمنيون من نخاع عظمهم الهش ومقدراتهم الشحيحة التي توفرت لهم بصعوبة في الماضي من خلال القروض الثقيلة وبعض المساعدات المتواضعة والنادرة.

ما مقدار الربح أمام الخسارة؟

عاد اليمن 60 عاما إلى الوراء بعد أن دمرت الحرب الأميركية-الإسرائيلية المنسقة مع بريطانيا معظم- إن لم يكن جميع- بُناه التحتية الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين في الشمال الغربي من البلاد بما في ذلك بعض مناطق الوسط أيضا التي أصبحت جميعا بلا موانئ ولا مطارات ولا محطات كهرباء ولا مصانع أو خدمات عامة.

رويترز
ناقلة النفط "كورديليا مون" تشتعل فيها النيران بعد إصابتها بصاروخ في البحر الأحمر قبالة ميناء الحديدة اليمني في 1 أكتوبر 2024

كلفة عالية دفعها اليمن ثمن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وسوف يحتاج إلى عقود أخرى من الزمن لتعويضها، وإلى عشرات، بل إلى مئات المليارات التي يصعب توفيرها لإعادة إعمار وإصلاح ما تسببت فيه "مغامرات" الحوثيين دون تحقيق أيٍّ من أهدافها، فلا غزة التي اتخذوا من نصرتها نجت من جبروت إسرائيل، ولا "محور المقاومة" استفاد من إسنادهم له، ولا إيران تجنبت الضغوط الشديدة عليها.

الأهداف العسكرية

من المؤكد أن الضربات الصاروخية الأميركية، خصوصا، قد ألحقت ضررا بالغا، ماحقا ومؤلما، بالقدرات العسكرية للحوثيين، ماديا وبشريا، حتى وإن كنا لا نملك تقييما محددا لهذه المحصلة من الخسائر، بسبب تكتم الحوثيين عليها، ولعدم إفصاح الأميركيين عما لديهم من معلومات استخبارية بشأنها، لكن الوقت كفيل حتما بالكشف عنها، طال الزمن أم قصر، لكن ثمة معلومات أولية شبه مؤكدة تشير إلى مقتل عدد من القيادات الحوثية المسؤولة عن تصنيع وتطوير منصات إطلاق الصواريخ والمسيَّرات.

كعادة الجماعات الدينية المتطرفة، لا يهمها غير ذاتها وتلميع صورتها تحت أي شعار، حيث يوهم الحوثيون أنفسهم وأنصارهم بأنهم حققوا "انتصارا" بقبول ترمب وقف الحرب مقابل إيقافهم الهجوم على السفن الأميركية

قد يمنح وقف الحرب الحوثيين فرصة لالتقاط الأنفاس، لكن هذه "الأنفاس" ستظل تحت المراقبة والإحصاء، فالوجود العسكري الأميركي في البحر الأحمر وباب المندب لا يزال قائما، وأقماره الاصطناعية تعمل ليل نهار، والأصابع باقية على الزناد للتعامل مع أي خرق للإعلان العماني بخصوص وقف تبادل الهجمات الأميركية مع الحوثيين.

من وجهة نظر خبراء عسكريين، قد يكون الحوثيون جانبوا الصواب في اعتقادهم بأن وقف الغارات الأميركية دون الإسرائيلية هو "الأهم" رغم علمهم بأن الأخيرة هي الأسوأ والأشد فتكا في حال استمر استهدافهم لإسرائيل، إذ إن هذا من شأنه إطلاق يد بنيامين نتنياهو للقيام بما هو أشد مما فعله في الهجمات السابقة على الأراضي اليمنية وليس على الحوثيين فقط.

كثير من المخاوف اليوم أن يكون الحوثيون قد "امتلكوا أسلحة روسية عالية الفعالية لإسقاط الطائرات الأميركية ومهاجمة البوارج" ما قد يزج باليمن والمنطقة في أتون حرب شبه عالمية أوسع نطاقا.

أ ف ب
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ينظر إلى وزير الدفاع بيت هيغسيث خلال اجتماع مجلس الوزراء بالبيت الأبيض في 10 أبريل 2025. وكان هيغيست شارك معلومات حول ضربات أميركية ضد الحوثيين في موقع "سيغنال"

الخسائر المادية

كلفة الحرب التي شنها الجيش الأميركي على جماعة الحوثي تمثلت تقريبا حتى الآن في الآتي:
 أولا، تدمير كلي لموانئ البلاد الرئيسة الثلاثة على الساحل الغربي (ميناء الحديدة التجاري والتاريخي، ميناء "الصليف" الشهير بإنتاج وتصدير الملح، وكذلك ميناء رأس عيسى النفطي، وما ترتب على قصف مستودعاتها من تسرب للنفط وتلويث للبيئة البحرية، والإضرار بالثروة السمكية، مصدر الرزق الأساسي لسكان محافظة الحديدة كاملة.

 ثانيا، نسف مطار صنعاء الدولي بكل مرافقه ومعداته وتجهيزاته وطائرات مدنية ثلاث "مختطفة" كانت جاثمة على أرضه، وذلك بعد تدمير وإخراج مطار الحديدة الدولي عن الخدمة.

ثالثا، تدمير محطات توليد الطاقة الكهربائية في صنعاء ومحيطها مثل "ذهبان وسنحان والحديدة" ذات الأهمية البالغة.

رابعا، القضاء على أهم المصانع الاستراتيجية ذات الطبيعة التنموية كمصانع الإسمنت في كل من "عَمران شمال صنعاء، وباجِل في محافظة الحديدة، والبَرح في محافظة تعز".

خامسا، إتلاف معظم شبكات الاتصالات في عموم المناطق الشمالية الغربية للبلاد الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
على الصعيد الإنساني، ألحقت الغارات الأميركية والإسرائيلية دمارا بالكثير من الأحياء السكنية والمراكز الخدمية في محافظات عدة ذهب ضحية استهدافها مواطنون مدنيون أبرياء
غالبيتهم من النساء والأطفال.

تسببت مشاهد ودوي الانفجارات الناجمة عن الغارات الأميركية المكثفة في حالة عامة من الذعر والهلع في أوساط السكان القاطنين في مناطق سيطرة الحوثيين، خصوصا أنها استهدفت أحياء سكنية، يُعتقد أن بعض قيادات الجماعة عمدت على الاختباء فيها، وربما تعرضت لسقوط قذائف خلال محاولة المسلحين الحوثيين اعتراض بعض طائرات الاستطلاع الأميركية المسيَّرة.

وأوضحت الصور ومقاطع الفيديو المتداولة جحيما هائلا من الحمم والنيران وسحب الدخان التي ربما كانت متعمدة لبث الرعب والفزع في إطار حرب نفسية موازية للعمل العسكري ما أدى إلى اضطرابات ذهنية خصوصا لدى النساء والأطفال وكبار السن، بحسب ما نقلته تقارير صحية وإفادات شهود عيان.

العواقب السياسية

كعادة الجماعات الدينية المتطرفة، لا يهمها غير ذاتها وتلميع صورتها تحت أي شعار، حيث يوهم الحوثيون أنفسهم وأنصارهم بأنهم حققوا "انتصارا" بقبول ترمب وقف الحرب مقابل إيقافهم الهجوم على السفن الأميركية العسكرية والتجارية عبر اتفاق "لا يشمل إسرائيل" ما لم توقف الأخيرة حربها على غزة، لكن الواقع أن حكومة نتنياهو قررت في الوقت نفسه "توسيع" حربها على قطاع غزة، بل واحتلاله أيضا.

لا ينفك الحوثيون في بياناتهم السياسية والعسكرية يكررون وصف أنفسهم بـ"ممثل" عن اليمن، ويتحدثون باسم قواته المسلحة، وهذا أمر من وجهة نظر القانون الدولي لا يزال فيه نظر

من حق الحوثيين مثل الأميركيين الادعاء بما يشاءون من إنجازات، فـ"الهرج" كما يقال نصف القتال، لكن الكلام لم ولن يكون بعد كل ما جرى "سلعة بلا ضرائب" بل سوف تترتب عليه في المستقبل مسؤوليات وتعويضات، مادية وأخلاقية وتاريخية، وفق بيانات الطرفين التي ترصدها وتوثقها جهاتٌ حقوقية ومراكز بحث ومراقبة دولية عدة، سوف تستوجب، يوما ما، المساءلة والمحاسبة والتعويض وحتى العقوبات.

أ.ف.ب
يمنيون يرفعون مجسم لطائرات مسيرة وبنادق تقليدية خلال مسيرة تضامنية مع الفلسطينيين وقطاع غزة، اليمن في 2 مايو

مستقبل التصنيف بالإرهاب

من المستبعد وغير السهل في المدى المنظور أن تبادر الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إلغاء تصنيف جماعة الحوثيين كـ"جماعة إرهابية أجنبية" ما لم يتم ذلك من خلال صفقة سلام كبرى تتوصل إليها واشنطن والقوى الغربية الحليفة لها مع إيران حول برنامجيها النووي والصاروخي، وهو أمر غير متوقع ولا مرجح في ضوء المعطيات والمؤشرات القائمة بخصوص المفاوضات الجارية مع طهران.

الأرجح في نظر خبراء غربيين أن يظل الحوثيون إلى أمد غير قريب جماعة "منبوذة ومعزولة" ملاحقة وخاضعة لإجراءات عقابية مشددة وقاسية.

في بلد "منقسم" كاليمن الذي تمزقه الحرب، ولا يزال موضوعا تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لا ينفك الحوثيون في بياناتهم السياسية والعسكرية يكررون وصف أنفسهم بـ"ممثل" عن اليمن، ويتحدثون باسم قواته المسلحة، وهذا أمر من وجهة نظر القانون الدولي لا يزال فيه نظر ومحل تباين وخلاف عميق، إذ لا تزال جماعة الحوثيين في نظر كثيرين في الداخل اليمني والإقليم والعالم مجرد "ميليشيات" أو "طرف من بين أطراف يمنية أخرى عدة متنازعة في أحسن حال"، ويتعذر حصولها على الاعتراف بها كنظام حاكم من قبل أي دولة، بما في ذلك ظهيرتها طهران ووسيطتها مسقط، وذلك جراء انقلابها على السلطة الشرعية ورئيسها المنتخب، بقوة السلاح المنهوب، وأشعلت، من وجهات نظر دولية كثيرة، حروبا داخلية وخارجية لا تتلاقى بأي صورة مع المصالح الوطنية العليا لليمن وشعبه أو المنطقة والعالم.

font change