الخطاب القبلي والاستقطاب الإثني
اعتمد خطاب "حميدتي" الأخير بشكل متزايد على الخطاب القبلي والتحشيد الإثني، وهو أسلوب أصبح سمة ثابتة في خطاب "قوات الدعم السريع" وقائدها كما ظهر سابقا في إشارته إلى "علاقة الدم" التي تجمعه بالفريق إبراهيم جابر خلال خطاب أكتوبر/تشرين الأول 2024، ولومه على الوقوف ضده وفي صف الحكومة السودانية على أساسها.
هذا التوجه الخطابي، الذي يستدعي الانتماءات القبلية والولاءات العرقية، لا يعكس فقط رؤية "حميدتي"، بل يعبّر عن مأزق بنيوي في مشروع "الدعم السريع" ككل، العاجز عن تجاوز حدود العصبية القبلية نحو بناء شرعية وطنية قائمة على مفهوم الدولة الحديثة.
فبدلا من السعي إلى عقد اجتماعي جديد يضمن وحدة المجتمع تحت سلطة سياسية موحّدة، يعيد هذا الخطاب إنتاج الانقسامات التي لطالما كانت أحد الأسباب الجذرية لانهيار الدولة السودانية. وفي ظل سياق ملتهب في دارفور وكردفان، حيث تتصاعد التوترات العرقية والنزاعات المحلية، يسهم خطاب حميدتي في تغذية احتمالات الانزلاق نحو حرب أهلية شاملة، ويقوّض فرص التوافق على مشروع وطني جامع.
تجاهل "تأسيس" ورسالة "صمود"
برز في الخطاب تجاهل "حميدتي" لأي إشارة لتحالف "تأسيس"، الذي تشكل في مارس 2025 لتوفير غطاء سياسي لـ"قوات الدعم السريع". هذا التجاهل يُبرز أزمة استراتيجية عميقة، إذ فشل تحالف "تأسيس" حتى الآن في تشكيل حكومة موازية بسبب الانقسامات الداخلية حول توزيع المناصب.
كما أن تصاعد خطاب الانفصال بين مؤيدي "الدعم السريع"، خاصة في غرب البلاد، يعكس يأسا سياسيا في تحقيق انتصار أو حل سياسي على الصعيد القومي، ويضعف قدرة "الدعم السريع" وتحالف "تأسيس" على المناورة السياسية لخلق تحالفات.
في المقابل، تضمنت رسالة "حميدتي" المبطنة لتحالف "صمود" مطالبة واضحة باتخاذ موقف "معنا أو ضدنا". وقد نشأ تحالف "صمود" و"تأسيس" نتيجة انقسام تحالف "تقدم"، الذي ترأسه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. ورغم تشاركهما في تعريف الصراع كمعركة ضد الإسلام السياسي وموقفهما المضاد للجيش السوداني، بالإضافة إلى العلاقة مع الرعاة الخارجيين والإقليميين، فإن الصعوبات العسكرية التي يواجهها "الدعم السريع" فرضت حالة استقطاب ثنائية، تُختزل فيها المواقف إلى "صديق-عدو".
ويعكس إعلان "حميدتي" رفضه العودة إلى منبر جدة لمحادثات السلام موقفا متصلبا يُعبّر، في جوهره، عن هشاشة موقعه التفاوضي لا عن قوة موقف مبدئي. هذا الرفض يتناقض بوضوح مع تصريحاته السابقة حول التزامه بـ"ضوابط التعامل الإنساني" وتعهدات الوفود التابعة له في محادثات سويسرا عام 2024. هذه التناقضات تشير إلى نمط متكرر لدى قيادة "الدعم السريع": تقديم التزامات سياسية مرنة لإرضاء الوسطاء الدوليين، دون نية واضحة لترجمتها إلى سلوك ميداني.
من منظور نظرية العدالة للفيلسوف جون رولز، التي تشترط على أطراف التفاوض أن يتحركوا من خلف "حجاب الجهل"- أي أن يتخذوا قراراتهم بمعزل عن مصالحهم الخاصة- يتضح مدى ابتعاد خطاب "حميدتي" عن هذه القاعدة العقلانية. فهو يفضل خطابا عاطفيا تعبويا قائما على الاستقطاب، لا يهدف إلى بناء أرضية مشتركة بقدر ما يسعى إلى كسب الوقت وتعزيز شرعيته في معسكره، على حساب فرص السلام.
وجّه "حميدتي" أيضا اتهامات لمصر وإريتريا بدعم الجيش السوداني، دون تقديم أدلة موثقة، في محاولة لتعبئة أنصاره وتبرير الهزائم الميدانية. تأتي هذه الاتهامات في سياق صرف النظر عن الدعم المتواصل الذي تتلقاه قواته من أطراف خارجية.
الانفتاح الدبلوماسي للقيادة السودانية
على صعيد موازٍ، تشهد القيادة السودانية انفتاحا دبلوماسيا متسارعا في محيطها الإقليمي، في إشارة واضحة لكسر العزلة الدولية التي فرضتها الحرب. فخلال شهري مايو ويونيو 2025، استقبلت بورتسودان زيارات رسمية من وفود رفيعة المستوى من جمهورية أفريقيا الوسطى وإثيوبيا، حاملة رسائل دعم سياسي وأمني.
ففي 28 مايو 2025، زارت وزيرة خارجية جمهورية أفريقيا الوسطى، سيلفي بايبو، بورتسودان حاملة رسالة من الرئيس فوستان أرشانج تواديرا إلى رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان. وفي أوائل يونيو، وصل وفد إثيوبي رفيع المستوى إلى بورتسودان، ضم مدير المخابرات رضوان حسين، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون شرق أفريقيا قيتاشو ردا، مؤكدا التزام أديس أبابا بدعم وحدة السودان واستقراره، وهي الزيارة الإثيوبية الثانية على هذا المستوى خلال ستة أشهر.
هذه التحركات لم تقتصر على العلاقات الثنائية، بل ترافقت مع مؤشرات على تحسّن نسبي في علاقات السودان بالمؤسسات الإقليمية. فقد رحّب كل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد بتعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في الحكومة الجديدة، معتبرين هذه الخطوة مساحة إيجابية لاستئناف مسار استعادة الحكم المدني. إن مجمل هذه التطورات يعكس وجود رصيد سياسي خارجي، يعزز من موقف الحكومة التفاوضي، ويمثل محاولة لتجاوز العزلة الدولية التي تثقل كفة خصمها "حميدتي".