السودان... دماء بلا ضفاف وحرب بلا نهاية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل بين الأنقاض قرب مبانٍ متضررة في ضاحية لاماب، على المشارف الجنوبية الغربية للعاصمة السودانية الخرطوم، في 30 يوليو 2025

السودان... دماء بلا ضفاف وحرب بلا نهاية

في خضم العتمة الممتدة التي ألقت بها الحرب على أرض السودان، تتماوج مشاهد القتل والدمار والتشريد، لا كحالات استثنائية، بل كملامح دائمة لحاضر دموي لم تعرف البلاد له مثيلا في تاريخها الحديث.

منذ أبريل/نيسان 2023، ميقات اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع"، لم تعد الصور المروعة للدمار في الخرطوم والجزيرة ولا أخبار المجاعة القارصة في الفاشر ونيالا، ولا مشاهد القتل والإبادة الجماعية في الجنينة، ولا أخبار الاغتصابات والعنف الجنسي غير المسبوق في الخرطوم ودارفور، صادمة بما يكفي لتوقف آلة العنف، بل أصبح التوحش هو القاعدة وليس الاستثناء.

لم تعُد الحرب مجرد مواجهة عسكرية، بل تحولت إلى مذبحة إنسانية شاملة. فاقت أعداد الضحايا الحصر، تجاوزت أعداد الضحايا المدنيين 61 ألفا في العاصمة الخرطوم وحدها، بينما راح ضحية مذبحة المساليت التي ارتكبتها ميليشيا "الدعم السريع" في مطلع الحرب 15 ألف نسمة. فيما وضعت تقديرات أخرى عدد الضحايا المدنيين ليصل إلى 150 ألفا من المدنيين. اضطر أكثر من 14 مليون مواطن للفرار من منازلهم طلبا للسلامة، ونزح حوالي10 ملايين مواطن إلى المناطق الآمنة نسبيا تحت سيطرة الجيش السوداني، بينما لجأ أكثر من 4 ملايين نسمة إلى خارج البلاد فيما وصفته منظمات الأمم المتحدة مرارا بأنه أكبر كارثة تشريد ونزوح في العالم.

مارست "قوات الدعم السريع" سياسات تجويع متعمدة، تراوحت أساليبها بين منع الإغاثة الإنسانية من المرور كما يحدث الآن في مدينة الفاشر المحاصرة منذ أبريل 2024، وبين إفساد المحاصيل وتسميم موارد المياه كما حدث في ولاية الجزيرة إبان سيطرة الميليشيا عليها.

أصبحت أسماء المجازر معلقة في ذاكرة كل سوداني، من الجنينة، إلى أردمتا إلى ود النورة إلى مخيم زمزم إلى الهلالية، بل في كل مكان زحفت إليه جحافل الميليشيا، نجدها قد طبعت على أرضه خواتم الدم والدمار.

وفي قلب هذه المأساة، أصبحت مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور وأكبر مدن الإقليم والتي لا تزال تحت سيطرة الجيش السوداني، نموذجا للصمود الأسطوري. منذ أبريل 2024، حاصرت "الدعم السريع" هذه المدينة من كل جانب وقطعت عنها خطوط الإمداد، ولكنها ما زالت تقاوم بأسنانها وأظافرها أمام موجات الهجوم المتكررة. بيد أن هذه الملحمة تخللتها جروح نازفة، أبرزها الجريمة المروعة التي ارتكبتها الميليشيا في اجتياح مخيم زمزم للنازحين، حيث قتل وجرح المئات في ساعات، وتعرضت النساء والأطفال لأبشع صنوف العنف، في مشهد يلخص وحشية الحرب وغياب الضمير الإنساني. وكشف تقرير حديث لصحيفة "الغارديان" اللندنية عن مقتل أكثر من 1500 مدني خلال هجوم "الدعم السريع" على مخيم زمزم للنازحين والذي استمر لمدة 72 ساعة بين11 و14 أبريل فيما لا يزال مئات المدنيين في عداد المفقودين.

الانهيار الاقتصادي الحاد، بما حمله من فقر مدقع ومجاعة واسعة، خلق بيئة مثالية لتجنيد الشباب في صفوف الميليشيات

ومنذ اندلاع الحرب تراجعت السياسة أمام عسكرة المجال العام، وانزلقت بعض القوى المدنية، طوعا أو اضطرارا، إلى موقع التابع لأجندات إقليمية مستفيدة من استمرار الحرب في السودان، متخلية بذلك عن استقلاليتها وعن مشروعها الوطني. وبذلك، لم تُعطَّل فقط أدوات التغيير السلمي، بل جرى تفريغ السياسة من مضمونها، لتصبح ملحقا بحروب الآخرين، بدل أن تكون وسيلة السودانيين لاستعادة دولتهم.

اقتصاديا، أدت الحرب إلى انهيار غير مسبوق، حيث انخفض سعر صرف العملة السودانية بنسبة 233  في المئة بحلول ديسمبر/كانون الأول 2024، فيما يكاد الانهيار يصل إلى 460  في المئة في منتصف 2025  بالمقارنة مع مستويات ما قبل اندلاع الحرب في أبريل 2023  (كانت قيمة الدولار مقابل الجنيه السوداني 650 جنيها في أبريل 2023 ووصلت حاليا إلى 3000 جنيه). وقفز التضخم إلى مستويات مفرطة- معدل تضخّم نصف سنوي بلغ 136.7- في المئة في النصف الأول من 2024، وساهم النهب الواسع للعملة السودانية من البنوك الذي قامت به عناصر الميليشيا إبان سيطرتها على الخرطوم في ارتفاع مستويات التضخم بشكل جنوني. ولم تؤدِّ الحرب فقط إلى توقف النمو، بل ألحقت أضرارا اقتصادية ضخمة أفقدت السودان نصف قدرته الإنتاجية خلال نحو عامين. انهيار العملة والتضخم المفرط قد عمّا السودانيين طيلة الحاجات الأساسية، بينما ضعف الإنتاج وفقدان الوظائف يضعان البلاد على حافة الانهيار الاجتماعي الكلي.

أ.ف.ب
سودانيون يحاولون تلقي وجبات مجانية في مدينة الفاشر، التي تحاصرها "قوات الدعم السريع" منذ أكثر من عام، في إقليم دارفور، في 11 أغسطس 2025

الانهيار الاقتصادي الحاد، بما حمله من فقر مدقع ومجاعة واسعة، خلق بيئة مثالية لتجنيد الشباب في صفوف الميليشيات، إذ أصبح حمل السلاح بالنسبة لكثيرين هو الوسيلة الوحيدة للبقاء وكسب لقمة العيش. خصوصا مع الاستقطاب الإثني الحاد الذي خلقته الحرب واستثمرت فيه أطرافها. وفي ظل انهيار الخدمات الأساسية- من صحة وتعليم ومياه وكهرباء- تآكلت شرعية أي سلطة قائمة أو طامحة، ليصبح مفهوم الشرعية نفسه موضع إعادة تعريف، حيث لم يعد يُقاس بقدرة الحاكم على فرض السيطرة أو رفع الشعارات، بل بقدرته على توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة. هذه التحولات العميقة تنذر بإعادة صياغة العقد الاجتماعي من أساسه، على نحو قد يرسم ملامح دولة مختلفة تماما عمّا عرفه السودانيون قبل الحرب.

التاريخ والجغرافيا يعلّماننا أن الحروب كلما طالت تفقد بوصلتها وتتحول إلى مسارات متشعبة، بعضها أكثر تدميرا من الآخر، وكلها تحمل كلفة إنسانية وإقليمية هائلة

ظهرت أصابع التدخل الخارجي في الحرب السودانية بشكل كبير. تستمر قوى إقليمية في تقديم الدعم والتسليح المستمر لميليشيا "الدعم السريع" ودعم سردياتها السياسية ومساعدتها في التشويش الإعلامي والتغطية على جرائمها وأفعالها. بينما برزت موخرا قضية المرتزقة الكولومبيين الذي يشاركون في صفوف "الدعم السريع" بشكل كبير وهو ما أشار إليه وانتقده مرارا الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو على منصة "إكس"، بينما قدمت الحكومة الكولومبية اعتذارا رسميا للحكومة السودانية عند انكشاف هذه المشاركة. والكولومبيون ليسوا وحدهم، فقد شاهد السودانيون المرتزقة الذي يتحدثون الفرنسية من شتى دول غرب أفريقيا وهم يحتلون بلادهم من على صهوة ميليشيا "الدعم السريع". هذه التدخلات الخارجية لا تؤدي إلى إطالة أمد الحرب فقط، بل إنها تسهم أيضا في تغيير بنيتها، من نزاع على السلطة إلى حرب تفكيك ممنهج للدولة. وقف هذه التدخلات ليس مطلبا سياسيا فحسب، بل ضرورة عملية لقطع شريان الحياة عن آلة الحرب ووقفها.

وعند النظر إلى المسارات المحتملة إذا استمرت هذه الحرب ضمن الظروف الحالية، فالتاريخ والجغرافيا يعلّماننا أن الحروب كلما طالت تفقد بوصلتها وتتحول إلى مسارات متشعبة، بعضها أكثر تدميرا من الآخر، وكلها تحمل كلفة إنسانية وإقليمية هائلة.

أول هذه المسارات هو الانهيار الشامل للدولة وتحولها إلى "سودان الفصائل". في هذا السيناريو، تتقلص سلطة الحكومة المركزية إلى جيوب معزولة، فيما تتحول بقية البلاد إلى مناطق نفوذ تديرها قوى مسلحة متباينة- الجيش في بعض المناطق، وميليشيا الدعم السريع في أخرى، وحركات مسلحة وقوى قبلية في أطراف بعيدة.

إقليميا، سيخلق هذا وضعا يشبه الصومال في التسعينات، حيث تتحول الحدود إلى ممرات مفتوحة للتهريب والسلاح والمقاتلين، مما يهدد استقرار دول الجوار خاصة تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، ويفتح الباب لتمدد جماعات مسلحة عابرة للحدود.

المسار الثاني يتمثل في استمرار الحرب مع تدخلات خارجية أعمق، حيث تتزايد مطامع القوى الإقليمية والدولية مع استمرار الحرب وتتوسع أدوارها ومشاركتها إما عبر دعم مباشر أو عبر وكلاء. هذا السيناريو يحوّل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة، كما حدث في ليبيا واليمن، مما يضاعف أمد الحرب ويزيد من تعقيدها. إقليميا، سيتحول القرن الأفريقي وحوض النيل إلى بؤر توتر مزمنة، وستجد دول مثل مصر وإثيوبيا وتشاد نفسها مجبرة على إدارة تداعيات نزاع لا تملك السيطرة عليه، بينما تستفيد قوى أخرى من استمرار الفوضى لتعزيز نفوذها الاستراتيجي.

أما المسار الثالث فهو توازن الضعف المؤدي إلى تجميد الصراع، حيث يعجز أي طرف عن تحقيق حسم عسكري، وتتجمد خطوط التماس مع استمرار مناوشات متقطعة. على السطح، قد يبدو هذا السيناريو أقل دموية، لكنه يحمل في جوهره خطورة تحول السودان إلى دولة مفككة بلا سلطة مركزية حقيقية، يعيش سكانها على هامش الاقتصاد الإقليمي، وتعتمد مناطق واسعة على المساعدات أو الاقتصاد غير الرسمي. إقليميا، سيفرض ذلك عبئا طويل الأمد على المنظمات الإنسانية ودول الجوار، ويحول السودان إلى "فراغ أمني" يمكن أن تستغله شبكات التهريب والإرهاب.

الحرب في السودان لم تعد مجرد نزاع عسكري أو أزمة سياسية مؤقتة، بل هي مأساة عميقة تهدد وجود الدولة وكيان المجتمع نفسه

المسار الرابع- وربما الأخطر- هو تحول الحرب إلى نزاع إثني–جهوي واسع. هنا يتفتت الصراع إلى سلسلة من الحروب المحلية بين مكونات قبلية وإثنية، خاصة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق. النتيجة المباشرة ستكون موجات تطهير عرقي جديدة، واحتمال نشوء كيانات شبه مستقلة بحكم الأمر الواقع. إقليميا، سيؤدي هذا إلى تفاقم أزمة اللاجئين ونقل النزاعات القبلية إلى دول الجوار، مع تآكل كامل لفكرة السودان الموحّد، وتحوّل حدوده الطويلة إلى خطوط تماس دائمة.

هذه السيناريوهات، رغم تباينها، تشترك في حقيقة واحدة: أن استمرار الحرب يعني تراكم الأضرار حتى تصبح غير قابلة للعكس، وأن أثرها لن يتوقف عند حدود السودان، بل سيمتد إلى قلب القرن الأفريقي وشماله وغربه، جاعلا من السودان بؤرة عدم استقرار إقليمي لعقود قادمة.

أ.ف.ب
عناصر من "قوات الدعم السريع" لعى متن مركبة عسكرية في منطقة شرق النيل بالخرطوم الكبرى في 23 أبريل 2023

إن وقف الحرب في السودان ليس أمرا مستحيلا، لكنه يحتاج إلى تضافر الجهود الدولية والمحلية وتعزيز الإرادة السياسية لتحقيق عدة خطوات جوهرية. أولا، يجب فرض وقف شامل وفوري لإطلاق النار، مدعوما بضمانات دولية صارمة لضمان التزام الأطراف المتنازعة. ثانيا، يتطلب الأمر تفعيل حظر توريد الأسلحة وفقا لقرارات الأمم المتحدة، خاصة القرار 1591 الذي يستهدف دارفور، مع وضع آلية رقابة شفافة لمنع أي انتهاكات. إلى جانب ذلك، لا بد من إطلاق عملية سياسية شاملة بقيادة سودانية حقيقية، يشارك فيها جميع الفاعلين، بما في ذلك ممثلو الضحايا والنازحين والمجتمع المدني، مع مرافقتها بجهود تعافٍ وطني ومصالحات قبلية تعيد رتق النسيج الاجتماعي وتقضي على التجنيد العرقي الذي استغلته ميليشيات عدة. كما يجب محاسبة مرتكبي الجرائم، سواء عبر القضاء الوطني أو المحاكم الدولية، وضمان أن لا تتحول العدالة الانتقالية إلى وسيلة للإفلات من العقاب. أخيرا، لا غنى عن إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، كمسار مواز للعمل السياسي من أجل إعادة الحياة إلى طبيعتها بالنسبة للمواطن مع إيلاء أولوية قصوى لإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية لضمان استقرار دائم.

في نهاية المطاف، الحرب في السودان لم تعد مجرد نزاع عسكري أو أزمة سياسية مؤقتة، بل هي مأساة عميقة تهدد وجود الدولة وكيان المجتمع نفسه. واستمرار هذا النزيف يعني المزيد من التفكك والدمار، لا على السودان وحده، بل على كامل المنطقة. لذلك، فإن إيقاف الحرب ليس ترفا أو خيارا بين الخيارات، بل هو واجب وطني وإنساني عاجل، يبدأ بوقف القتال وقطع شرايين الدعم الخارجي، وينتهي بإعادة بناء دولة مدنية تحترم حقوق مواطنيها وتؤسس لعقد اجتماعي جديد يضمن السلام والاستقرار والكرامة للجميع.

font change