في السودان، تتقاطع عجلات التاريخ والجغرافيا حاليا لتنسج خيوط مأساة وجودية لا تتسبب في معاناة إنسانية غير مسبوقة فحسب، بل تهدد بابتلاع البلاد في دوامة الفوضى. منذ أبريل/نيسان 2023، ألقت الحرب بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو ظلالها القاتمة على نسيج الأمة، لتسببها في جرائم وانتهاكات غير مسبوقة في تاريخ البلاد، ودمار فادح في بنيتها التحتية، واقتصادها، وروابطها الاجتماعية.
ازدادت الحرب تعقيدا بسبب "متاهة معرفية" واسعة من المعلومات المضللة والسرديات البديلة التي غطت على حقيقة الحرب والتي تم ترويجها عبر تواطؤ خطاب تحالف "تقدّم" (الذي أصبح يُعرف الآن بـ"صمود")، بقيادة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك، مع خطاب "قوات الدعم السريع" من تعقيد المشهد، إذ وفر هذا التواطؤ غطاء مدنيا لطموحات الميليشيا تحت لافتة السلام والتحول المدني.
هذا الصراع المستمر في السودان، لم يعد مجرد نزاع عسكري على السلطة، بل تهديد وجودي للدولة ذاتها، التي تتآكل تحت وطأة العنف المتواصل وتحت انخراط نخبة سياسية مدنية في مواصلة التبرير لهذا العنف عبر السرديات البديلة التي تغذي طموحات ميليشيا "الدعم السريع" في حكم البلاد أو في انتزاع جزء منها. إن انهيار الدولة، كما حذر منه توماس هوبز في كتابه "الليفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة"، ينذر بغياب السيادة، حيث يصبح "العقد الاجتماعي هشا"، وتتحول الحياة إلى "وحشية وقصيرة" على حد قوله.
ألف هوبز كتابه أثناء الحرب الأهلية الإنجليزية (1651-1642)، ليقول إن الحروب الداخلية لا يمكن تجنبها الا عبر حكومة قوية، غير منقسمة، تكتسب مقومات السلطة المطلقة عبر التزامات خدمة العقد الاجتماعي. وفي هذا السياق، تقع على عاتق الجهات السياسية السودانية المدنية مسؤولية أخلاقية وتاريخية للتصدي لهذا الخطر، متجاوزة غرقها في خدمة الطموحات الذاتية والأجندات الأجنبية واللامبالاة بعواقب الأفعال، لإنقاذ السودان من خطر الانهيار.
يسعى هوبز في مشروعه الفلسفي إلى إعادة تعريف السياسة وغاياتها بعيدا عن المرجعيات الأخلاقية المطلقة التي احتكم إليها فلاسفة سابقون، وعلى رأسها مفهوم "الخير الأعظم". فبالنسبة له، هذا المفهوم ليس فقط ملتبسا، بل غير ممكن الوجود أصلا، لأن الرغبات الإنسانية متباينة بطبيعتها، وما يُعد خيرا عند فرد قد يُعد شرا عند آخر. لذا، فإن محاولة المجتمع السياسي السعي نحو تحقيق "الخير الأعظم" تقوده إلى مأزق مفاهيمي وعملي، إذ سرعان ما يجد نفسه أمام رؤى متناقضة للخير، ولا توجد وسيلة عقلانية لحسم النزاع بينها. والنتيجة المحتومة لذلك هي الاحتراب والصراع.