الاتجاهات الأساسية لإعادة إعمار سوريا الجديدة

لسوريا القدرة على التطوير والتحديث ومجاراة العصر

رويترز
رويترز
أشخاص يركبون دراجة نارية أمام مبنى متضرر بينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه سيأمر برفع العقوبات عن سوريا، في حلب، سوريا، 14 مايو

الاتجاهات الأساسية لإعادة إعمار سوريا الجديدة

في أي بلد في العالم تعرض لما تعرضت له سوريا من تدمير فوضوي وفي كل الاتجاهات؟ لا بد أن يقف الباحث مشدوها ومتأملا، متسائلا: من أين نبدأ؟

هل نبدأ بإعمار آلاف المساكن المدمرة ونصف المدمرة وعودة ملايين الناس الذين أمضوا في الهجرة القسرية سنوات طويلة؟ أم نبدأ بما يترتب على الدولة من إعادة البنى التحتية، الطرقات والكهرباء وتوفير مياه الشرب؟ أم إعادة بناء المدارس والمشافي والمراكز الصحية؟ أم العودة للعمل في الريف وإنتاج مستلزمات المعيشة اليومية لملايين الأفواه التي جاعت زمنا طويلا؟ أم البحث في إعادة ألق المدن التاريخية لسوريا، إلى تلك التي كانت على مر الزمان حواضر علم وصناعة ورقي وتحديث؟ أم إلى البحث المعمق في ماهية الصناعة وتكاملها مع القطاع الزراعي؟ أم في الكيفية التي يستطيع بها المخطط والدولة البناء المجتمعي الذي يعيد تماسك المجتمع الذي كان طوال آلاف السنين مجتمعا متآلفا لا يعرف ولا يعير اهتماما للتقسيمات التي برزت بفعل فاعل خلال الستين سنة البائسة؟

الفرص مؤاتية للبدء، وحذاري من التسرع في سلوك طريق التنمية غير المتوازنة وغير الشاملة أو تبني مشاريع قد تحتاج لزمن

نعم تتزاحم هذه الأسئلة في خاطرنا كسوريين ولدنا من جديد، ونظرنا على إعادة ما يمكن إعادته خلال فترة زمنية قصيرة، وقد مر بنا كل هذ الكم من الإحباط والقتل والتدمير الذي استهدف كل شيء في بلدنا.

إذن، علينا أن لا نتوقف أمام كل ما سبق. لكن هل بمقدورنا أن نتجاوز ذلك بكل بساطة، وأمامنا مدن مهدمة وقرى مدمرة وزراعة متراجعة وخدمات  مخربة مكسرة؟ لكن هل نكتفي بالوقوف على الأطلال ننعى حياتنا وبؤسنا وقلة حيلتنا؟ 

هذه لعمري محنة لن تدع شعبنا تائها حائرا،  وهذا الشعب الذي عمّر أماكن لجوئه وأجاد، وكان مثار فخر للمستضيفين ولشعبنا كله. انظروا في تركيا ومصر والأردن وأوروبا. هذا شعب صمم ونجح، وعندما نجح خارج وطنه سيكون أكثر نجاحا داخل وطنه. حنينه لوطنه قوي ولهفته عليه قوية، وقد تبدى ذلك بعد الانتصار وسقوط حكم الطاغوت الثلاثي في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وبعد ستة أشهر نجحت القيادة بدعم واضح من الأشقاء والأصدقاء في إزالة أكوام العقوبات التي كانت جاثمة على صدر شعبنا لسنوات طويلة بسبب غباء ورعونة أولئك الذي كانوا، وصاروا في خبر كان.

إنها الفرص المؤاتية للبدء، وحذاري من التسرع في سلوك طريق التنمية غير المتوازنة وغير الشاملة أو تبني مشاريع قد تحتاج لزمن، ونحن أحوج ما نكون لمشاريع تخدم التوسع في تشغيل ملايين العاطلين عن العمل من الشباب السوري. وحينما تتوفر فرص العمل هذه يصبح للعامل دخل يشبع حاجاته الأساسية من مأكل وملبس وسكن وتعليم لأولاده واستشفاء. وهذا التشغيل يعزز الانتماء للوطن الذي أهمله طويلا ويعيد الثقة إليه وهو يساهم ببناء المصانع والمعامل وتطوير الزراعة وتربية الحيوانات وزيادة الرقعة الزراعية والاندفاع نحو الإنتاج في كل المجالات لأنه سيكون جزءا منه.

لقطاع الطاقة أهميته الخاصة، إذ بلا كهرباء تتوقف الحياة سواء بالإنارة المنزلية أو بالصناعة. وللبترول أهميته أيضا، ففي سوريا إمكانية أن يرتفع إنتاج النفط لنحو 200 ألف برميل يوميا

لذلك، أنا أركز على التنمية المجتمعية التي ينتمي إليها المجتمع كله، ويرى فيها الإنجازات البادية للعيان وبالملموس. الفلاحون يعودون لأراضيهم ليبعثوا فيها النماء والخصوبة، والقطاع الفلاحي في سوريا هو قطاع كبير يشكل نحو أكثر من ثلاثين في المئة من الناتج القومي،  وهذا قطاع إنتاجه سريع. عدة أشهر ويحين القطاف وحصاد سنابل القمح التي لها دورة عظيمة تدخل في كثير من مراحل التصنيع، من الصوامع إلى المطاحن وما تقوم عليها من صناعات، فرغيف الخبز كان عزيزا في الحصول عليه وبالبطاقة التموينية. متى كان الخبز كذلك وشعار "الخبز للجميع" كان سورياً بامتياز. 

الزراعة والطاقة

وتأتي بعد ذلك واتصالا بالقطاع الفلاحي، تربية المواشي والدجاج، والفلاح في سوريا له خبرة واسعة في ذلك وكذلك مربو الماشية. حيث كان تعداد القطيع من أغنام العواس، نحو 25 مليون رأس نصدر منها أعدادا كبيرة للسعودية والخليج، كذلك الأبقار وتسمين العجول. كل ذلك يحقق الأمن الغذائي، والفلاح يزداد ألقاً مما أنتج ومما ربى. 

هذه بداية لا بد أن تتوسع. أضف لذلك زراعة الخضراوات بأنواعها وتفاصيلها وهي متعددة، والأشجار المثمرة، ولنا في "مسطحات قمردين" (شرائح المشمش المجفف) في الغوطتين (غوطتي دمشق) وأنواع الفواكه التي زحفت عليها أيادي اليباس فتحولت الغوطتان والمروج الخضراء إلى صحراء.

أ ف ب
صورة جوية تظهر المزارعين وهم يقطفون الفلفل الأحمر في حقل خلال موسم الحصاد في قرية سلقين في محافظة إدلب، بالقرب من الحدود مع تركيا، في 14 سبتمبر 2024

أضف إلى كل ما تقدم زراعة القطن السوري والقصب السكري. وهاتان المادتان لهما ارتباط بصناعة الغزول القطنية والملابس وصناعة السكر والخمائر. 

ولقطاع الطاقة أهميته الخاصة فهو مهم جدا، إذ بلا كهرباء تتوقف الحياة سواء بالإنارة المنزلية أو بالصناعة. وللبترول أهمية أيضا، ففي سوريا إمكانية أن يرتفع إنتاج النفط لنحو 200 ألف برميل يوميا من حقول الحسكة وحقول دير الزور ومناطق أخرى. وفي سوريا مكامن واعدة في الداخل وفي المنطقة الإقليمية والمنطقة الاقتصادية في البحر المتوسط. ولدى سوريا إمكانية إنتاجية من الغاز الطبيعي من حقل كونوكو وقارة ودير عطية والنبك.

ولا يمكن أن نتقدم من دون تعزيز الموارد المائية. وفي سوريا مصادر مهمة ينبغي تطويرها، فسوريا تحصل من نهر الفرات على نحو 18 مليار متر مكعب، ومن دجلة ومن بليخ والخابور والساجور، والسدود مثل "سد الفرات" الذي يحتجز بحيرة تحتوي على مليارات مكعبة من المياه، و"سد تشرين" و"سد نهر السن". وفي سوريا أيضا 200 سد ركامي يمكن إعادة تطويرها بالتعزيل والصيانة. 

تحتاج سوريا إلى إيجاد خطوط نقل متطورة لنقل الركاب وشحن المحاصيل الزراعية إلى مناطق الاستهلاك والربط السككي مع الدول المجاورة، تركيا والعراق والأردن وإلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج

كما أن المنطقة الوسطى حمص وحماة فيها نهر العاصي، وكذلك منطقة الجبال العالية والمنطقة الفقيرة بالمياه هي منطقة القلمون. وهناك دراسة قامت بها شركه أميركية سابقا اكتشفت حقلا مائيا عذبا يقع بين طرطوس وطرابلس، يمكن إحياء الدراسة بالتشارك مع لبنان وجر هذه المياه للقلمون ولدمشق. 

كل ما أشرت إليه هو دعوة للامتداد الأفقي لبداية التوجه لإعمار سوريا.

الخدمات و "طريق الحرير"

أما البحث في قطاع الخدمات والصناعة، فلهذين القطاعين أهمية قصوى في مسيرة التنمية وخاصة قطاع النقل لأهميته القصوى لأنه يخدم جميع القطاعات الاقتصادية، فمن دون الطرق والمواصلات لا يمكن للتنمية أن تنجح وتتوسع. فالطرق البرية وخاصة السريعة التي تربط مناطق الإنتاج بمراكز الاستهلاك بمراكز التصدير البري أو عبر البحر ومنها، وقد كانت الطرق ذات أهمية خاصة ولها مرونة في تعزيز الترابط السكاني بين المحافظات. وشبكة المواصلات في سوريا ترتبط بطرق سريعة مثل طريق "إم-4" بين حلب واللاذقية عبر إدلب، إلى الحسكة، وطريق "إم-5"بين حلب ودمشق إلى درعا، وهذان الطريقان البريان يربطان سوريا من الجنوب إلى الشمال، ومن المنطقة الساحلية إلى المنطقة الشرقية، بالمحافظات المنتجة للقمح والشعير والمنتجات الأخرى، ويربطان سوريا بالدول المجاورة، من تركيا إلى أوربا، ومن العراق إلى الخليج، ومن الأردن إلى الخليج وشمال أفريقيا.

أ ب
عامل يمشي بجوار مضخات نفط معطلة في حقل نفطي على مشارف مدينة القامشلي شمال شرق سوريا، 3 فبراير

وما تحتاجه سوريا إيجاد خطوط نقل متطورة من السكك الحديدية وقطارات حديثة لنقل الركاب والشحن للمحاصيل الزراعية إلى مناطق الاستهلاك والربط السككي مع الدول المجاورة تركيا والعراق والأردن وإلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، وإحياء "طريق الحرير" الذي يربط الشرق بالغرب عبر سوريا فضلا عن تطوير الموانئ على المتوسط، ورافعات التحميل والتنزيل ومحطات متطورة للحاويات، بالإضافة إلى تطوير المطارات والنقل الجوي عبر المطارات الدولية ليس فقط في دمشق وحلب ولكن في دير الزور والقامشلي والمنطقة الساحلية وإعادة تطوير مطاري دمشق وحلب، ليكونا قادرين على استيعاب المزيد من المسافرين ليترافق ذلك بالنهضة الموجودة لسوريا الجديدة وتطوير وزيادة أعداد الطائرات المتطورة وتطوير أسطول النقل البري.

كل ذلك يتم عبر التعاقد مع شركات استثمارية لسنوات محددة كي تسترد تكاليفها وصيانتها السنوية لجميع المرافق وبعد نهاية العقد تعود ملكيتها للدولة السورية كما هو واقع الحال في معظم دول العالم.

إن قطاع الخدمات هذا من الأهمية بحيث لا بد من البدء فيه سريعا لما يترتب عليه من تدعيم خطوات التنمية الشاملة والمتوازنة.

إعادة تطوير وتحسين قطاع الصناعة والعمل على إحياء المناطق الصناعية وإعادة استثمارها من شركات ذات خبرة تؤدي إلى فتح أبواب التوسع والجودة في عموم القطاعات

أما الولوج لقطاع الصناعة، فإعادة درس موضوع الصناعات والمعامل والمصانع القائمة توفر جهدا وأموالا. وعليه ففي سوريا قطاعات صناعية كانت رائدة وهي قطاع النسيج، ولسوريا ميزة هامة وعراقة في هذا القطاع وهو مترابط ومتكامل مع قطاع الزراعة كما أسلفنا، وأيضا مترابط مع قطاع التجارة. ولنا في "الشركة الخماسية" في دمشق، و"شركة الدبس" في حوش بلاس في دمشق، و"الشركة الحديثة" التي كانت تنتج أقمشة تضاهي أجواخ مدينة مانشستر في بريطانيا. كانت هذه الشركة قادرة على إنتاج الأصواف والقطن وللأسف تم تدمير هذه الشركة بسبب الإدارات الجاهلة والفاسدة، لكن الأبنية موجودة وربما بعض الهياكل.

أ ف ب
الحكومة السورية الجديدة يتوسطها الرئيس أحمد الشرع في القصر الرئاسي، سوريا في 29 مارس

صناعة واستثمار

وفي حلب عراقة في صناعة الحِرامات والبطانيات والأجواخ، وهو قطاع متطور. كما أن الدولة سابقا أنشأت معملين للغزل، أحدهما في إدلب والآخر في جبلة (غرب سوريا)، وطاقتهما الإنتاجية كبيرة، على أن معمل إدلب تمت سرقته وتدميره لكن الأرض موجودة بالإضافة إلى جزء من الأبنية. وعليه يمكن تلزيمه لشركة استثمارية تعيد العمل فيه وفق عقد لسنوات ثم تعاد ملكيته للدولة.

وللعلم، فإن القطاع الخاص في سنوات ما بعد 1993 كان قد خطا خطوات هامة في قطاع النسيج وصناعة الملابس وبرز "صنع في سوريا" كعلامة مميزة وتم التصدير وتحقيق مداخيل لا بأس بها من العملة الصعبة. وكذلك تجدر الإشارة إلى قطاع الصناعات الغذائية مثل معامل الكونسروة والتي طورها القطاع الخاص في نهاية التسعينات من حيث الشكل والتغليف، والكثير من المعلبات من المنتجات الزراعية كالمربيات والعصائر وغيرها، وهي معامل موجودة. بعضها قائم والبعض يحتاج إلى تجديد خطوط الإنتاج. ويمكن أن تعود الشركات الخاصة لأصحابها، أما شركات القطاع العام فيمكن إعادة النظر في خطوط الإنتاج وفي الإدارة.

إن إعادة تطوير وتحسين قطاع الصناعة والعمل على إحياء المناطق الصناعية وإعادة استثمارها من شركات ذات خبرة تؤدي إلى فتح أبواب التوسع والجودة في عموم القطاعات.

أما الصناعات الهندسية فقد تملكت الدولة المزيد من هذه المصانع وقد خدمت في فترة مميزة ولكنها تراجعت لأسباب تتعلق بالعقوبات التي فرضت على النظام السابق منذ عام 1979. بالتالي تراجعت كثيرا على أن القطاع الخاص دخل في هذه الصناعة وأبدع، فظهرت البرادات (الثلاجات) والغسالات والجلايات وأنواع أخرى، ونافست داخل سوريا والدول المجاورة.

لسوريا القدرة على التطوير والتحديث ومجاراة العصر، والسوريون قوم مبدعون إذا توفرت مناخات الحرية لأن التنمية والإبداع والتطوير بحاجة لحرية

ويوجد في سوريا معامل للزجاج بحاجة لإعادة تدوير، ومعمل للورق في دير الزور الذي بقي عشرين سنة لم يعرفوا (في النظام السابق) كيف يشغلونه حتى أهدوه لرجل أعمال من النمسا استطاع تشغيله مقابل عشرة ملايين دولار تدفع لوزارة الصناعة سنويا، وقد حقق أرباحا كبيرة من هذا المعمل. وهناك معامل أخرى لا يتسع المجال لذكرها وتحتاج لمساحة أوسع.

وفي سوريا صناعات كيميائية عديدة كمصانع الصابون والمنظفات والمواد الكيميائية، وقد برز القطاع الخاص في تطوير هذه الصناعات ولبى السوق السورية والتصدير، وقد ساعد القطاع الخاص في هذا صدور قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1990 وتعديلاته.

أضف لكل ما تقدم صناعة الدخان المعتمدة على زراعة التبغ في الساحل السوري وامتد إلى مناطق أخرى وحقق نتائج هامة على صعيد التصدير، لكن سيطرة الإدارات الفاسدة حدت من الاستفادة القصوى من تصدير الأصناف من هذه الصناعة، حيث تسلمت الدولة المعامل والتصدير بشكله الخام أو المصنّع.

أضف لذلك صناعة الأثاث المنزلي. حيث إن لسوريا عراقة في ذلك وفي التصدير للدول المجاورة. وهناك صناعة حرفية عريقة أخرى هامة في سوريا تدخلت فيها الدولة سابقا فقلّت في معظمها مثل البروكار، وأنواع من الأقمشة والسجاد والجلود والأحذية والنقش على الزجاج والنحاس والذهب والصياغة والخزف والرسم على الخشب والأقمشة والأصبغة.

إن لسوريا القدرة على التطوير والتحديث ومجاراة العصر، والسوريون قوم مبدعون إذا توفرت مناخات الحرية لأن التنمية بحاجة لحرية، والإبداع والتطوير بحاجة لحرية. والآن والحمد لله مناخ الحرية تمام التمام. إذن علينا أن ننطلق.

للعلم، التنمية ليس لها حدود وآفاقها واعدة وهي عملية مستمرة، وعلى بركة الله. فسوريا الجديدة قادمة بحول الله.

font change

مقالات ذات صلة