على حافة الهاوية... السودان وميقات "الشر الأعظم"

انهيار الدولة ليس مجرد احتمال

غيتي
غيتي
تصاعد الدخان في خط مواجهة، حيث تدور اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم، السودان، في 27 ديسمبر 2024

على حافة الهاوية... السودان وميقات "الشر الأعظم"

في السودان، تتقاطع عجلات التاريخ والجغرافيا حاليا لتنسج خيوط مأساة وجودية لا تتسبب في معاناة إنسانية غير مسبوقة فحسب، بل تهدد بابتلاع البلاد في دوامة الفوضى. منذ أبريل/نيسان 2023، ألقت الحرب بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو ظلالها القاتمة على نسيج الأمة، لتسببها في جرائم وانتهاكات غير مسبوقة في تاريخ البلاد، ودمار فادح في بنيتها التحتية، واقتصادها، وروابطها الاجتماعية.

ازدادت الحرب تعقيدا بسبب "متاهة معرفية" واسعة من المعلومات المضللة والسرديات البديلة التي غطت على حقيقة الحرب والتي تم ترويجها عبر تواطؤ خطاب تحالف "تقدّم" (الذي أصبح يُعرف الآن بـ"صمود")، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك، مع خطاب "قوات الدعم السريع" من تعقيد المشهد، إذ وفر هذا التواطؤ غطاء مدنيا لطموحات الميليشيا تحت لافتة السلام والتحول المدني.

هذا الصراع المستمر في السودان، لم يعد مجرد نزاع عسكري على السلطة، بل تهديد وجودي للدولة ذاتها، التي تتآكل تحت وطأة العنف المتواصل وتحت انخراط نخبة سياسية مدنية في مواصلة التبرير لهذا العنف عبر السرديات البديلة التي تغذي طموحات ميليشيا "الدعم السريع" في حكم البلاد أو في انتزاع جزء منها. إن انهيار الدولة، كما حذر منه توماس هوبز في كتابه "الليفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة"، ينذر بغياب السيادة، حيث يصبح "العقد الاجتماعي هشا"، وتتحول الحياة إلى "وحشية وقصيرة" على حد قوله.

ألف هوبز كتابه أثناء الحرب الأهلية الإنجليزية (1651-1642)، ليقول إن الحروب الداخلية لا يمكن تجنبها الا عبر حكومة قوية، غير منقسمة، تكتسب مقومات السلطة المطلقة عبر التزامات خدمة العقد الاجتماعي. وفي هذا السياق، تقع على عاتق الجهات السياسية السودانية المدنية مسؤولية أخلاقية وتاريخية للتصدي لهذا الخطر، متجاوزة غرقها في خدمة الطموحات الذاتية والأجندات الأجنبية واللامبالاة بعواقب الأفعال، لإنقاذ السودان من خطر الانهيار.

يسعى هوبز في مشروعه الفلسفي إلى إعادة تعريف السياسة وغاياتها بعيدا عن المرجعيات الأخلاقية المطلقة التي احتكم إليها فلاسفة سابقون، وعلى رأسها مفهوم "الخير الأعظم". فبالنسبة له، هذا المفهوم ليس فقط ملتبسا، بل غير ممكن الوجود أصلا، لأن الرغبات الإنسانية متباينة بطبيعتها، وما يُعد خيرا عند فرد قد يُعد شرا عند آخر. لذا، فإن محاولة المجتمع السياسي السعي نحو تحقيق "الخير الأعظم" تقوده إلى مأزق مفاهيمي وعملي، إذ سرعان ما يجد نفسه أمام رؤى متناقضة للخير، ولا توجد وسيلة عقلانية لحسم النزاع بينها. والنتيجة المحتومة لذلك هي الاحتراب والصراع.

انهيار الدولة- أي دولة- لا ينحصر في مجرد تفكيك المؤسسات وتحطيمها، بل سيفكك الروابط المؤسسية التي تجمع الأمة ويتيح الاستقرار لمواطنيها 

في المقابل، يرى هوبز أن ما يمكن الاتفاق عليه- أو على الأقل الخوف منه- هو "الشر الأعظم"، المتمثل في الموت العنيف والجريمة ونهب الحقوق والممتلكات وغيرها مما لا يمكن الاختلاف النظري على عدم القبول به. من هنا، تصبح المهمة الأساسية للمجتمع السياسي ليست السعي نحو خير غير متفق عليه، بل تجنّب شر متفق على فظاعته. إن الخوف من الموت، وليس السعي نحو السعادة، هو ما يؤسس شرعية السلطة السياسية.

لا يوجد "خير أعظم" يُبنى عليه الإجماع السياسي، وبالتالي فإن ما يُسمى "حالة الطبيعة"- أي الوجود خارج التنظيم السياسي للدولة- ليست إلا فوضى عارمة، أو كما يصفها هوبز: "حرب الكل ضد الكل". ففي ظل شح الموارد وتضارب الرغبات، لا يوجد ما يضمن أن لا يُقدِم أحدهم على قتل الآخر طمعا في ما يملك، أو حتى دفاعا عن كرامته. وحتى في حال غياب العنف الفعلي، يظل الخوف من احتماله قائما، ولا يمكن تبديده إلا بوجود سلطة حاكمة تقف بين الناس كحكم دائم.

غيتي
نازحون فروا من مخيم زمزم للنازحين داخليا بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يستريحون في مخيم مؤقت في حقل مفتوح قرب بلدة طويلة في إقليم دارفور، السودان في 13 أبريل 2025

وبناء على ذلك، يقدّم هوبز صيغته الشهيرة للعقد الاجتماعي، والتي يمكن تلخيصها كالتالي: "أنا أتنازل عن حقي في تنظيم حياتي ذاتيا لصالح هذا الفرد (الحاكم)، أو هذه الجماعة (الدولة)، بشرط أن يتنازل الآخرون عن نفس الحق، وأن نحتكم جميعا إلى مرجعية واحدة تضبط أفعالنا وتضمن لنا الأمان."

هذا المرتكز للدولة الذي يطرحه هوبز ليس أنها محض قوة غاشمة تحتكر العنف الشرعي، بل هو تعاقد عقلاني بين الأفراد يتنازلون فيه عن جزء من حرياتهم لصالح سلطة تضمن لهم الأمان والنظام وتكفل الحد الأدنى من العدالة وتنظم العلاقة فيما بينهم. أما الميليشيات، كقوات "الدعم السريع"، فهي لا تمثل سلطة سياسية شرعية بالمعنى الهوبزي، بل تجسيد لحالة الطبيعة نفسها التي أراد هوبز تجنّبها، إذ تستمد سطوتها من العنف العشوائي، وتنتهك العقد الاجتماعي بدلا من أن ترعاه. وبالتالي، فإن صعود "الدعم السريع" لا يعبّر عن بناء "ليفياثان سوداني"، بل عن انزلاق كامل إلى ما قبل الدولة: "حرب الكل ضد الكل".

إن انهيار الدولة- أي دولة- لا ينحصر في مجرد تفكيك المؤسسات وتحطيمها، بل سيفكك الروابط المؤسسية التي تجمع الأمة ويتيح الاستقرار لمواطنيها. وكما أشار ماكس فيبر، فإن الدولة هي تلك الهيئة التي تملك "الاحتكار الشرعي للعنف"، وفقدانها لهذا الاحتكار يفتح الباب أمام الفوضى. تجارب تاريخية، كالصومال في التسعينات وأفغانستان بعد انسحاب السوفيات، تُظهر عواقب انهيار الدولة: فراغ حوكمة يملؤه أمراء الحرب، وتشرذم مناطقي يغذي الصراعات العرقية، وتفكك اجتماعي يقوض أي أمل في الوحدة الوطنية. في السودان، تظهر بوادر هذا الخطر بشكل متصاعد مع خطط "الدعم السريع" لتشكيل حكومة موازية في غرب السودان كما تم الإعلان عنه في نيروبي في مارس/آذار 2025، مما ينذر بتقسيم فعلي للبلاد.

أظهرت تقارير العمل الإنساني وقوع فظائع، بما في ذلك القتل على أساس إثني واستشراء الاغتصابات والعنف الجنسي، مما يثير مخاوف من التطهير العرقي 

عواقب انهيار الدولة في السودان تمتد إلى ما هو أبعد من حدوده الوطنية. فالسودان، بموقعه الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر والمحاط بسبع دول، يشكل ركيزة إقليمية سيؤدي انهيارها إلى زعزعة استقرار دول الجوار مثل تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، التي تستضيف ملايين اللاجئين السودانيين. وتجربة لبنان خلال الحرب الأهلية (1975–1990) تُظهر كيف يتسبب انهيار الدولة في تدفق الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود، مما يغذي الصراعات الإقليمية، وتغذية الجريمة المنظمة مثل شبكات تهريب المخدرات وتجارة البشر، بالإضافة إلى المعاناة الإنسانية التي لا تستثني أحدا. في السودان، ستزيد التدخلات الأجنبية، التي تهدف لخدمة مصالح دولها على حساب الشعب السوداني من تعقيد المشهد، مما يستدعي تدخلا دوليا لإيقاف صب المزيد من الزيت الأجنبي على نيران الحرب السودانية.

على الصعيد الإنساني، يشهد السودان كارثة غير مسبوقة. فقد شرد الصراع حوالي 10 ملايين نازح داخلي و4.1 مليون لاجئ. المجاعة تجتاح دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مع معاناة 25.6 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد. إن غياب الدولة سيفاقم من هذه المعاناة كما سيزيد من عدد المحتاجين إلى المساعدات، وكما سيقوم أمراء الحرب الذين سيتسيدون المشهد لملأ فراغ انهيار نظام الحوكمة بإعاقة أي جهود للإغاثة الإنسانية أو توزيع المساعدات، ليستخدموها كعوامل للتجنيد الميليشياوي.

وسط كل هذه السيناريوهات الكارثية المحتملة، تتفاقم الأوضاع العسكرية بوتيرة مقلقة. في الفاشر، آخر معاقل سيطرة القوات المسلحة في دارفور، يستمر حصار "قوات الدعم السريع" المكثف منذ مايو/أيار 2024، مع هجمات جوية وبرية استهدفت المدينة ومخيمات النزوح مثل زمزم وأبو شوك. وأظهرت تقارير العمل الإنساني وقوع فظائع، بما في ذلك القتل على أساس إثني واستشراء الاغتصابات والعنف الجنسي، مما يثير مخاوف من التطهير العرقي. في شمال كردفان، تتصاعد الهجمات على الأبيض، حيث نجحت القوات المسلحة في إنهاء حصار دام قرابة عامين في فبراير/شباط 2025، لكن "قوات الدعم السريع" تواصل قصف المدينة، مما أودى بحياة العشرات. مؤخرا في أم صميمة، نجح الجيش في استعادة السيطرة على المنطقة بعد أن تم احتلالها بواسطة "قوات الدعم السريع"، مما يعكس تصاعد العمليات العسكرية. وفي شرق الجزيرة، أدت هجمات "قوات الدعم السريع" الانتقامية، عقب انشقاق أحد قادتها (أبو عاقلة كيكل) في أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلى مقتل 124 مدنيا وتشريد أكثر من 119.400 شخص. أما مخيم زمزم، فقد شهد هجوما مدمرا في أبريل/نيسان 2025، أسفر عن مقتل أكثر من 200 مدني، في ظل استمرار وتفاقم المجاعة التي أكدتها الأمم المتحدة.

يقف السودان الآن على مفترق طرق مصيري. وانهيار الدولة ليس مجرد احتمال، بل خطر يلوح في الأفق، يهدد بابتلاع آمال الأمة في السلام والديمقراطية والعدالة التي رفعت شعاراتها في ثورة ديسمبر

إزاء هذا الواقع، تقع على عاتق الجهات السياسية المدنية مسؤولية تاريخية. كما أشار جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي"، فإن تنظيمات السياسة هي تجسيد للإرادة العامة في خدمة المصالح العامة، وغياب هذه الإرادة يفتح الباب للاستبداد أو الفوضى. القوى السياسية السودانية ينبغي أن تتوقف عن اعتبار نفسها مملوكة لأفرادها ومسخّرة لخدمة مصالح جزئية أو رغائب قادتها وطموحاتهم كما هو حادث الآن، وأن تلتفت إلى أن واجبها الأساسي بل إن مبرر وشرعية وجودها الذي يعتمد على التعبير عن توجهات أفرادها الجمعية في خدمة المصالح الكلية الهامة وأن خطر انهيار الدولة الذي يتضرر منه الجميع يفقدها هذه المبررات والشرعية بالأساس.

أ.ف.ب
أشخاص فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يصطفون للحصول على حصص غذائية، في منطقة دارفور غرب السودان في 13 أبريل

ما يحتاجه السودان الآن من قواه السياسية هو التوقف عن تبرير حرب "الدعم السريع" لخدمة مصالحها السياسية أو تحقيق طموحاتها السلطوية على أسنة الرماح. "الدعم السريع" فشلت في تقديم أي نموذج لأي نوع من أنواع الحوكمة التي تخدم الجماهير. مجازر الإبادة الجماعية في الجنينة، والنهب والقتل المنظم والاغتصاب واسع النطاق إبان سيطرتها على الخرطوم والجزيرة قبل تحريرهما من قبل الجيش وعدم الاستقرار وحكم العصابات والفوضى في نيالا، ومنع الطلاب من الامتحانات في كل دارفور، ونهب المساعدات الإنسانية، وتقارير الاغتصابات المتزايدة في زالنجي، وفي كل مكان وصلت إليه جحافل "الدعم السريع" فشلت في التعايش مع الناس فيه، بل مارست انتهاك حقوقهم بشكل همجي من الفوضى العارمة. وقدمت "الدعم السريع" المثال المتكامل على ماهية الشر الأعظم الذي ينبغي للسياسة العمل على تحاشيه بحسب مفهوم هوبز.

يقف السودان الآن على مفترق طرق مصيري. وانهيار الدولة ليس مجرد احتمال، بل خطر يلوح في الأفق، يهدد بابتلاع آمال الأمة في السلام والديمقراطية والعدالة التي رفعت شعاراتها ثورة ديسمبر. كما أن الفظائع في الفاشر وزمزم والجنينة والخرطوم والجزيرة ليست سوى أعراض لمرض سيطرة ميليشيا "قوات الدعم السريع"، مثل غياب الدولة كضامن للأمن والعدالة. وعلى الجهات المدنية أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تتوقف عن خلق المتاهات المعرفية حول طبيعة الحرب في السودان لإخفاء مدى سوء مواقفها التي تحتاج إلى مراجعتها لإنقاذ السودان من مصير الصومال أو اليمن.

إن الشعب السوداني، الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل الحرية، يستحق قيادة مدنية تضع مصلحته العليا في تفادي الشر الأعظم نصب عينيها، لتعيد بناء دولة تجسد طموحاته في العدالة والكرامة.

font change