أميركا تضغط على "قوات سوريا الديموقراطية"... لا بديل عن "الاندماج"

هل تكون "قسد" العقبة الكبرى أمام ترسيخ المسار الانتقالي؟

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) يستقبل المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس براك، في القصر الرئاسي بدمشق في 9 يوليو 2025

أميركا تضغط على "قوات سوريا الديموقراطية"... لا بديل عن "الاندماج"

في غضون الأشهر السبعة، التي تلت الإطاحة ببشار الأسد، توافد ممثلون من 78 حكومة أجنبية ومنظمة متعددة الجنسيات، إلى دمشق للالتقاء بالرئيس السوري أحمد الشرع وإدارته الانتقالية، في حالة فريدة في التاريخ الحديث، فلم يحدث أبدا أن شهد أي بلد خارج من نزاع، مثل هذه الموجة السريعة والواسعة النطاق من المشاركة الدبلوماسية.

ولا ريب في أن التقدم الذي حققته سوريا في الأشهر الأخيرة، تقدم ملحوظ بالمقارنة مع إرث أكثر من خمسين عاما من دكتاتورية الأسد، وثلاثة عشر عاما من الصراع المدمر. فقد رفعت أو علقت جميع العقوبات والقيود المفروضة على البلاد، خلال العقود الخمسة الماضية تقريبا، وأعيد دمج سوريا بسرعة في المؤسسات الإقليمية والدولية متعددة الأطراف. ومن المتوقع أن يلقي الرئيس الشرع، كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، ليكون أول زعيم سوري يفعل ذلك منذ 58 عاما، وتحديدا منذ عام 1967، في خطوة رمزية لهذا الاندماج.

على الصعيد الاقتصادي، يشهد الاقتصاد السوري، أول انتعاش حقيقي له منذ سنوات. ففي الأسابيع الأخيرة، تم توقيع عقود ومذكرات تفاهم تتجاوز قيمتها 20 مليار دولار، مع شركات من قطر والسعودية والكويت وتركيا والإمارات والأردن، بالإضافة إلى فرنسا والولايات المتحدة. وتُبحر حاليا أول شحنة من الصادرات السورية إلى الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، جرى دمج تقنيات الاتصالات الأميركية من الجيلين الرابع والخامس4G) -5G) في شبكة الهاتف الجوال الرئيسة (سيريتل) بينما تستعد أربع شركات طاقة أميركية على الأقل لدخول قطاعات النفط والغاز والكهرباء في السوق السورية، الذي أصبح متاحا من جديد.

من الطبيعي أن تواجه البلاد، كحال أي بلد خارج من فترة نزاع طويلة، تحديات طبيعية، بينها قضايا العدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، ونزع السلاح، وإعادة دمج المقاتلين، وحماية حقوق المجتمعات العرقية والطائفية. ومع ذلك، فإن البلاد تتمتع بحالة من الاستقرار النسبي فاجأت الجميع. وعلى الرغم من أن العنف لم يتوقف بالكامل، إلا أنه تراجع إلى أدنى مستوياته في الذاكرة الحديثة. فحركة التمرد المناهضة للحكومة، التي اندلعت على الساحل في يناير/كانون الثاني، لم تقم بأي هجوم خلال الشهرين الماضيين. وبينما لا تزال تهديدات تنظيم "داعش" قائمة بجدية، فإن تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق العملياتي بين الحكومة السورية، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة باتا يعملان بفعالية ملحوظة.

ويبقى ملف "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) هو التحدي البنيوي الأكبر أمام استقرار سوريا، وعودتها إلى الساحة الدولية، ذلك أن توقيع اتفاقية إطارية في مارس/آذار الماضي، لم يكن كافيا لاستمرار المفاوضات التي لم تحقق أي تقدم ملموس بين الطرفين. وعلى الرغم من سريان وقف إطلاق النار في شمال شرقي حلب، واستمرار بيع النفط المستخرج من مناطق سيطرة "قسد" إلى الحكومة المركزية، فإن انعدام الثقة بين الجانبين لا يزال قائما.

تؤكد هذه التطورات أن ملف "قسد" يبقى القنبلة الموقوتة التي قد تعيد إشعال التوتر في أي لحظة، رغم كل المؤشرات الإيجابية الأخرى التي تشهدها الساحة السورية حاليا

وعلى الرغم من أن هذه التطورات، لا تلقى اهتماما إعلاميا واسعا، فإن قوات (قسد) تواصل انتهاكاتها الكثيرة، حيث تقوم بمحاولات متكررة، لإعادة نشر قواتها وأسلحتها الثقيلة، على خطوط التماس مع الجيش السوري في شمال شرقي حلب، مخالفة بذلك بنود نزع السلاح في اتفاقية الهدنة، ما اضطر القوات الأميركية للتدخل عدة مرات، لإعادة قوافلها إلى مواقعها، كما تنشط في بناء أنفاق واسعة النطاق في محافظتي الرقة والحسكة، وفقا لمصادر محلية، إلى جانب اعتقالها أكثر من 100 مواطن عربي بينهم نساء، خلال الأشهر الستة الماضية، انتقاما لانضمام أفراد من عائلاتهم للجيش السوري. وتوجت ذلك كله بقتل طفلين عربيين في حادثتين منفصلتين في 26 يونيو/حزيران، و2 يوليو/تموز الماضيين، مما فاقم التوترات بينها وبين المجتمعات العربية في شمال شرقي سوريا.

تؤكد هذه التطورات أن ملف "قسد" يبقى القنبلة الموقوتة، التي قد تعيد إشعال التوتر في أي لحظة، رغم كل المؤشرات الإيجابية الأخرى التي تشهدها الساحة السورية حاليا.

ا ف ب
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) والقائد العام لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مظلوم عبدي يوقعان اتفاقية لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" في مؤسسات الدولة، دمشق، 10 مارس

وخلال زيارة قام بها في 29 يونيو، وفد من وزارة الداخلية إلى مدينتي القامشلي والحسكة، بتسهيل أميركي، للإشراف على امتحانات المدارس، عمد مسؤولو الإدارة الذاتية إلى توجيه مداخلات مطولة إلى نظرائهم الحكوميين، حول مزايا الكونفدرالية الديمقراطية واللامركزية. وفي مناسبتين مستقلتين، اضطر ممثلون حكوميون للجلوس تحت صور لزعيم "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان خلال اجتماعات علنية، ونشرت صورها على الملأ.

وقبل تلك الزيارة بعشرة أيام فقط، في 19 يونيو، أعلنت الإدارة الذاتية بشكل غير متوقع عن إنشاء "إدارة عامة" لتشغيل مطار القامشلي، في خطوة أثارت احتجاجا فوريا من الهيئة العامة للطيران المدني السورية في دمشق، التي أعلنت أن القرار ينتهك القانون الدولي. والحال أن هذه الحوادث إنما تبرز عمق العداء، وتوضح مدى بعد الجانبين عن التوصل إلى اتفاق شامل.

ومع ذلك، في محاولة لكسر الجمود، عقدت قمة تاريخية في دمشق في 9 يوليو، جمعت ممثلين عن الحكومة السورية و"قوات سوريا الديمقراطية"، بالإضافة إلى المبعوثين الخاصين الأميركي والفرنسي توماس باراك وجان بابتيست فيفر. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة، لم تسفر القمة عن أي تقدم ذي مغزى. فوفقا لمصادر مطلعة على المناقشات، أصر وفد "قسد" على الحفاظ على هيكله العسكري المستقل، مشيرا إلى أن الاندماج في الجيش السوري، سيكون مقبولا فقط، إذا بقيت قواته متمركزة بشكل دائم في الشمال الشرقي، تحت قيادتها الخاصة، واستمرت في العمل تحت اسم "قوات سوريا الديمقراطية". وفي الوقت نفسه، طالبت الإدارة الذاتية بأن يظل إطارها المؤسسي سليما تماما، وأن تحتفظ بالسيطرة على الحكم والإدارة المحلية.

أثارت تلك الشروط احتجاجا فوريا من وفد الحكومة، وأطلقت موجة من الإحباط في أوساط الوسطاء الأميركيين والفرنسيين. أما الطلب الأخير لـ "قوات سوريا الديمقراطية" بتمديد المهلة الأصلية للتوصل إلى اتفاق إلى ما بعد نهاية عام 2025، فقد بعث برسالة واضحة، مفادها أنها لا تعتزم التوصل إلى تفاهم في المستقبل القريب.

وفي تصريحات علنية لاحقة، عبر المبعوث الأميركي الخاص، توماس باراك، عن موقفه بوضوح، منتقدا "قوات سوريا الديمقراطية" لكونها بطيئة في تقبل ضرورة التوصل إلى اتفاق، ومؤكدا أن الفيدرالية... لا تصلح في السياق السوري. وأضاف: "لا يوجد سوى طريق واحد، وهذا الطريق يمر عبر دمشق"، مشددا على أن "الوقت يداهمنا". وقد شملت تصريحات باراك أيضا إشادة بدمشق، واصفا نهجها بأنه "متحمس للغاية" و"سخي في السعي إلى إيجاد أرضية مشتركة"، ما أحرج "قسد"، خاصة وأن باراك يشغل أيضا منصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا.

ضرورة منح دمشق احتكار استخدام القوة. وبعبارة أخرى لا مكان للفيدرالية، ولا للجيوش المنفصلة أو اللامركزية، بل يتعين على "قوات سوريا الديمقراطية" أن تُحل وتُدمج بالكامل

وحتى أقرب المدافعين عن "قوات سوريا الديمقراطية"، الجيش الأميركي، قد بدأ يغير أولوياته، وبات يركز على ترسيخ سلطة الحكومة الانتقالية السورية، مؤكدا في محادثاته الخاصة، ضرورة منح دمشق احتكار استخدام القوة. وبعبارة أخرى لا مكان للفيدرالية، ولا للجيوش المنفصلة أو اللامركزية، بل يتعين على "قوات سوريا الديمقراطية" أن تُحل وتُدمج بالكامل.

وفي تأكيد على هذا الموقف، خلال جلسة الاستماع المخصصة لتثبيت نائب الأدميرال برادلي كوبر في قيادة القيادة المركزية الأميركية، أعلن القائد الجديد بشكل صريح أن: "استقرار سوريا مرتبط ببقاء القائد الحالي أحمد الشرع في منصبه، وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا". وفي الوقت نفسه، ومع استمرار انسحاب القوات الأميركية، تراجع التمويل العسكري المخصص لـ "قسد" ضمن عملية "العزم الصلب" إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ حولت الغالبية العظمى من الأموال، لتأمين مخيمات ومعتقلات تنظيم "داعش"، بدلا من دعمها.

رويترز
مقاتلون من "قوات سوريا الديمقراطية" يجلسون على مركبة في شمال مدينة الرقة، سوريا

لقد شكلت تلك المخيمات والسجون على مدى سنوات، أبرز أدوات النفوذ الدولي بيد "قسد"، إلا أن الأمر التنفيذي الأخير للرئيس ترمب، الذي ألغى العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، نص على نقل مسؤولية هذه المنشآت إلى الحكومة الانتقالية السورية.

لقد شكل سقوط بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 لحظة مفصلية بالنسبة لـ "قسد"، في ظل التحول الجذري في الديناميكيات الداخلية، باتجاه التعافي وإعادة التوحيد. ومع مرور الأشهر، تحولت تلك اللحظة المصيرية، إلى تهديد وجودي حقيقي، وهو ما يفسر تصلب موقف القيادة الكردية، ورفضها المتنامي للدعوات المطالبة بالحل والاندماج.

على أن سياسة المماطلة، لا تبدو في مصلحة "قوات سوريا الديمقراطية"، إذ كان المبعوث الأميركي قد حدد مهلة غير رسمية، تنتهي في أغسطس/آب للتوصل إلى اتفاق. أما سلوك وفد "قسد" في قمة دمشق الأخيرة، فلا يبعث على كثير من التفاؤل. والحال أنه ما دام هذا النهج مستمرا، يصعب إنكار أن "قسد" هي العقبة الكبرى أمام ترسيخ المسار الانتقالي السوري، واستقراره وبلوغه تعافيا مستداما، أكثر من أي طرف آخر.

font change

مقالات ذات صلة