رفع العقوبات الأميركية عن سوريا... ما الآفاق الاقتصادية؟

القرار يسهل استقطاب التمويل والاستثمار الأجنبي وعودة رجال الأعمال لكن التحديات لا تزال كبيرة

.أ.ب
.أ.ب
برج سكني مدمر مهجور، نموذج عن نتائج الحرب في حمص 13 مايو 2025

رفع العقوبات الأميركية عن سوريا... ما الآفاق الاقتصادية؟

شكل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال اليوم الثاني من زيارته للمملكة العربية السعودية رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، صدمة اقتصادية إيجابية كبرى، وهو وصف تلك العقوبات بأنها وحشية ومعيقة. وتلا الإعلان الاجتماع الاستثنائي لترمب، في رعاية ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، مع الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي رحب بهذا القرار "التاريخي والشجاع".

يمثل إعلان رفع العقوبات انتصارا للسلطات السورية الجديدة ويؤكد نجاحها في تبديد المخاوف الخارجية وإقامة علاقات رسمية مع القوى الإقليمية والدولية، على الرغم من خلفية "هيئة تحرير الشام"، كما أدى الإعلان عن رفع العقوبات إلى ارتفاع فوري في قيمة الليرة السورية، وخرجت المسيرات في مختلف المدن السورية للتعبير عن فرحة السوريين بالخبر.

وينتظر المزيد من التطورات الإيجابية بعد صدور هذا القرار، إذ من شأنه تسهيل تعامل الجهات الإقليمية والدولية مع الدولة السورية ومؤسساتها، وسيمهد ذلك الطريق لتسهيل التبادلات المالية وإعادة دمج الاقتصاد السوري في الأسواق الدولية، وتنشيط حركة التجارة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتشجيع عودة رجال الأعمال السوريين من الخارج، وهي جميعا أهداف رئيسة للسلطات السورية الجديدة.

وتسعى دمشق للتواصل مع الشركات الإقليمية والدولية وإقناعها بالاستثمار في البلاد، لا سيما لتحديث البنى التحتية وتحقيق الإيرادات. على سبيل المثل، في 1 مايو/أيار وقعت مجموعة "سي. إم. إيه. سي. جي. إم." اللوجستية اتفاقا لمدة 30 عاما مع الحكومة السورية لتطوير ميناء اللاذقية، بما في ذلك إنشاء رصيف جديد واستثمار 260 مليون دولار لتعزيز الميناء. وتعمل المجموعة في اللاذقية منذ سنة 2009. وبموجب الاتفاق، ستحصل الحكومة على 60 في المئة من الإيرادات بينما تحصل المجموعة على 40 في المئة. بالإضافة إلى ذلك، التقى جوناثان باس، الناشط الجمهوري المقرب من الرئيس ترمب ورئيس شركة "أرجنت إل. إن. جي." للغاز الطبيعي، بالرئيس الشرع في نهاية أبريل/نيسان حاملا خطة لمشاركة شركات غربية في تطوير موارد الغاز السورية.

تحرير الأصول المجمدة

على الصعيد المالي، يمكن أن يؤدي رفع مجموعة واسعة من العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا بموجب أوامر تنفيذية بين سنتي 2004 و2019، إلى تحرير الأصول المجمدة، وإنهاء الحظر المفروض على المعاملات بالدولار الأميركي وإعادة ربط المصارف السورية بنظام "سويفت" العالمي. وسيسهل ذلك على سوريا أيضا الحصول على التمويل والقروض من المؤسسات المالية الدولية ومصارف التنمية. على سبيل المثل، أعاد "البنك الإسلامي للتنمية" عضوية سوريا رسميا في منتصف مارس/آذار، ويخدم المصرف الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، ويمول مشاريع في مجالات البنية التحتية وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وفي منتصف أبريل/نيسان 2025، شارك محافظ مصرف سوريا المركزي ووزير المالية السوري في اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاما.

يؤدي رفع العقوبات على سوريا التي فرضت ما بين سنتي 2004 و2019، إلى تحرير الأصول المجمدة، وإنهاء الحظر المفروض على المعاملات بالدولار الأميركي وإعادة ربط المصارف السورية بنظام "سويفت"

وفي نهاية أبريل/نيسان 2025، أعلنت المملكة العربية السعودية وقطر أنهما ستسددان متأخرات سوريا المستحقة للبنك الدولي، والتي تبلغ نحو 15 مليون دولار. تسوية هذه المتأخرات ستمكن دمشق من استئناف الحصول على الدعم المالي والمشورة الفنية من البنك.

كما يأتي رفع العقوبات تأكيدا للضوء الأخضر الذي منحته الولايات المتحدة لمبادرتي قطر في الأسابيع الماضية بتقديم الدعم المالي لسوريا وتوفير الطاقة. أولى تلك المبادرات إعلان مسؤولين قطريين خططا لتزويد سوريا مليوني متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميا عبر خط أنابيب الغاز العربي، الذي يمر عبر الأردن. وأعلن وزير الكهرباء السوري عمر شقروق أن الاتفاق سيسمح بتوليد 400 ميغاواط من الكهرباء يوميا في محطة دير علي، وهو ما يرفع الإنتاج الإجمالي بنحو 27 في المئة من 1500 ميغاواط إلى 1900 ميغاواط، مع خطط لمزيد من الرفع التدريجي. وسيضاعف ذلك إمداد الكهرباء من ساعتين إلى أربع ساعات يوميا. أما المبادرة الثانية، فستقدم قطر بموجبها لسوريا 29 مليون دولار شهريا لمدة ثلاثة أشهر، قابلة للتمديد، لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام. و في كلتا الحالتين، ستقدم الأموال من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

عقبات لا تزال في الطريق

بعبارة أخرى، يعد رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بارقة أمل كبير للشعب السوري، بإزالة إحدى أهم العقبات أمام إنعاش الاقتصاد. لكن لا تزال هناك عوائق أمام نجاح تعافي الاقتصاد السوري.

رويترز
سوريين يصرفون أموالا بعد ارتفعاع سعر الليرة على إثر إعلان الرئيس الأميركية دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا خلال زيارته السعودية، دمشق، 14 مايو 2025

أولا، يجب تأكيد رفع العقوبات من خلال إجراءات واضحة، وربما يستغرق ذلك بعض الوقت. فعلى الرغم من أن سوريا تخضع لعقوبات أميركية منذ سنة 1979، بعد إدراجها على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، فإن "قانون قيصر" الذي أقرّ في ديسمبر/كانون الأول 2019 هو الذي أثر بشدة على الاقتصاد السوري وفرض عقوبات على أي جهة تحاول مساعدة النظام السوري السابق، وتساهم في إعادة إعمار البلاد. ويتطلب "قانون قيصر"، تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب، موافقة الكونغرس رسميا على رفع العقوبات. بعد ذلك، يسمح لمصرف سوريا المركزي، بالحصول على قروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ومع ذلك، يمكن إزالة هذه العقبات بسرعة نسبيا من خلال إصدار الرئيس الأميركي إعفاءً من العقوبات، بل يمكن إنهاءها بعدم تنفيذها.

في ما يتعلق بالعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، فإنها تخضع لقرار مجلس الأمن الدولي، وبالتالي ليس الولايات المتحدة وحدها. غير أنه من المرجح التوصل إلى اتفاق لاتباع قرار واشنطن، لا سيما في ظل تسارع خطوات الاعتراف الإقليمي والدولي بالحكومة السورية الجديدة.

لا تزال البنية التحتية وشبكات الطرق السورية مدمرة، كما أن تكاليف الإنتاج مرتفعة، لا سيما تكلفة الكهرباء، ولا تزال البلاد تواجه نقصا حادا في السلع الأساسية وموارد الطاقة، وهو ما يمكن تخفيف حدته مع رفع العقوبات

في هذا السياق، وفي ظل الغموض الذي لا يزال يكتنف عملية رفع العقوبات، ستتريث المؤسسات المالية ورجال الأعمال والتجار، بضعة أسابيع أو أشهرا على الأقل، قبل التعامل مع أي شخص أو أي أمر يتعلق بسوريا، في انتظار التقدم في تنفيذ القرار. ولكن الأهم من ذلك، حتى في غياب العقوبات، فإن المشاكل الاقتصادية الهيكلية العميقة لا تزال قائمة بقوة.

إذ لا يزال هناك طريق طويل قبل استقرار الليرة السورية، وهو ما يردع المستثمرين الباحثين عن عوائد سريعة أو على المدى المتوسط. فالدمار الذي لحق بالقطاعات الإنتاجية للاقتصاد، لا سيما الصناعات التحويلية والقطاع الزراعي، والعجز المستمر في الميزان التجاري، تضع ضغوطا على الليرة السورية. ويعتمد استقرار الليرة السورية أيضا على تطور الأزمة المالية اللبنانية، في حين لا تزال العملة الوطنية تواجه منافسة من الليرة التركية في بعض المناطق في الشمال الغربي، ويستمر تداول الدولار الأميركي على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد.

تكاليف إعادة تأهيل البنى التحتية مرتفعة

في غضون ذلك، لا تزال البنية التحتية وشبكات الطرق السورية مدمرة، كما أن تكاليف الإنتاج مرتفعة، لا سيما تكلفة الكهرباء، ولا تزال البلاد تواجه نقصا حادا في السلع الأساسية وموارد الطاقة، وهو ما يمكن تخفيف حدته مع رفع العقوبات. وكانت إمدادات النفط شهدت تحسنا نسبيا أخيرا مع زيادة تدفق الإمدادات من روسيا منذ مطلع السنة الجارية، مع أن ذلك لا يزال غير كافٍ. 

هناك أيضا نقص حاد في العمالة المؤهلة، ولا يوجد مؤشرات واضحة الى عودة واسعة للعمالة الماهرة في المستقبل القريب. في هذا الإطار، فإن احتمال رفع رواتب الموظفين في القطاع العام بنسبة 400 في المئة وتحديد الحد الأدنى للأجور عند 1,12 مليون ليرة سورية (نحو 86 دولارا)، بدعم قطري، خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى قاصرة عن تغطية نفقات المعيشة وسط استمرار الأزمة الاقتصادية. ففي نهاية مارس/آذار، قُدر الحد الأدنى للنفقات الشهرية لأسرة مكونة من خمسة أفراد في دمشق بنحو 8 ملايين ليرة سورية (أي ما يعادل 666 دولارا).

واقع القطاع الخاص

أما القطاع الخاص، الذي يتكون في الغالب من مؤسسات متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة الحجم ذات قدرات محدودة، فإنه في حاجة إلى كثير من التحديث وإعادة البناء بعد ما يزيد على 13 عاما من الحرب والدمار. كما أن قرار دمشق خفض التعريفات الجمركية على أكثر من 260 منتجا تركيا ألحق ضررا بالإنتاج الوطني، لا سيما المؤسسات المذكورة في الصناعات التحويلية والزراعة، التي تجد صعوبة في منافسة الواردات التركية. ووفقا لوزارة التجارة التركية، بلغت الصادرات التركية إلى سوريا في الربع الأول من السنة الجارية نحو 508 ملايين دولار، بزيادة قدرها 31,2 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2024.

تراجع مستوى إنتاج النفط والغاز الطبيعي في سوريا بحدة منذ سنة 2011، من 385 ألف برميل يوميا في سنة 2010 إلى نحو 110 آلاف برميل في بداية سنة 2025

تعاني الدولة أيضا من شح شديد في الموارد، وهو ما يحد من الاستثمار في الاقتصاد، في حين أن التوجه الاقتصادي السياسي للسلطات الجديدة يفضل نموذجا اقتصاديا تجاريا يركز على الاستثمارات التي تحقق الأرباح على المدى القصير، على حساب القطاعات الإنتاجية.

تتركز موارد النفط الرئيسة في سوريا في الشمال الشرقي، وهي منطقة تخضع حاليا لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا. وقد سهل الاتفاق بين الرئاسة السورية والإدارة الذاتية في مارس/آذار إمكان حصول دمشق جزئيا على هذا المورد. غير أن إنتاج النفط والغاز الطبيعي في سوريا استمر في التراجع بحدة منذ سنة 2011، من 385 ألف برميل يوميا في سنة 2010 إلى نحو 110 آلاف برميل في بداية سنة 2025 - وذلك غير كافٍ إلى حد كبير لتلبية الاحتياجات المحلية، ولا يتيح فرصا استثمارية كبيرة أمام الجهات الأجنبية.

خصخصة الموانئ والمصانع التي تمتلكها الدولة

في الوقت نفسه، تؤدي التوجهات والقرارات الاقتصادية للحكومة إلى تعميق النموذج الليبيرالي وتسريعه، وتصاحب ذلك تدابير تقشفية. وهناك دلائل ملموسة على أن السلطات الجديدة ترغب في تسريع عملية خصخصة أصول الدولة. فوفقا لما قاله وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لصحيفة "فايننشال تايمز" قبل توجهه إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، تعتزم السلطات الجديدة خصخصة الموانئ والمصانع التي تمتلكها الدولة، وفتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي وتعزيز التجارة الدولية. وأضاف أن الحكومة "ستدرس إقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق".

.أ.ب
السوريون يحتفلون بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا بعد محادثات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حمص، 13 مايو 2025

واتخذت قرارات عديدة في إطار التدابير التقشفية. فقد ارتفع سعر ربطة الخبز المدعوم (زنة 1100 غرام) من 400 ليرة سورية إلى 4000 ليرة سورية (زنة 1500 غرام في البداية ثم خفض الوزن إلى 1200 غرام). وأعلن عن اعتزام إنهاء دعم الخبز خلال الأشهر التالية، انسجاما مع التوجه لتحرير السوق. وبعد أسابيع قليلة، صرح وزير الكهرباء عمر شقروق في يناير/كانون الثاني 2025 في مقابلة مع الموقع الإلكتروني "سيريا ريبورت" بأن الحكومة تعتزم في نهاية المطاف خفض دعم أسعار الكهرباء أو حتى إلغاءه لأن "الأسعار الحالية منخفضة للغاية، وأقل بكثير من تكاليف الإنتاج، ولكن ذلك سيتم تدريجيا ولن ينفذ إلا إذا ارتفع متوسط الدخل". تجدر الإشارة إلى أن مؤسسات الدولة لا توفر التيار الكهربائي في المدن الرئيسة حاليا أكثر من ساعتين يوميا. في غضون ذلك، ارتفع سعر أسطوانة الغاز المنزلي المدعومة من 25 ألف ليرة سورية (2,1 دولار) إلى 150 ألف ليرة سورية (12,5 دولارا) ، وهو ما يثقل كاهل الأسر السورية.

مشكلة الأجور وموظفي القطاع العام

وأعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية تسريح ما بين ربع وثلث القوى العاملة في القطاع العام، ويشكل هؤلاء وفقا للسلطات الجديدة الموظفين الذين يتقاضون رواتب من دون عمل فعلي. ولم تنشر حتى الآن أي تقديرات رسمية للعدد الإجمالي للموظفين المسرحين. وقد منح بعضهم حاليا إجازات مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر للتحقق مما إذا كانوا يعملون أم لا. وقد أثار ذلك القرار احتجاجات من العمال الذين سرحوا أو أوقفوا عن العمل في جميع أنحاء البلاد في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2025. غير أن الأحداث في المناطق الساحلية ومع السكان الدروز أضعفت كثيرا قوة الحركة الاحتجاجية، بسبب المخاوف من رد الفعل.

.أ.ف.ب
سوري يحمل طفله أمام منزل مدمر جراء القصف خلال الحرب الأهلية السورية، محافظة إدلب، 20 مارس 2013

في هذا السياق، تساهم القرارات الاقتصادية التي تتخذها السلطات الجديدة في تزايد فقر شرائح واسعة من السكان وتعميق التراجع في قطاعات الاقتصاد السوري الإنتاجية. ولكن التحديات والصعوبات التي تواجه الوضع السياسي في سوريا، بما في ذلك الانقسامات المناطقية والسياسية، والنفوذ الأجنبي واحتلال أجزاء من البلاد، والتوترات الطائفية، قد تؤخر الاستثمار الأجنبي المباشر وعودة رجال الأعمال السوريين المقيمين في الخارج.

في الختام، لا شك أن إعلان الولايات المتحدة رفع العقوبة، بعد نحو من ستة أشهر على سقوط نظام الأسد، يعد خبرا طيبا، لكن نجاح التعافي الاقتصادي يتطلب كثيرا من العمل على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية.

font change

مقالات ذات صلة