إيران... المفاوضات بدلا من الصواريخ

سجادة النفوذ التي حاكتها طهران في منطقة الشرق الأوسط طوال عشرين عاما أصبحت اليوم مقطعة الأوصال

إيوان وايت
إيوان وايت

إيران... المفاوضات بدلا من الصواريخ

يجلس صانع القرار السياسي في إيران إلى طاولة المفاوضات مع واشنطن، يتأمل خريطة المنطقة التي رسم ملامحها بمهارة صانع السجاد الإيراني. ومنحها تسميات تلغي كيان الدول التي تمكن من بسط نفوذه فيها، فأطلق على سجادة نفوذه تارة اسم "محور المقاومة"، وتارة يطلق عليها اسم "محور الممانعة".

سجادة النفوذ الإيراني التي حاكها بخيوط الحرير في منطقة الشرق الأوسط طوال عشرين عاما، يشاهدها الإيراني اليوم مقطعة الأوصال، ولم يتبق منها إلا قطعة واحدة ربما تكون بالية وخيوطها بدأت تتقطع، ترتبط بخارطة العراق. بعد أن تمزقت أوصالها في سوريا ولبنان، وها هي اليوم تتهرَّأ في اليمن.

دخلت إيران في حرب مباشرة مع إسرائيل، بعد أن كانت استراتيجيتها طوال السنوات الماضية تبتعد عن هذه الحرب وجها لوجه. وكانت تعتمد على أذرعها في إشعال دوائر النار حول إسرائيل، وتستخدمها كاستراتيجية للردع. لكن ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ليس مثل ما قبله. إذ وجدت إيران نفسها في مواجهة حقيقية لنفوذها الجيوسياسي ولاستراتيجية استعراض القوة الإيرانية.

لم يكن في مخيلة صانع القرار الإيراني أن لحظة 7 أكتوبر 2023 التي وصفها "المرشد" علي خامنئي بالضرورية للمنطقة- إذ "أفشلت محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني (إسرائيل) وسيطرته على المنطقة"- ستكون نتائجها حربا ضد نفوذ إيران وأذرعها. وهي الحرب التي بدأت باستهداف قيادات "حزب الله" ونفوذه العسكري والسياسي في لبنان، وخسارة حضورها في سوريا، واستمرار القصف ضد الحوثيين بهدف تدمير ترسانتهم العسكرية. ومن ثم، الجلوس إلى طاولة مفاوضات مع واشنطن، ويكون من ضمن نقاشاتها النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

يبدو أن إيران اختارت العودة إلى المبدأ الذي طرحه الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني في 2017 القائم على أساس أن "عالم الغد هو عالم المفاوضات لا عالم الصواريخ"

بعد أن كان السياسيون الإيرانيون يتفاخرون بأن "إيران تسيطر فعلا على أربع عواصم عربية". خسرت سوريا، ولا تريد الاعتراف لحد الآن بنظام الحكم الجديد، وفي لبنان يستدعى السفير الإيراني في بيروت مجتبى أماني من قبل وزارة الخارجية في لبنان وإبلاغه: "عليك الالتزام بالأصول الدبلوماسية". وذلك بعد نشره على حسابه في منصة "إكس" منشورا وصف فيه "مشروع نزع السلاح بالمؤامرة الواضحة ضد الدولة".

وبدأت أولى خطوات فك التشابك الاقتصادي بين بغداد وطهران، بقرار الإدارة الأميركية بعدم السماح للإعفاء الأميركي باستيراد العراق للغاز من إيران. أما صنعاء فتتلقى القصف الأميركي مستهدفا ترسانتها العسكرية التي طورتها إيران.

رويترز
عريف في قوات مشاة البحرية الأميركية، يراقب قوارب قريبة من السفينة الحربية "جون بي. مورثا" أثناء عبورها مضيق هرمز، في بحر العرب قبالة عُمان، 18 يوليو 2019

بين تهديد ووعيد، وتحشيد حاملات الطائرات الأميركية في بحر الخليج العربي. وفي المقابل جلوس إلى طاولة المفاوضات بين واشنطن وطهران بوساطة عُمانية. يبدو أن خيار الحرب ليس مرجحا، أو ربما كان مؤجلا على الأقل حتى الآن.

تدخل إيران مفاوضات مع واشنطن بشأن برنامجها النووي، وهي ثالث مفاوضات تدخلها إيران في سجل تاريخ سياستها الخارجية بعد انتصار الثورة الإسلامية 1979. إذ شهدت إيران أبرز محطتَين تفاوضيتَين: الأولى كانت نهاية الحرب العراقية-الإيرانية في 1988، وصفها السيد الخميني بـ"تجرع كأس السُم". أما المحطة الثانية فكانت الاتفاق النووي الذي عُرِف بـ(5+1) .

ويبدو أن إيران اختارت العودة إلى المبدأ الذي طرحه الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني في 2017 القائم على أساس أن "عالم الغد هو عالم المفاوضات لا عالم الصواريخ".

فطهران التي رفضت العودة إلى التفاوض مع واشنطن بعد إلغاء اتفاق (5+1) من قبل إدارة ترمب في 2018. وكانت تصر على وجود ضمانات للعودة مرة أخرى لطاولة المفاوضات. تعود اليوم من دون وجود هذه الضمانات. لا بل على العكس تحت تهديد استراتيجية "الضغط الأقصى" التي تبنتها إدارة ترمب بعد عودته إلى البيت الأبيض. ووضعها بين خيارين لا ثالث لهما، إما التلويح بالضربة العسكرية وإما القبول بالمفاوضات. وكان تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب واضحا بقوله: "نريد التوصل لاتفاق مع إيران، وأن عليها اتخاذ القرار".

تدير إيران الصراع الآن وفق منطق الدولة وحسابات الربح والخسارة، وبدأت بسحب خطاباتها وشعاراتها الأيديولوجية التي ترفعها ضد أميركا، وبعيدا عن الصدام المسلح المباشر أو الدخول في حرب مباشرة

تعود إيران إلى المفاوضات وهي تدرك أن المواجهة الحالية مع إدارة ترمب "حرب إرادات" وإذا اختارت إيران الثبات على موقفها الرافض للتفاوض، عليها مواجهة عواقب التشدد بالعقوبات الاقتصادية أو البقاء تحت التهديد بالضربة العسكرية. ويدرك القائد الأعلى في إيران أن الجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط متغيرات المنطقة بعد 7 أكتوبر 2023، ليس خيارا تفضيليا. ولن يكون الأمر محصورا بالملف النووي الإيراني فحسب، وإنما ملفات الصواريخ والنفوذ الإيراني سيكونان على طاولة التفاوض. ومن ثم، ستكون عودة إيران للجلوس إلى طاولة المفاوضات خسارة للمكسب الذي حققته في اتفاق (5+1)، ألا وهو الاعتراف بها كقوة دولية وليس إقليمية فقط. ولكن المفاوضات ستكون ربحا إذا نجحت في إبعاد إيران عن الانجرار نحو حرب تريدها إسرائيل قبل أميركا.

يدخل الإيرانيون إلى جلسات التفاوض مع واشنطن؛ وهم مدركون تماما أنها لا تهدف إلى الوصول لتعريف جديد يتم التوافق عليه بشأن الاتفاق النووي والنقاش بشأن القضايا التقنية في تخصيب اليورانيوم، وهو الذي كان نقطة الشروع في الاتفاق السابق. فالمفاوضات هذه المرة لن تكون على أساس الأخذ والعطاء بشأن الملف النووي كما يرى قائد الثورة الإيرانية ورئيس الجمهورية الإيراني مع وزير خارجيته، بل الهدف الرئيس منها هو رسم خارطة جديدة للعمق الاستراتيجي، وفق إعادة تحديد مفهوم الأمن القومي الإيراني، وإضعاف القوة الصاروخية الإيرانية، وهذه النقاط كانت مرفوضة رفضا قاطعا من قبل القيادة الإيرانية قبل سبع سنوات.

رويترز
إيرانيون يشاركون في مظاهرة دعماً لغزة، في طهران، إيران، 11 أبريل 2025

برغماتية إيران

يدرك الإيرانيون أن التفاوض مع إدارة دونالد ترمب يختلف تماما عن المفاوضات السابقة التي حدثت مع إدارة أوباما. فالرهان على عامل الزمن كاستراتيجية للتسويف والمماطلة لكسب الوقت لا يجدي نفعا مع الإدارة الحالية للبيت الأبيض بقيادة الجمهوريين وفريق الرئيس ترمب. ويجلس الإيرانيون إلى طاولة المفاوضات وأولويتهم منع تنفيذ التهديد الأميركي أو الإسرائيلي بالاستهداف العسكري للمنشآت النووية أو البنى التحتية لإيران، لأن حدوث هكذا هجوم يفرض على إيران الرد بالمثل، ومن ثم تدخل في حرب مفتوحة، وتكون إيران هي الطرف الأكثر تضررا.

استراتيجية الانحناء أمام العاصفة أو (المرونة البطولية) كما يسميها المرشد الأعلى خامنئي، تعتمدها إيران الآن في مواجهة خصومها، وهدفها إيقاف التصعيد. فهي استراتيجية للمناورة في المواقف السياسية والانسحاب خطوة إلى الخلف، ولا تسعى دائما لتحقيق أهداف إيران في سياستها الخارجية، وإنما لمنع الخصم من تحقيق أهدافه، من خلال التراجع المؤقت عن سياستها. وعادة ما تستخدم هذه الاستراتيجية عندما تريد التهدئة.

تدير إيران الصراع الآن وفق منطق الدولة وحسابات الربح والخسارة، وبدأت بسحب خطاباتها وشعاراتها الأيديولوجية التي ترفعها ضد أميركا، وبعيدا عن الصدام المسلح المباشر أو الدخول في حرب مباشرة. إذ تدرك أن الانجرار إلى ساحة المواجهة العسكرية مع إسرائيل أو أميركا سيكون بمثابة اللعبة الصفرية. فلدى إيران الكثير من المنشآت والمؤسسات التي يجب أن لا تكون هدفا لأي هجوم عسكري من قبل أميركا أو إسرائيل.

أميركا أمام محطة اختبار حقيقية لمصداقية قوة أميركا في تدمير مشروع إيران النووي، وهل هي جادة في استخدام حاملات الطائرات المنتشرة في الخليج

على الرغم من المكابرة وعدم الاعتراف في خطاب القادة الإيرانيين، بشأن فشل استراتيجية تحقيق الردع من خلال النفوذ الإيراني في بلدان المنطقة ويكون قرار الدولة تحت سيطرة الأذرع والفصائل المسلحة في البلدان التي تسيطر عليها، لمواجهة خصوم إيران، والبقاء ضمن خطوط صراع وتنافس مع تلك الأذرع وليس مع إيران مباشرة. لكن على أرض الواقع لم يعد هناك حضور في خطاب الإيرانيين عن "هلال شيعي" و"محور المقاومة"، لأن ذلك أصبح من الماضي في ظل خارطة الشرق الأوسط الجديد التي ترسم بفائض القوة وإرجاع إيران إلى حدودها.

رغم ذلك، لا يمكن الاستهانة بالدهاء السياسي الإيراني. فالإيرانيون يجيدون لعبة البرغماتية في السياسة، ويختارون التوقيت المناسب لتقديم التنازلات للحفاظ على نظامهم، وتأجيل شعار "تصدير الثورة الإيرانية الإسلامية"، و"نشر الكفاح ضد المستكبرين في جميع أنحاء العالم". وهناك شبه اتفاق بين القيادة الإيرانية على أن إيران تحتاج إلى فترة استراحة، لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية ومعالجة مشاكلها الاقتصادية التي أنهكتها العقوبات الاقتصادية. وأيضا، حاجتها إلى إعادة تقييم لخططها واستراتيجيتها في المنطقة وتأثيرها في الداخل الإيراني وعلاقتها مع دول المنطقة.

ماذا لو؟

ماذا لو فشلت مفاوضات واشنطن-طهران؟ أو وصلت إلى طريق مسدود؟ قد يكون هذا الافتراض مطروحا للنقاش، لكنه على المستوى الاستراتيجي سيدخل المنطق في مساحة اللعبة الصفرية، وليس العلاقات الإيرانية-الأميركية فحسب.

صحيح أن المسؤولين الإيرانيين لا يزالون يعيشون حالة المكابرة ونكران الاعتراف، بخصوص نفوذهم وفشل استراتيجيتهم في المنطقة. لكنهم يعتقدون أنها مسألة وقت حتى يعيدوا ترتيب أوراقهم. ولكن لا يمكنهم المغامرة بخسارة كل شيء في مرحلة الصراع مع إدارة ترمب، فالانحناء أمام عاصفة ترمب يرتهن بتحقيق مكسب رئيس هو رفع العقوبات الاقتصادية أو تخفيفها. أما التنازلات التي يمكن أن تقدمها إيران لأميركا فهي تدخل ضمن مبدأ خسارتها لمعركة وليس خسارتها الحرب.

أميركا، أيضا، ستكون أمام محطة اختبار حقيقية لمصداقية قوة أميركا في تدمير مشروع إيران النووي، وهل هي جادة في استخدام حاملات الطائرات المنتشرة في الخليج العربي، لتحقيق هدف تدمير قوة إيران النووية، أم مجرد تهديدات يراد منها الضغط على إيران فحسب؟

إيوان وايت

إيران في حال تعرضها لهجوم عسكري، ستكون أمام خيار: فتح جبهات متعددة تستهدف الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. وتحريك أذرعها المسلحة لتهديد كل المصالح الأميركية. لأنها لم تعد في منطقة الدفاع عن النفس، وإنما لم يعد لديها شيء تخسره في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة الأميركية. ورغم ذلك، فإن تكلفة هذا الخيار ستتحملها إيران وحدها. وقد يكون ثمنها زعزعة النظام الإيراني من الداخل وليس نفوذه في المنطقة فحسب. ويبقى الافتراض الأهم، أن ما تعجز عن تحقيقه المفاوضات في تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، قد يحققه الهجوم العسكري على إيران وما تبقى من مناطق نفوذها في دول المنطقة.

font change