إسرائيل والحوثيون واستراتيجية ترمب المتغيرة

تغييب إسرائيل والصفقات المفاجئة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 7 أبريل

إسرائيل والحوثيون واستراتيجية ترمب المتغيرة

قبل حوالي عقد من الزمن، وبينما كنت في زيارة لإحدى السفارات في إسرائيل، لإطلاع بعض الدبلوماسيين على الوضع الأمني في الشرق الأوسط، وجّه أحدهم إليّ، أنا وزميلي، سؤالا بدا لنا في حينه بالغ الغرابة: ماذا عن الحوثيين؟ هل يُحتمل أن يشكّلوا تهديدا لإسرائيل؟ باغتنا السؤال لوهلة، رغم أن الجماعة كانت قد هدّدت بالفعل بشنّ هجمات على إسرائيل- وهو أمر غير مستغرب، نظرا إلى أن شعارها هو: "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود"- غير أن تلك التهديدات، بدت في ذلك الوقت، مجرد تبجّح صاخب من جماعة معزولة، تقاتل في حرب بعيدة جنوبي الجزيرة العربية.

لكن الأمور تغيّرت كثيرا. في يوم الأحد الموافق 4 مايو/أيار 2025، أطلقت الجماعة اليمنية، المدعومة من إيران صاروخا باليستيا بعيد المدى، سقط في محيط مطار بن غوريون الدولي الإسرائيلي قرب تل أبيب، مسببا انفجارا، وأدى إلى إطلاق صفارات الإنذار في أنحاء وسط إسرائيل. وقد مثّلت هذه الحادثة، لحظة فارقة في مسار التصعيد بين الحوثيين وإسرائيل، وأفضت إلى تعليق مؤقت لرحلات عدد من شركات الطيران الدولية. ورغم أن الصاروخ لم يصب أي طائرة بشكل مباشر، وأدى فقط إلى أضرار مادية طفيفة، وإصابة عدد محدود من الأشخاص، فإن مجرد وصوله إلى حرم المطار الرئيس في إسرائيل يُعد مكسبا رمزيا بالغ الدلالة للحوثيين. وردا على ذلك، شنت إسرائيل سلسلة غارات استهدفت ميناء الحديدة، ومطار صنعاء الدولي، وتعهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحقا بتصعيد الرد الإسرائيلي.

وللتوضيح، لم تكن هذه أول محاولة حوثية لضرب مطار بن غوريون، إذ سبق للجماعة أن زعمت في مناسبات عدة أنها استهدفته. ففي مارس/آذار الماضي، أعلنت أنها نفذت ثلاث هجمات منفصلة ضد المطار، وتباهت بأن أحد الصواريخ أصابه بالفعل. أما في الرابع من مايو، فقد نجح الصاروخ بالفعل في اختراق المجال المحيط بالمطار، مسببا أضرارا محدودة بشرية ومادية، لكنه أربك حركة الملاحة الجوية في البلاد.

ورصدت أنظمة الإنذار المبكر الإسرائيلية الصاروخ أثناء اقترابه، وتم إطلاق صاروخي اعتراض: أحدهما من منظومة "آرو" (Arrow) الإسرائيلية، والآخر من منظومة "ثاد" (THAAD) الأميركية المنتشرة في إسرائيل، وهي نظام دفاعي مخصص، لاعتراض الصواريخ الباليستية على ارتفاعات شاهقة. لكن كلا النظامين فشلا في اعتراض الصاروخ.

وهذه هي المرة الثالثة التي تخفق فيها الدفاعات الجوية الإسرائيلية، رغم دعم بطاريات "ثاد" الأميركية، في التصدي لصاروخ أُطلق من اليمن، من بين عشرات المحاولات الأخرى. وعلى الرغم من أن السجل العام يشير إلى فعالية عالية في التنسيق الدفاعي بين إسرائيل والولايات المتحدة، فإن هذه المنظومات لا تزال عاجزة عن توفير حماية كاملة، خصوصا ضد الهجمات التي تطال منشآت استراتيجية كمطار بن غوريون، والتي تخلّف آثارا رمزية وعملياتية تتجاوز حجم الخسائر المادية.

ولا تزال التحقيقات جارية لتحديد أسباب الإخفاق. ويبدو أن الحوثيين يعكفون على اختبار معايير مختلفة، لتحسين فرص إصابة أهدافهم داخل إسرائيل بأكبر تأثير ممكن. وقد أشار مسؤولون إسرائيليون إلى أن الحوثيين زعموا عقب الهجوم أنهم استخدموا صاروخا جديدا، لكن التقديرات الإسرائيلية ترجّح أنه من الطراز نفسه الذي سبق وأن تم اعتراضه. ومن بين الفرضيات المطروحة أن جزءا من الصاروخ ربما أُصيب، بينما لم تُصب الرأس الحربية المتفجّرة، ما أدى إلى سقوطه وانفجاره داخل محيط المطار.

هذه هي المرة الثالثة التي تخفق فيها الدفاعات الجوية الإسرائيلية، رغم دعم بطاريات "ثاد" الأميركية، في التصدي لصاروخ أُطلق من اليمن، من بين عشرات المحاولات الأخرى

محدودية الدفاع الإسرائيلي

رغم الغارات والردود العسكرية، فإن ردع الحوثيين يظل مهمة عسيرة. فالحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة أسفرت عن تقليص واضح في عدد هجمات الجماعة، سواء ضد إسرائيل أو ضد السفن التجارية، لكن وقفها بالكامل يبدو أنه يتطلب تدخلا بريا.

وقد استهدفت إسرائيل مرارا بنى تحتية في مناطق سيطرة الحوثيين، من بينها ميناء الحديدة، وردت على الهجوم الأخير بشن ضربات أدت إلى إغلاق مطار صنعاء، وتدمير ثلاث طائرات مدنية. ورغم أن هذه العمليات تثقل كاهل الجماعة التي كانت تواجه أصلا اضطرابات داخلية وأزمات اقتصادية قبل اندلاع الحرب في غزة، فمن المستبعد أن تُجبرها على التراجع.

فباعتبارها رأس الحربة الإيرانية في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، تحظى الجماعة بدعم معنوي ومادي متزايد من طهران. كما أن موقعها في قلب الصراع يمنحها غطاء أيديولوجياً لقمع المعارضين، وقد استخدمت تلك المكانة لإطلاق حملات تجنيد موسعة، بهدف تعزيز صفوفها.

غير أن حملة أكثر فاعلية على الحوثيين، تتطلب هجوما بريا من الطراز الذي شهده اليمن خلال ذروة الحرب الأهلية، حين شنّت قوات تابعة للحكومة، المعترف بها دوليا، هجوما ناجحا باتجاه الحديدة. لكن ضغوطا دولية متصاعدة– ارتبطت بمخاوف من تعطل تدفق المساعدات الإنسانية عبر الميناء– أدت إلى وقف الهجوم، وانسحاب تلك القوات إلى جبهات أخرى أكثر إلحاحا.

وفي ظل غياب تدخل بري، لا تملك إسرائيل أدوات كافية لوقف الهجمات الحوثية سريعا. أما شن ضربات دقيقة تستهدف قيادات الجماعة– على غرار ما فعلته إسرائيل مع "حزب الله" فسيستلزم تخصيص موارد استخباراتية وعسكرية كبيرة، لتعقّب تحركات القيادة. وهو ما قد يُبعد إسرائيل عن أولوياتها الأمنية العاجلة، كمتابعة أنشطة "حماس" أو مراقبة التقدم المحتمل في البرنامج النووي الإيراني.

هل إسرائيل وحيدة؟

تفاقمت هذه التحديات مع الإعلان المفاجئ عن "وقف إطلاق النار" بين الولايات المتحدة والحوثيين. فبعد دقائق من تنفيذ إسرائيل لسلسلة من الضربات الجديدة في اليمن، أعلن الرئيس دونالد ترمب أنه أصدر أوامره للجيش الأميركي بوقف عملياته، بعد ما قيل إن الحوثيين وافقوا على وقف لإطلاق النار.

ولم تؤكد الجماعة هذا الادعاء، بل إن بعض المسؤولين الحوثيين أنكروا تصريح ترمب، إلا أن سلطنة عُمان، التي لعبت دورا محوريا في الوساطات بين الحوثيين وإيران، أعلنت التوصل إلى اتفاق يقضي بوقف هجمات الجماعة في البحر الأحمر، مقابل تعليق الضربات الجوية الأميركية.

وقد شكّل الإعلان– الذي صدر خلال مؤتمر صحافي غير ذي صلة جمع ترمب برئيس الوزراء الكندي الجديد– صدمة لإسرائيل، خصوصا أن الاتفاق لم يتضمن أي ذكر لاحتمال وقف الهجمات الحوثية على إسرائيل، ولا ما إذا كانت هذه الهجمات ستُعد خرقا للهدنة. وقد يكون تغييب هذا التفصيل، مقصودا لتجنب إحراج الحوثيين بإجبارهم على الاعتراف الضمني بإسرائيل، أو ربما يشير ببساطة إلى أن الولايات المتحدة لم تضع أمن إسرائيل في الحسبان. ونظرا لمباغتة هذا الإعلان، لا يمكن استبعاد الفرضية الأخيرة، والتي مفادها أن ترمب ترك إسرائيل تواجه مصيرها بمفردها.

وإذا كان الاتفاق محصورا بالبحر الأحمر فقط، فستعتبر إسرائيل ذلك انتكاسة حقيقية. فالهجمات على سفن الشحن كانت قد توقفت في الأشهر الأخيرة، ربما بفعل الحملة الأميركية الموسعة على مواقع الحوثيين، أو نتيجة تركيز الجماعة على ضرب إسرائيل مباشرة. لكن وقف الضربات الأميركية يعني أن الحوثيين سيبقون مصدر تهديد قائم، وقد يستأنفون هجماتهم البحرية متى شاءوا.

شكّل الإعلان- الذي صدر خلال مؤتمر صحافي غير ذي صلة جمع ترمب برئيس الوزراء الكندي الجديد– صدمة لإسرائيل، خصوصا أن الاتفاق لم يتضمن أي ذكر لاحتمال وقف الهجمات الحوثية على إسرائيل

حسابات ترمب

فلماذا إذا أقدم ترمب على هذه الخطوة المفاجئة؟

قد تُعزى إلى تقارير في الصحافة الإسرائيلية أن ترمب ضاق ذرعا بنتنياهو، إذ يتصور أنه "يتلاعب" به فقرر قطع الاتصال معه واتخاذ قرارات أحادية بشأن السياسة الخارجية في المنطقة..

ومن الواضح أن هناك خيبة أمل إسرائيلية من ولاية ترمب الثانية، إذ كانت حكومة نتنياهو تعتقد أن الرئيس الأميركي سيتماهى كليا مع المصالح الإسرائيلية.

لكن من المرجح أيضا أن الإعلان جاء قبيل زيارته المرتقبة إلى الخليج العربي، ما أعطى دفعا للتعجيل بإتمام الصفقة– إن كانت قد أُبرمت فعلا. إذ من المقرر أن يزور الرئيس الأميركي كلا من المملكة العربية السعودية، والإمارات، وقطر، في جولة تهدف إلى اجتذاب استثمارات خليجية كبرى في الاقتصاد الأميركي، واستعراض متانة العلاقات بين واشنطن وحلفائها الإقليميين تحت قيادته.

أ.ب
سقوط صاروخ أطلق من اليمن في محيط مطار بن غوريون الدولي قرب تل أبيب، إسرائيل، في 4 مايو2025

ما يريده ترمب من جولته الإقليمية الأولى في ولايته الثانية، هو تحقيق إنجازات قابلة للتسويق داخليا، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي. فالعناوين اللافتة حول تدفقات استثمارية جديدة تُعد ضرورة ملحة، وآخر ما يرغب به البيت الأبيض، هو أن تُفسد جماعة الحوثي هذه الزيارة بهجمات تطال مصالح أميركية أو ممرات بحرية استراتيجية مثل البحر الأحمر.

يبدو واضحا أن ترمب يسعى جديا إلى إبرام اتفاق مع طهران– أيا كان شكله– حتى لو تطلب الأمر تقديم تنازلات ترى فيها إسرائيل تهديدا وجوديا

قرار ترمب المفاجئ بوقف الهجمات ضد الحوثيين أثار قلقا متزايدا في إسرائيل. إذ يُنظر إليه كإشارة إضافية على أن الرئيس الأميركي عازم على فعل كل ما في وسعه، للتوصل إلى اتفاق مع إيران، مهما كانت كلفته. وكان الانخراط الأميركي العسكري ضد الحوثيين قد اعتُبر، حتى وقت قريب، الدليل الأوضح على جدية واشنطن واستعدادها لاستخدام القوة عند الحاجة. وقد يكون هذا التقدير موضع نقاش، لا سيما أن ترمب صرّح مرارا بنيّته إنهاء الحروب، لا خوضها، لكن التحديات التي واجهتها إيران مؤخرا منحت إسرائيل بعض الطمأنينة.
أما اليوم، فيبدو واضحا، أن ترمب يسعى جديا إلى إبرام اتفاق مع طهران– أيا كان شكله– حتى لو تطلب الأمر تقديم تنازلات ترى فيها إسرائيل تهديدا وجوديا.

font change