حكومة الشرع هدف "داعش" الجديد في سوريا

"المجلة" تنشر شهادات ومقابلات لعناصر خرجوا من سجون "قسد"

غيتي
غيتي
حراس ملثمون خارج زنازين لسجناء ينتمون إلى تنظيم داعش في جنوب شرق سوريا في 13 فبراير

حكومة الشرع هدف "داعش" الجديد في سوريا

مضى أكثر من ست سنوات على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب هزيمة تنظيم "داعش" بنسبة 100 في المئة" على حد قوله يوم 22 مارس/آذار 2019، إلا أن قوات التحالف الدولي ما زالت موجودة في سوريا حتى يومنا هذا، تحارب خلايا التنظيم، إضافة إلى جهود إقليمية وسورية كبيرة في الوقت الراهن لمواجهة خطر التنظيم الذي اعتقد العالم أنه انتهى في مارس 2019.

خلايا تنظيم "داعش" خلال السنوات التي تلت الإعلان الأميركي أعادت بناء نفسها، وإمكانياتها، وطورت وسائل تواصل بينها وبين قادة وعناصر التنظيم الموجودين في سجون "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، السجون التي تحتوي على قنبلة موقوتة، قد تصل نيرانها أبعد من الجغرافيا السورية.

اطلعت "المجلة" على 18 محضرا لمقابلات مع عناصر من "داعش" أمضوا سنوات طوال في سجون "قسد". وقد أجريت هذه المقابلات لأغراض بحثية، حيث تكشف هذه المقابلات الكثير من التفاصيل حول ظروف السجون وكيف أثرت على عقلية التنظيم من خلال تقوية رغبته في الاستمرار، كما كشفت المقابلات عن استفادة قادة وعناصر "داعش" في السجون من الوقت لإجراء محاكمات فكرية لظروف نشأة التنظيم وأفوله، إضافة إلى قيامهم باستغلال فساد حراس وقضاة تابعين لـ"قسد" في السجون، ليتمكنوا من استعادة تواصلهم مع العالم الخارجي وخلايا التنظيم وقادته في البادية السورية ومناطق "قسد"، هذا التواصل كان له دور كبير في تنسيق الهجوم الشرس الذي شنّه التنظيم على سجن الصناعة في الحسكة عام 2022 الذي يحتوي على آلاف المقاتلين والقادة الذين حاربوا بين صفوف "داعش".

وتكشف المقابلات والمعلومات التي حصلت "المجلة" على نصوصها عن إجماع شبه كامل لدى خلايا تنظيم "داعش" على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف التنظيم القادم وأن "قتالها واجب"، وسط نقاشات معمّقة تمت بين عناصر وقادة التنظيم في سجون "قسد" من جهة، وبينهم وبين الخلايا خارج السجون من جهة أخرى، وذلك من أجل وضع خطط إضعاف الدولة السورية الجديدة، وتشتيت قدراتها، وشيطنتها لخلق فرص تجنيد عناصر جدد، خصوصا أولئك الغاضبين من توجهات الدولة السورية نحو الانفتاح مع الدول العربية والغربية، فضلا عن وضع خطط لمحاولة اختراق صفوف الحكومة السورية.

بعض السجون اكتظت بالمساجين فتم افتتاح سجون أخرى لتخفيف الضغط، وبحسب إحصائيات غير رسمية فإن "قسد" اليوم تُدير نحو 26 سجنا فيها 12 ألف سجين

غرف مكتظة وظروف قاسية تزيد التطرف

كثرت السجون في منطقة شرق الفرات السورية منذ بدء المعركة الشرسة التي شنها التحالف الدولي بالتعاون مع "قسد" ضد "داعش" في سوريا عام 2016، وذلك عندما قال المتحدث باسم التحالف الدولي ستيف وارين في شهر أبريل/نيسان من العام نفسه خلال تصريحات صحافية إن المرحلة الثانية من الحملة الدولية ضد تنظيم "داعش" قد بدأت بالفعل. وأضاف: "المرحلة الثانية من الحرب على (داعش)، ستمكّن شركاءنا من تفكيك العدو، وتشتيت قواته وعزل مراكز جذبه وتحرير الأراضي التي يسيطر عليها".

بعض السجون اكتظت بالمساجين فتم افتتاح سجون أخرى لتخفيف الضغط، وبحسب إحصائيات غير رسمية فإن "قسد" اليوم تُدير نحو 26 سجنا فيها 12 ألف سجين، الآلاف منهم تم اعتقالهم أثناء المعارك ضد تنظيم "داعش" وهم من جنسيات سورية، وعربية، وأجنبية.

وبحسب العناصر الذين تمت مقابلتهم، فإن الأوضاع كارثية في السجون كسجن الصناعة وسط الحكسة وسجن الرقة وسجن الكم الصيني في مدينة الشدادي، وأعداد السجناء في الغرفة الواحدة أكبر من سعتها، إضافة إلى نقص في إمكانيات النظافة والطعام، وحالات تعذيب في السجون جعلت الحديث الأبرز بين السجناء عن كيفية الانتقام من السلطات التي تُدير السجون فور خروجهم من السجن. كما أتاحت حالة الاكتظاظ هذه الفرصة أمام السجناء لإعادة ترتيب أفكارهم الخاصة بمستقبل التنظيم، خصوصا في ظل غياب أي برنامج داخل السجون لمحاربة الفكر المتشدد لهؤلاء العناصر، وإعادة تأهيلهم تمهيدا لخروجهم إلى العالم من جديد.

غيتي
زنزانة في سجن بانوراما شمال شرق سوريا، تضم رجالا متهمين بالانتماء إلى تنظيم داعش

سالم (اسم مستعار)، 35 عاما، تم اعتقاله في عام 2018، يقول إن مرحلة التحقيق معه كانت في حقل التنك النفطي، ثم تم نقله إلى سجن الصور، لينتهي به المطاف في سجن الصناعة عام 2019، وبحسب سالم فإن "المهجع" الذي كان فيه مع نحو 140 سجينا لا يتسع لأكثر من 50 شخصا. ويتابع: "أثناء التحقيق كانوا يمارسون علينا كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي، والصعق الكهربائي، والسجن الانفرادي عبارة عن قبر داخل قبر". سالم فقد من وزنه الكثير، فقد دخل السجن بوزن 105 كيلوغرامات، ليصل بعد سنوات إلى نحو 60 كيلوغراما، على حد تعبيره.

لؤي (اسم مستعار)، 28 عاما، تم اعتقاله عام 2018، هو الآخر انتهى به المطاف في سجن الصناعة لاحقا، يصف السلطات المحلية في شرق الفرات بأنها "ملحدة"، وعدّ الوضع في السجن بأنه كارثي، وأن كثيرا من السجناء الذين تم إيداعهم في الغرف المنفردة كادوا يصابون بالجنون، حتى إن بعضهم كان يواجه صعوبة في النوم لأيام طويلة. كما يقول رافع (اسم مستعار)، 41 عاما، والذي تم وضعه في السجن نفسه، إن التحقيق كان يجري باللغة الكردية بوجود مترجم، وإن "أي كلمة تخرج من السجين عن سياق التحقيق كانت نتيجتها الضرب المبرح بالعصا الغليظة".

أما أحمد (اسم مستعار)، 38 عاما، فاعتقل عام 2020، ليُصار إلى وضعه في سجن الكم الصيني، فيقول بلغة وصفية إن "لحظة دخولك السجن هذا تقطع علاقتك تماما مع العالم النظيف والظروف الإنسانية، النظافة كلمة غريبة جدا هناك، يمكن أن تُمضي شهورا طويلة قبل أن تصل إلى صنبور المياه للاستحمام، والتهوية هناك كلمة غائبة عن قاموس السجن، فالهواء يحمل معه روائح أجساد الناس المتسخة ممزوجة بروائح القذارة الموجودة في السجن".

لم يكن دخول السجن بالنسبة لكثير من عناصر "داعش" نهاية الحكاية، بل كانت مرحلة مؤقتة على حد تصوّرهم

في سجن الرقة، لم يكن الوضع أفضل من سجني الصناعة والكم الصيني، فبحسب أبو محمد (اسم مستعار)، 27 عاما، فإن الغرفة التي كان يوجد فيها بسجن الرقة كانت تحتوي على 40 سجينا، وأن غالبيتهم كانت اتهامات اعتقالهم هي "نشر الفكر المتطرف عبر الإنترنت، التجنيد لصالح التنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي". أبو محمد يقول إن أحد المساجين في الغرفة نفسها وجد ميتا في أحد الأيام، نتيجة نقص العلاج والرعاية الطبية هناك، وذلك بعد معاناة امتدت لأيام مع آلام حادة في الصدر. يضيف أبو محمد أن بعض المساجين الذين عانوا من "الجرب" كانوا "يحكّون" أجسادهم بشدة نتيجة الألم "ما سبّب نزيفا في جلود البعض، دون وجود علاج كافٍ، إضافة إلى الانتشار السريع للأمراض الجلدية بين المساجين بسبب الاكتظاظ والتصاق السجناء ببعضهم في الغرفة الواحدة".

جميع من تمت مقابلتهم تحدّثوا عن الأوضاع السيئة للسجون، حتى إن بعضهم تحدّث عما سموه "انتهاكات للقيم الإنسانية في التعامل"، وأن "التعذيب، والعزل، والإهانة، والمعاملة السيئة كانت الحديث الأبرز بين السجناء" الذين كانوا في الوقت نفسه يخططون للانتقام- في اللحظة المناسبة- من كل شخص عرفوه ضمن السجن، و"كان طرفا في تعذيبهم وإهانتهم"، كما كان السجناء يبذلون جهدهم  لنقل معلومات عن أوضاع السجون إلى عناصر التنظيم خارج السجن عبر طرق تواصل تتم من خلال استغلال وجود قادة وعناصر مسؤولين عن حماية السجن تقاضوا المال مقابل إدخال هواتف ورسائل إلى المساجين.

تجدر الإشارة إلى أن تنظيم "داعش" استخدم عبر سنوات سيطرته على المناطق في سوريا والعراق على العنف العلني بحجة "الترهيب"، فهو الذي نفّذ إعدامات ميدانية جماعية في دير الزور والرقة، إضافة إلى قطع الرؤوس أمام الناس في الساحات العامة، ونشر فيديوهات مُعدّة بشكل احترافي يعرض فيها التنظيم طرق إعداماته من قطع الرؤوس، والذبح، وتفجير المعتقلين، والحرق، والإغراق، إضافة إلى فيديوهات تُظهر أطفالا يقومون بتنفيذ عمليات الإعدام. مشاهد كثيرة يصعب إحصاؤها، صدمت العالم، وقادت إلى تشكيل تحالف دولي وتحالفات سورية لمواجهة التنظيم من قبل جميع القوى المسلحة في سوريا.

فساد يُتيح الفرص للتنسيق والتواصل

لم يكن دخول السجن بالنسبة لكثير من عناصر "داعش" نهاية الحكاية، بل كانت مرحلة مؤقتة على حد تصوّرهم، فهم وبعد فترة وجيزة استغلّوا وجود حراس وسجانين وقادة من "قسد" توّاقين للحصول على المال، فقام عناصر التنظيم بتحويل هؤلاء إلى نقطة ارتكاز لهم لتحقيق عدة مكاسب منها حسن المعاملة في السجن والحصول على طعام جيد وأماكن جيدة والاستحمام الدوري، ومن المكاسب أيضا الوصول إلى خارج السجون عبر رشوة بعض القضاة، أو الحصول على هواتف للتواصل مع خلايا "داعش" الموجودة خارج السجن سواء في منطقة سيطرة "قسد" أو في البادية السورية جنوب دير الزور، عملية التنسيق مع هؤلاء الحراس والسجّانين كانت تتم من خلال عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه.

وبحسب ما قاله المساجين الذين تمت مقابلتهم، يتم إدخال هواتف محمولة مزوّدة بخطوط جاهزة "عن طريق الحراس المتعاونين مع التنظيم والذين تتم رشوتهم من قبل عناصر التنظيم في الخارج"، وأحيانا تصل تكلفة تهريب الهاتف المحمول مع الخط للسجين إلى 3 آلاف دولار أميركي، يُضاف إليها دفعات دورية على سبيل شحن بطارية الجهاز أو شحن الخط كلما انتهت الباقة الخاصة به. الدفع مقابل هذه الخدمات كان يتم عبر خلايا التنظيم النشطة في الخارج من خلال طريقة تواصل خاصة بين الأطراف الثلاثة.

الهواتف يتم تهريبها إلى القياديين في التنظيم في المهاجع، وهؤلاء يكونون صلة الوصل بين الخلايا التابعة للتنظيم خارج السجن، وبقية العناصر الموجودين داخله والذين ما زالوا يوالون التنظيم وينتسبون إليه، وبحسب كثير ممن تمت مقابلتهم فإن عملية التواصل كانت موجودة بين قادة التنظيم داخل وخارج السجن فيما يخص تنسيق عمليات "داعش" خارج السجن، وعمليات تهريب الأجهزة ورشوة حراس السجن، أو عمليات تهريب عائلات عناصر التنظيم من مخيم الهول، إضافة إلى عمليات الرشوة الخاصة ببعض القضاة لإخراج قادة وعناصر للتنظيم من السجن من خلال تخفيف التهم الموجهة إليهم، أو من أجل استصدار قرارات إفراج مزورة حيث يتولى حراس متعاونون مع الخلايا- مقابل المال- مهمة إخراج العناصر من داخل السجن. وبحسب بعضهم فإن هناك عمليات تنسيق تتم حول قرارات اغتيال أشخاص خانوا التنظيم أو يعملون لصالح "قسد" داخل السجن أو خارجه، إضافة إلى ذلك يتم استخدام هذه الهواتف لأغراض التواصل بين المساجين وخلايا التنظيم المتبقية في مخيم الهول.

عمليات التواصل هذه أبقت التنظيم على الحد الأدنى من التنسيق، سواء لعمليات التهريب أو الهجمات أو  إيصال معلومات عن الاستراتيجيات التي يتخذها التنظيم خارج السجن، وقد تكون الهجمات التي نفذها تنظيم "داعش" لكسر حصون سجن الصناعة هي إحدى ثمار هذا التنسيق بين الخلايا الموجودة داخل السجن وخارجه، حيث كانت الهجمات منظمة بين الخلايا، فحدثت تحركات متزامنة داخل السجن وخارجه في آن واحد.

يشير مزاج بعض العناصر الذين تمت مقابلتهم إلى وجود دفعة عاطفية إيجابية قوية بعد هجمات سجن الصناعة

سجن الصناعة كثمرة تواصل 

مساء يوم 20 يناير/كانون الثاني عام 2022، شن تنظيم "داعش" هجمة شرسة على سجن الصناعة الواقع في حيّ غويران بالحسكة، والذي يحتوي على نحو 5 آلاف مقاتل من تنظيم "داعش" من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية. الهجوم بدأ بين الساعة السادسة والسابعة مساء عبر إرسال التنظيم لعربتين مفخختين الأولى توجهت نحو الباب الرئيس للسجن، والثانية على خط متوازٍ يبعد عن البوابة قرابة 200 متر، وبعد انفجار العربتين فورا، شنت مجموعات "انغماسية" هجمات لدخول السجن أدت إلى انهيار سريع لكل البنية الأمنية التي وضعتها "قسد"، ودخل عناصر التنظيم إلى السجن لكسر الجدر الموصلة إلى المهاجع. في هذه الأثناء كان عناصر التنظيم داخل السجن يشنون حملات هجوم على حرس السجن، ويقتلون كل من كانت أسماؤهم على قائمة الاغتيال والذين كانوا جزءا من منظومة التحقيق أو التعذيب، فضلا عن أن الهجمات الداخلية لم تستثنِ أي أحد من العاملين في السجن. حتى صباح 21 يناير/كانون الثاني 2022، كان تنظيم "داعش" قد سيطر على السجن كاملا تقريبا وقتل كل العاملين في السجن والحرس، وبدأت عملية تهريب السجناء بعد السيطرة على مستودع أسلحة كان في السجن. ويقول سالم إن "بعض المساجين الذين عرفوا جلاديهم أثناء أحداث سجن الصناعة انتقموا منهم وقتلوهم وقطعوا رؤوسهم".

قوات التحالف و"قسد" استطاعت السيطرة على السجن مرة أخرى بعد سبعة أيام من العمليات العسكرية هناك، والتي أدت إلى اعتقال نحو 3500 مقاتل من التنظيم الذين كانوا داخل السجن، دون معرفة كثير من المعلومات عن مصير نحو أكثر من ألف سجين سواء كانوا قُتلوا أم فرّوا. هذا الهجوم المنسق والمنظّم أثبت أن التنظيم ما زالت لديه القدرة على التنسيق وتنفيذ عمليات نوعية. فاتخذ التحالف و"قسد" إجراءات مشددة داخل السجن، ووضعوا كاميرات مراقبة، وبحسب كثير من المساجين فقد تم تقليل كميات الطعام على المساجين. الإجراءات الأمنية لم تكن توازي قدرة التنظيم على التأقلم، فحتى بعد تشديد القبضة الأمنية على المساجين بعد هجمات سجن الصناعة فإن عناصر التنظيم استطاعوا مجددا إدخال الهواتف المحمولة واستئناف التواصل مع الخلايا الخارجية، ومع بعض الخلايا في المخيمات التي تديرها "قسد" مثل مخيم الهول.

ويشير مزاج بعض العناصر الذين تمت مقابلتهم إلى وجود دفعة عاطفية إيجابية قوية بعد هجمات سجن الصناعة، كما أن "أحداث سجن الصناعة كانت نقطة تحول بالنسبة لمقاتلي التنظيم الموجودين في السجن، فقد أثبتت أن السجن لا يعني النهاية"، كما أن الهجمات التي نفذتها خلايا التنظيم في سوريا فتحت الباب للمساجين من أجل إجراء مراجعات دقيقة ومفصلة لمراحل نشأة التنظيم، وقوته، وأفول سيطرته على المناطق في سوريا والعراق، هذه المراجعات التي سمحت ظروف السجن بها- حيث إن الغرف مكتظة بالمساجين- وصلت إلى مراحل رسم استراتيجيات لمستقبل التنظيم وطرق إعادة إحيائه بالاستفادة من أخطاء الماضي.

مراجعات فكرية ورسم معالم  استراتيجية جديدة

ساعات طويلة يُمضيها العناصر مع القادة الموجودين بينهم، يتحدثون خلالها عن الدين والدولة وتنظيمهم الذي سيطر على مساحات واسعة دون أن يتمكن من الحفاظ عليها لفترة طويلة، يدرسون استراتيجيتهم القديمة بإيجابياتها وأخطائها، بمن كان معهم ومن خانهم، و"الاختلافات بين القادة التي أدت إلى إضعاف قوة التنظيم وانهيار قدرته الجغرافية". هذه المراجعات لم تكن تتم داخل السجن وتنتهي فحسب، بل كانت مخرجاتها تسير عبر الهواتف والرسائل إلى الخلايا خارج السجن، ليُصار إلى تمحيصها ومحاكمتها، وتتحول في نهاية المطاف إلى نقطة ارتكاز تعتمد عليها الخلايا في عملياتها أو سكونها.

يقول لؤي إن المساجين في سجن الصناعة "يتبادلون الأفكار، يخططون للمستقبل، يؤكدون بينهم أن الحرب لم تنتهِ وأن دولة الخلافة ستعود"، ويشير إلى أن بعض النقاشات تتم حول الظروف الممكنة التي ستساعد التنظيم لإعادة قوته، كفائدة الفوضى، وآليات التجنيد بالاعتماد على استراتيجيات جديدة، وطرق استغلال الثغرات الأمنية والخلافات بين القوى الموجودة في سوريا.

تنظيم "داعش" يعمل اليوم على التجنيد، واستغلال غضب بعض الفصائل من الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها من خلال تكثيف التواصل مع الغاضبين

كما يقول أبو محمد، إنه في سجن الرقة كانت النقاشات أحيانا حادّة، حيث أسمع أصواتهم وهم يتهمون بعضهم البعض بالضلال أو الخطأ أو الخروج عن المنهج، ومن بين النقاشات التي سمعها أبو محمد أن مجموعة من العناصر كانوا يطالبون بتغيير جذري للتكتيك القديم الذي استخدمه التنظيم، واعتماد تكتيكات جديدة مثل التحول قليلا إلى المرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة، لكن دون أن يكون هناك تغيير في الثوابت القائمة على إقامة دولة الخلافة من جديد.

ويمكن تلخيص طبيعة تلك النقاشات ومخرجاتها- بحسب ما ذكره الأشخاص الذين تمت مقابلتهم- في النقاط التالية:

حدثت نقاشات حول الأخطاء التي ارتكبها قادة التنظيم باعتقادهم أن القوة والقتل والترهيب تكفي للسيطرة على الأرض، وبحسب النقاشات فإن ذلك لم يكن صحيحا واستدلوا باستنتاجهم بمساعدة المدنيين لأي قوة حاربت التنظيم، مما يعني أنهم لم يستطيعوا كسب الناس، كما أن من الأخطاء المتصلة بالقوة والترهيب هي الخطاب المتشدد جدا، والذي لم يفهمه الناس، ما أدى إلى عزل التنظيم لنفسه عن القاعدة الشعبية.

من خلاصات النقاشات التحول من فكر الدولة- مؤقتا- إلى فكر الخلايا السرية، وذلك من خلال إعادة الهيكلة التنظيمية للتنظيم، واعتماد مبدأ اللامركزية للخلايا، حيث يتم إرسال الاستراتيجية والأهداف للخلايا من قبل القيادات، ويُترك أمر التنفيذ لقادة الخلايا. وبذلك يصعب على القوى متابعة الخلايا واستهدافها بشكل كامل.

ضرورة التركيز في الوقت الحالي على ما يطلقون عليه اسم "الدفاع الجهادي"، بمعنى القيام بالعمليات الخاطفة والصغيرة، وعدم الدخول في معارك كبرى تؤدى إلى خسائر فادحة تُضعف خلايا التنظيم أكثر، وبحسب النقاشات التي تمت بينهم فإن هذه الاستراتيجية في الوقت الراهن تخدم التنظيم من عدة نواحٍ: خسائر أقل، خلق فوضى وثغرات أمنية تساعد الخلايا على التحرك أكثر، والحصول على فرصة أكبر لتجنيد مقاتلين جدد في التنظيم.

أهمية تشكيل شبكات سريّة تتمحور أعمالها على توفير الدعم المالي واللوجستي للخلايا، دون أن يكون لدى هذه الشبكات علم بأي تفاصيل عن طبيعة العمليات أو مكان الخلايا، بحيث يكونون بمعزل عن التنظيم وعملياته لكنهم يخدمون مصالحه المالية في الوقت ذاته.

بعض النقاشات أيضا تمحورت حول كيفية تشتيت الجهود الدولية، وذلك من خلال التواصل مع قادة التنظيم وقادة المجموعات المسلحة التي تشبه توجه التنظيم خارج إطار الجغرافيا السورية، والتنسيق معهم لتنفيذ عمليات في تلك المناطق تستهدف المصالح الدولية، لتخفيف الضغط على التنظيم في سوريا.

درست النقاشات أيضا ضرورة استخدام الإعلام كوسيلة من أجل نشر أفكار جديدة عن التنظيم-تكون أقل تشددا في المرحلة الأولى- تمهيدا لتجنيد الشباب، ويرون أن الإعلام يمكن أن يكون حجر أساس في "تكوين قاعدة صلبة من الأنصار المؤمنين بالمنهج، ويكونون رأس حربة في المستقبل لتنفيذ العمليات أو استقطاب الشباب".

كل هذه النقاشات ونتائجها ترى طريقها إلى خارج السجن، ولعلّ أحوال التنظيم اليوم واستراتيجياته الجديدة يمكن رؤيتها من نافذة هذه النقاشات، فالتنظيم بعد سقوط النظام السوري لم يقم بعمليات واسعة، بل ما زال معتمدا على مبدأ الخلايا والهجمات السريعة والصغيرة في منطقة "قسد" ومناطق الدولة السورية، بالإضافة إلى استغلال حالة التأرجح الأمني في سوريا لنقل خلاياه والعناصر من مناطق متفرقة نحو مناطق "قسد"، والبادية السورية، وحمص، ومناطق تُحسب جغرافيا على محافظات الساحل السوري.

وبحسب المعلومات فإن تنظيم "داعش" يعمل اليوم على التجنيد، واستغلال غضب بعض الفصائل من الدولة السورية الجديدة وتوجهاتها من خلال تكثيف التواصل مع الغاضبين وتهيئة الأرضية المناسبة لتجنيدهم أو التنسيق معهم في شنّ عمليات ضد مؤسسات الدولة السورية وموظفيها، كما أن التنظيم من المرجح أن يقوم باستغلال الغاضبين وتحويلهم إلى "جواسيس" داخل أجهزة الحكومة، فضلا عن قيامه بتشجيع عناصره للانضمام إلى الأمن العام والجيش عن طريق أبواب الانتساب التي فتحتها الدولة السورية.

الحكومة السورية هدف التنظيم

جميع العناصر تمت مقابلتهم بعد سقوط النظام- خلال شهر فبراير/شباط الماضي- من بينهم 10 عناصر خرجوا في وقت سابق من السجون. الجميع قالوا إن "الدولة السورية بقيادة أحمد الشرع" هي دولة "علمانية" وأن قتالها "أمر حتمي"، ويقول سالم إن "الجولاني وجماعته منذ أن خرجوا عن عباءة الدين نحو حبّ السلطة قبل سنوات تحولوا إلى مشركين، وعناصر الجولاني هم مرتدون وعملاء"، ويضيف أن التنظيم يرى الشرع "عبارة عن عميل للغرب تم وضعه في دمشق".

الهجوم الذي شنّه "داعش" جاء بعد أيام من عمليتين نفذتهما الحكومة السورية في حلب وريف دمشق ضد خلايا "داعش"، أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر التنظيم ومقتل آخرين

لؤي يقول أيضا إن عناصر التنظيم داخل السجن وخارجه يُجمعون على أن الدولة السورية الجديدة هي هدف للتنظيم، ويرون أن الشرع ودولته "يتعاونون مع الفصائل العلمانية والدول العربية والغربية وتركيا"، أما رافع فيرى أن قادة الدولة السورية الجديدة "يُظهرون موالاتهم للطواغيت ويناصرونهم على المسلمين، وهذا كفر صريح".

وبحسب الذين تمت مقابلتهم، فإن كثيرا من النقاشات التي تمت في السجن ومع خلايا التنظيم في الخارج كانت حول آليات إضعاف الدولة السورية الجديدة وشيطنتها وقادتها، بحيث يمكن استغلال حالة الضعف وتعزيزها من أجل خلق فرص ملائمة لاستهداف الدولة السورية ورموزها، وفي خارج السجن تدرس الخلايا إمكانية إعادة التموضع بين المدنيين في مناطق لم يكن فيها التنظيم سابقا وذلك للتحضر من أجل شن هجمات خاطفة وسريعة ضد الدولة، إضافة إلى محاولة تجنيد عناصر جدد أو نشر الرعب من الدولة في نفوس بعض الفصائل الأجنبية التي كانت موجودة في مناطق "هيئة تحرير الشام" سابقا من خلال إقناعهم بأن الدولة السورية ستستهدفهم قريبا وتنهي وجودهم في سوريا، ما يجعلهم يبحثون عن حليف لضمان سلامتهم.

أ.ف.ب
صورة جوية لمجمع سجن تدمر الفارغ الذي كانت تستخدمه حكومة الأسد سابقًا، في 7 فبراير 2025

"داعش"... خطر تتحضر له الدولة السورية

لأول مرة منذ سقوط النظام، تبنى "داعش" يوم الخميس الماضي 29 مايو/أيار، هجوما ضد الحكومة السورية عبر معرفاته، وبحسب ما نشر التنظيم فقد "انفجرت عبوة ناسفة زرعها جنود (دولة الخلافة) مسبقا على آلية لميليشيا جيش سوريا الحرّة بمنطقة تلول الصفا". وأضاف البيان أن "الهجوم أدى لمقتل عنصر وإصابة 3 آخرين".

الهجوم الذي شنّه "داعش" جاء بعد أيام من عمليتين نفذتهما الحكومة السورية في حلب وريف دمشق ضد خلايا "داعش"، أسفرت عن اعتقال عدد من عناصر التنظيم ومقتل آخرين، فضلا عن مصادرة أسلحة وعبوات ناسفة كان التنظيم ينوي استخدامها في هجماته ضد الحكومة السورية والسوريين.

يقول محافظ دير الزور غسان السيد في حديثه مع "المجلة" إن خطر الميليشيات الإيرانية وخطر تنظيم "داعش" من أبرز المخاطر التي تواجهها المحافظة، مؤكدا أن خطر "داعش" قائم في محافظة دير الزور والبادية، وهو خطر حقيقي، موضحا أن هناك عمليات تهريب تتم من مناطق "قسد" نحو محافظة دير الزور، والبادية، وأن لدى الدولة السورية معلومات حول نشاط التنظيم وتعمل على مواجهته بكل السبل الممكنة.

يمكن قراءة تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، من دمشق يوم 29 مايو الماضي، في سياق التحالف المشترك الممكن بين واشنطن ودمشق لمحاربة تنظيم "داعش"

كما تحدّثت "المجلة" مع عدد من قادة الأمن العام في الحكومة السورية حول خطر "داعش" القادم، والجهود المبذولة لمواجهة هذا الخطر، الجميع أكدوا أن جهودا كبيرة يتم بذلها لمراقبة نشاط "داعش" وخلاياه وسبل تجفيف قدراتهم العسكرية والرقمية، إضافة إلى أن الدولة السورية أرسلت الكثير من التعزيزات إلى مناطق وجود الخلايا كبادية دير الزور وتدمر ومنطقة الحماد وغيرها من المناطق المفتوحة على الصحراء السورية. هذه التعزيزات تضمنت أيضا إرسال عناصر على الحدود السورية العراقية لمنع التهريب الذي يمكن أن تقوم به خلايا "داعش".

لا شك أن الدولة السورية وحدها لن تكون قادرة على مواجهة خطر "داعش" بسرعة، خصوصا في ظل وجود توترات وعدم استقرار أمني بين الحكومة وبعض القوى العسكرية سواء في جنوب البلاد أو في شرقها. يُضاف إلى ذلك خطر جدّي آخر يتمثل في بقايا النظام السابق، وبعض العناصر السابقين ضمن الميليشيات الإيرانية والذين ما زالوا على تواصل مع الميليشيات التابعة لإيران سواء في لبنان أو العراق. عدم قدرة الحكومة على وضع كامل إمكانياتها لمواجهة التنظيم في الوقت الحالي يفتح الأبواب أمام فرص تعاون إقليمي ودولي مع الحكومة السورية وتنسيق مشترك من أجل دعم الجهود السورية والدولية للقضاء على "داعش" ، وهو أمر لن ترفضه دمشق التي أبدت استعدادا له من خلال الاعتماد على معلومات من قبل الجانب الأميركي في شهر يناير/كانون الثاني من العام الجاري، حيث نشرت صحيفة "واشنطن بوست" في الشهر نفسه تقريرا ذكرت فيه أن المخابرات الأميركية زوّدت دمشق بمعلومات عن مخطط لتنظيم "داعش" من أجل استهداف مزار السيدة زينب بريف دمشق.

ويمكن قراءة تصريحات المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، من دمشق يوم 29 مايو الماضي، في سياق التحالف المشترك الممكن بين واشنطن ودمشق لمحاربة تنظيم "داعش"، حيث قال باراك إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعتزم إعلان سوريا دولة غير راعية للإرهاب قريبا، موضحا أن الإدارة الأميركية تهدف إلى تمكين الحكومة في دمشق، وأن الجيش الأميركي أنجز ببراعة 99 في المئة من مهمته ضد تنظيم "داعش" في سوريا.

font change

مقالات ذات صلة