بينما يستمر السودان، منذ اندلاع الحرب المدمرة في أبريل/نيسان 2023، في مواجهة قضايا مصيرية تتشابك فيها خيوط الأزمة الإنسانية الطاحنة مع تعقيدات المشهد السياسي والأمني، تستمر بعض المجموعات المدنية في محاولات حثيثة لإعادة تقديم نفسها في الساحة السياسية دون اتخاذ مواقف واضحة تنحاز لمصلحة الشعب السوداني في إيقاف الحرب، بل تنحاز لصالح الترويج لنفسها عبر ترديد عموميات سياسية تتفادى مواجهة الواقع لصالح تقديس الشعار.
تبرز الوثيقة التي أصدرها تحالف "صمود" في منتصف شهر يونيو/حزيران 2025، والمعنونة "رؤية سياسية لإنهاء الحروب واستعادة الثورة وتأسيس الدولة"، كمثال بارز على هذه الظاهرة. فالوثيقة المطولة، التي تبدو في ظاهرها محاولة للخروج من عنق الزجاجة، تظهر في حقيقتها كإعلان تلفزيوني مبهرج من تسعينات القرن الماضي لترويج منتج غير موجود أصلا. ففيها تتوارى ثلاث مفارقات تكشف زيف الشعارات وتؤكد عمق الأزمة:
1. مفارقة الشرعية وشرعنة العنف: ترفع الوثيقة راية الحكم المدني، لكنها تخفي تحتها شرعنة المليشيات.
2. مفارقة المساءلة والاستخدام الانتقائي لشعارات العدالة: تندد بجرائم "نظام الإنقاذ" القديم، لكنها تسكت عن فظائع "الدعم السريع" اليوم، في ازدواجية تجعل من العدالة محض شعارات وحبرا على ورق.
3. مفارقة التمثيل: تتغنى بالديمقراطية، بينما يسعى واضعوها إلى احتكار السلطة.
المغالطة المعرفية في تشويش جذور الأزمة وتداعياتها
حاولت وثيقة "صمود" تصوير الحرب الدائرة في السودان على أنها امتداد للنضالات السودانية، وليست نتيجة لأفعال "الدعم السريع" ومحاولته الانقلابية في 15 أبريل 2023، بل تعكسها على أنها امتداد لصراع طويل بين قوى التغيير الديمقراطي وقوى الاستبداد، وأن جذور هذه الحرب عميقة في التاريخ الوطني، ولها أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، تمثلت في أزمة حكم مزمنة.
"صمود" هنا تحاول تبرير وشرعنة حرب "الدعم السريع" بربطها بالنضالات السودانية من أجل الديمقراطية والثورات المسلحة السابقة لمناطق الهامش ضد المركز، دون أن تُلقي بالا إلى حقيقة أن "الدعم السريع" بقيادته وتشكيلته حاليا كان أحد أفظع أدوات القمع ضد التطلعات الديمقراطية للسودانيين. بل إن ظهورها المؤسسي الأول بعد إنشائها كميليشيا خاصة بواسطة الرئيس المخلوع عمر البشير كان لقمع انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013 في مواجهة النظام القمعي الحاكم حينها، ثم تخصصت في نشر الرعب والفوضى في أطراف الهامش السوداني من دارفور وشمال وجنوب كردفان، حتى تم تصنيفها كأحد عوامل عدم الاستقرار الدائمة في تقارير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة بين أعوام 2014 وحتى 2018. فكيف يستقيم تصوير محاولتها الانقلابية التي أدت إلى إشعال هذه الحرب على أنها استمرار لنضالات الشعب السوداني من أجل الديمقراطية؟
وبينما تُقدم الوثيقة سردية عامة لتراكم الأزمات، فإنها تغفل الإشارة إلى تفاصيل بالغة الأهمية في المشهد السياسي الذي سبق الانفجار. فبعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018-2019، التي أطاحت بنظام عمر البشير، تشكّل تحالف معقد بين المكون العسكري والقوى المدنية.
هذا التحالف، الذي كان بطبعه هشا ومتوترا، شهد صراعا خفيا ومكشوفا على السلطة والصلاحيات. وزاد من تعقيد الوضع أن القوى المدنية لم تكن كتلة واحدة، بل كانت تعاني من انقسامات داخلية حادة، وتنافسا محموما بين مكوناتها على التمثيل والقيادة. هذا التنافس، والنزوع نحو "احتكار السلطة" من قبل بعض المكونات، أضعف الجبهة المدنية وجعلها عرضة للاختراقات العسكرية، خصوصا أن بعض هذه القوى لم تستنكف عن الذهاب اليومي إلى مكاتب العسكر والاستقواء بهم ضد رفاقهم المدنيين الآخرين كلما اشتعلت الخلافات.