الحوار السوري – الإسرائيلي... ضرورة اللحظة وبناء الثقة

لينا جرادات
لينا جرادات

الحوار السوري – الإسرائيلي... ضرورة اللحظة وبناء الثقة

منذ انهيار نظام الأسد وصعود السلطة الانتقالية بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 2024، شنت إسرائيل ما يقارب سبعمئة غارة جوية على الأراضي السورية، رغم أن رصاصة واحدة لم تُطلق عبر الحدود من سوريا. وعلى ظاهر الأمر، تبدو إسرائيل هي الطرف المعتدي، لا سيما في ظل الدعوات العلنية التي أطلقها عدد من الوزراء الإسرائيليين لتقسيم سوريا. ويبدو حجم هذه الغارات وتواترها، في أحسن الأحوال، غير متناسب، وفي أسوئها جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إبقاء سوريا ضعيفة ومشتتة.

غير أن الاكتفاء بإدانة السلوك الإسرائيلي يغفل المنطق الاستراتيجي الذي يحكمه. وفهم هذا المنطق لا يعني تأييده، لكنه شرط لا بد منه لأي تواصل مثمر، كما لا يمكن من دونه الدفاع بفعالية عن مصالح سوريا الوطنية على المستويين الإقليمي والدولي.

لينا جرادات

من منظور إسرائيل، تتمثل أبرز التهديدات التي تواجهها في الحركات الإسلامية، سواء تمثلت في إيران وشبكة وكلائها كـ"حزب الله" و"حماس" والحوثيين، أو في الجماعات الجهادية العابرة للحدود كـ"داعش" و"القاعدة" وتفرعاتها. وفي حين تعرض القيادة السورية الانتقالية نفسها اليوم كطرف برغماتي وغير معادٍ، فإن كثيرين من صفوفها يرتبطون بسابق انتماء إلى جماعات إسلامية متشددة، ولا يزال بعضهم يتبنى مواقف أيديولوجية تسهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي.

لا يصح أن تُمنح الهواجس الإسرائيلية صلاحية دائمة لانتهاك السيادة السورية، ولا ينبغي أن يُستخدم ماضي سوريا المضطرب ذريعة تحول دون سعيها لبناء مستقبل أكثر استقرارا وشمولا 

لقد تشكلت العقيدة الأمنية الإسرائيلية من خلال تجارب مؤلمة، في مقدمتها ما واجهته مع "حماس" في غزة. تلك التجربة عمقت قناعة راسخة لدى كثير من الإسرائيليين بعدم إمكانية الثقة في الحكومات التي تقودها حركات إسلامية، إذ يُنظر إليها على أنها لا تلبث أن تتخلى عن البرغماتية لصالح الأيديولوجيا. فامتناع حكومة ما عن العنف اليوم لا يضمن لها أن تبقى على هذا النهج غدا، حين تتغلب العقيدة على حسابات الحكم الرشيد. ومن هذا المنطلق، فإن المبادرات السورية الأخيرة نحو التهدئة، وتلميحاتها بشأن الانضمام المستقبلي إلى "اتفاقات أبراهام"، لا تُستقبل في تل أبيب بوصفها اختراقات، بل تُقابل بشكوك، باعتبارها وعودا مؤقتة تفرضها الضرورات الانتقالية، لا قناعات دائمة. 

ومع ذلك، لا يصح أن تُمنح الهواجس الإسرائيلية صلاحية دائمة لانتهاك السيادة السورية، ولا ينبغي أن يُستخدم ماضي سوريا المضطرب ذريعة تحول دون سعيها لبناء مستقبل أكثر استقرارا وشمولا. إن ما هو مطلوب في هذه المرحلة ليس مزيدا من الغارات أو الخطابات المتشددة، بل حوار مباشر وشفاف وواقعي. 
ينبغي أن يبدأ هذا الحوار بأهداف محدودة وملموسة في الوقت نفسه. لا تشمل أي منها التطبيع، أو الانضمام إلى "اتفاقات أبراهام". ستتطلب هذه الخطوات تنازلات صعبة- وخاصة فيما يتعلق بمرتفعات الجولان- تنازلات لا تستطيع أن تقدمها بشكل مشروع إلا حكومة مستقبلية منتخبة ديمقراطيا. وبدلا من ذلك، ينبغي أن يكون الهدف المباشر من أي حوار مقبل هو التوصل إلى اتفاق مؤقت يعالج المخاوف الأمنية الإسرائيلية بشأن مسار سوريا، مع التأكيد على أنه لا يمكن اعتبار سوريا منطقة عازلة دائمة أو ساحة معركة للأذرع المختلفة. 
وقد تشمل إجراءات بناء الثقة تنسيقا ثنائيا بشأن أمن الحدود، أو عمليات مراقبة مشتركة، أو تعاونا محدودا في مشاريع إعادة الإعمار والطاقة في جنوب سوريا، بشكل مشابه للمشاركة البرغماتية التي شهدتها أجزاء من شمال سوريا الخاضعة للنفوذ التركي. والهدف هو بناء الثقة والقدرة على التنبؤ بما تحمله الأيام المقبلة، مما يمهد الطريق لمفاوضات ذات جدوى أكبر في المستقبل. 
قد يزعم البعض أن مثل هذه المبادرة غير مجدية، وأن تحالفات إسرائيل العالمية، وخاصة تحالفها مع الولايات المتحدة، لا يجبرها على تقديم أي تنازلات. إلا أن هذا الافتراض قد يفتقر إلى الدقة اليوم. في الواقع، يشير قرار الرئيس دونالد ترمب الأخير برفع العقوبات عن سوريا، رغم اعتراضات القادة الإسرائيليين الحاليين على ما يبدو، إلى بعض التحول في المواقف. وسواء كان هذا القرار استراتيجياً أم ذا طابع معاملاتي، فهو يشير إلى أن واشنطن منفتحة على منح الحكومة الانتقالية السورية فرصة لإثبات نفسها. 

لسنا بحاجة إلى تأييد أفعال إسرائيل في غزة أو في أي مكان آخر أو إضفاء الشرعية عليها كي ندرك أن إسرائيل حقيقة جيوسياسية. فهي مهيمنة عسكريا واقتصاديا، وراسخة دبلوماسيا 

إن تخفيف العقوبات هذا ليس موافقة غير مشروطة، بل يمثل فترة اختبار بتوقعات واضحة: إحراز تقدم في إيجاد حلول لوجود المقاتلين الأجانب، والمشاركة المسؤولة في الحرب المستمرة ضد "داعش"، واحترام التعددية وحقوق الأقليات، وأخيرا وليس آخرا علاقات بناءة مع الجيران، بما في ذلك إسرائيل. والطريقة التي تتعامل بها القيادة السورية مع هذه القضايا ستحدد استمرار تخفيف العقوبات أو تجديدها. 
وتشكل هذه اللحظة فرصة نادرة ينبغي على السلطة الانتقالية بقيادة "هيئة تحرير الشام" أن تنتهزها، فعلى الرغم من كل أعبائها الأيديولوجية، فإن هذه السلطة تملك اليوم فرصة حقيقية كي تثبت أنها قادرة على الحكم بشكل مختلف، وأنها قادرة على التعلم من الماضي وقيادة سوريا على مسار جديد. وسيكون الدخول مع إسرائيل في حوار جاد ومفتوح يعترف بالحقائق الصعبة بينما يطمح إلى تسوية حقيقية، دليلا قويا على هذا التطور. 

لينا جرادات


لسنا بحاجة إلى تأييد أفعال إسرائيل في غزة أو في أي مكان آخر أو إضفاء الشرعية عليها كي ندرك أن إسرائيل حقيقة جيوسياسية. فهي مهيمنة عسكريا واقتصاديا، وراسخة دبلوماسيا، ومدعومة- في أوقات مختلفة- من كافة القوى الكبرى، بما فيها روسيا والصين. ولا يعتبر تجاهل هذا الواقع استراتيجية ذكية أو صحيحة، بل مواجهته بحكمة ووعي هو الاستراتيجية الصحيحة. 
لن يبنى مستقبل سوريا بالشعارات أو بالصمت والتمنيات، بل سيصاغ من خلال قرارات صعبة، تُتخذ بوعي وإدراك، وتسمو فوق كل التحديات كي تكون مصالح الشعب السوري محركها ودليلها الأوحد. وفي هذه المرحلة، يبدو أن الحوار هو السبيل الأجدى أمام سوريا. 

font change