خطاب "حميدتي" الأخير… محاولة لاستعادة الهيبة السياسية والعسكرية

أزمة الشرعية والاعتماد على الشعبوية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
محمد حمدان دقلو (حميدتي) شمال غرب الخرطوم في عام 2019

خطاب "حميدتي" الأخير… محاولة لاستعادة الهيبة السياسية والعسكرية

في الثاني من يونيو/حزيران 2025، ألقى محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، قائد "قوات الدعم السريع" في السودان، خطابا مصورا تم بثه عبر قنوات القوات على تطبيق "تليغرام"، وذلك وسط استمرار الصراع المسلح المحتدم منذ أبريل/نيسان 2023 مع الجيش السوداني. لم يكن هذا الخطاب مجرد إطلالة اعتيادية، بل كان بمثابة محاولة مكثفة لاستعادة الهيبة وتثبيت روع قواته، في ظل تحديات عسكرية وسياسية متزايدة تعصف بموقفه.

يأتي خطاب "حميدتي" في ظل تطورات عسكرية وسياسية بالغة الأهمية تشير إلى تضعضع موقف "قوات الدعم السريع"، وتقدم ملحوظ للجيش السوداني. فمنذ مطلع العام الحالي، حقق الجيش السوداني إنجازات ميدانية متواصلة، تجلّت في استعادة السيطرة الكاملة على ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى مناطق واسعة في ولايات النيل الأبيض وسنار وشمال كردفان. وقد اقترب الجيش من فك الحصار عن مدينة الأبيض الاستراتيجية عبر متحرك "الصياد".

على صعيد آخر، يُعد صمود مدينة الفاشر الأسطوري، المحاصرة من قبل "الدعم السريع" منذ أبريل 2024، العلامة الأبرز في شمال دارفور. وبالرغم من اجتياح مخيم زمزم للنازحين بواسطة ميليشيا "الدعم السريع" المدعومة من قوات تحالف "تأسيس" (المكونة من القوات التابعة لعبد العزيز الحلو، والطاهر حجر، والهادي إدريس)، فقد عزز الجيش والقوات المشتركة الداعمة له مواقعهما في الولاية. وفي 18 مايو/أيار 2025، نجح الجيش السوداني في فرض سيطرته على منطقة العطرون الاستراتيجية بشمال دارفور، وقبلها في أكتوبر/تشرين الأول 2024، سيطر على قاعدة بئر مزة (28 كم شمال كتم)، مما أدى إلى قطع خطوط إمداد "الدعم السريع" من ليبيا وتشاد، وهدد بفك الحصار عن الفاشر. هذا التقدم العسكري يُفسر التصعيد الخطابي لحميدتي، الذي يسعى إلى تخفيف الضغط على قواته في دارفور بفتح جبهات جديدة، كتهديده بمهاجمة الأبيض والولاية الشمالية.

يأتي خطاب "حميدتي" في ظل تطورات عسكرية وسياسية بالغة الأهمية تشير إلى تضعضع موقف "قوات الدعم السريع"، وتقدم ملحوظ للجيش السوداني

الخطاب التبريري

ظهر "حميدتي" في خطاب 2 يونيو/حزيران 2025 بمظهر القائد الذي يواجه أزمة شرعية سياسية وعسكرية عميقة، محاولا استعادة المبادرة في سياق خسائر ميدانية وعزلة دولية متزايدة. وقد عكست لهجة الخطاب ومضمونه هشاشة موقفه، حيث سعى جاهدا لتثبيت سلطته وطمأنة أفراد "قوات الدعم" عبر شعارات تعبوية، لكنه كشف في الوقت ذاته عن تناقضات داخلية وفقدان للتماسك الاستراتيجي.

وتجلى الاضطراب السياسي في تبنيه لخطاب المظلومية ولعب دور الضحية، في محاولة واضحة لصرف الأنظار عن التراجع العسكري والاتهامات الحقوقية الموجهة لقواته.

أ ب
جنود في الجيش السوداني يحتفلون بعد السيطرة على القصر الجمهوري في الخرطوم، 21 مارس 2025

فقد اتهم "حميدتي" الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية ضد المدنيين واستهداف مكونات اجتماعية في دارفور وكردفان، دون تقديم أي أدلة موثقة. يلفت النظر أن هذه الاتهامات تصدر لأول مرة من حميدتي بعد إعلان الحكومة الأميركية قبل أسابيع قليلة فرض عقوبات على الجيش السوداني بدعوى استخدامه أسلحة كيماوية في عام 2024. ورغم أن هذه العقوبات لم تُرفق بأي وثائق أو تقارير علنية، ولم تُودع الإدارة الأميركية أي أدلة لدى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (OPCW)، ولم تطلب من المنظمة فتح تحقيق، فمن المرجح أن هذه الاتهامات توظَّف لأغراض سياسية بحتة، في محاولة لمعادلة كفتي الصراع بعد تصنيف ممارسات "قوات الدعم السريع" رسميا كجرائم إبادة جماعية وفرض عقوبات على حميدتي شخصيا، وفقا لتقرير لجنة الأمم المتحدة في يوليو/تموز 2024 بشأن جرائم الإبادة الجماعية ضد قبيلة المساليت في غرب دارفور.

تكرار "حميدتي" لهذه الاتهامات وادعاؤه امتلاك أدلة عليها الآن، بعد عام من الموعد الذي تحدثت عنه الحكومة الأميركية نفسها، هو ضرب من محاولة استغلال هذه الأغراض السياسية.

ظهر "حميدتي" في خطاب 2 يونيو 2025 بمظهر القائد الذي يواجه أزمة شرعية سياسية وعسكرية عميقة، محاولا استعادة المبادرة في سياق خسائر ميدانية وعزلة دولية متزايدة

الخطاب القبلي والاستقطاب الإثني

اعتمد خطاب "حميدتي" الأخير بشكل متزايد على الخطاب القبلي والتحشيد الإثني، وهو أسلوب أصبح سمة ثابتة في خطاب "قوات الدعم السريع" وقائدها كما ظهر سابقا في إشارته إلى "علاقة الدم" التي تجمعه بالفريق إبراهيم جابر خلال خطاب أكتوبر/تشرين الأول 2024، ولومه على الوقوف ضده وفي صف الحكومة السودانية على أساسها.

هذا التوجه الخطابي، الذي يستدعي الانتماءات القبلية والولاءات العرقية، لا يعكس فقط رؤية "حميدتي"، بل يعبّر عن مأزق بنيوي في مشروع "الدعم السريع" ككل، العاجز عن تجاوز حدود العصبية القبلية نحو بناء شرعية وطنية قائمة على مفهوم الدولة الحديثة.

فبدلا من السعي إلى عقد اجتماعي جديد يضمن وحدة المجتمع تحت سلطة سياسية موحّدة، يعيد هذا الخطاب إنتاج الانقسامات التي لطالما كانت أحد الأسباب الجذرية لانهيار الدولة السودانية. وفي ظل سياق ملتهب في دارفور وكردفان، حيث تتصاعد التوترات العرقية والنزاعات المحلية، يسهم خطاب حميدتي في تغذية احتمالات الانزلاق نحو حرب أهلية شاملة، ويقوّض فرص التوافق على مشروع وطني جامع.

تجاهل "تأسيس" ورسالة "صمود"

برز في الخطاب تجاهل "حميدتي" لأي إشارة لتحالف "تأسيس"، الذي تشكل في مارس 2025 لتوفير غطاء سياسي لـ"قوات الدعم السريع". هذا التجاهل يُبرز أزمة استراتيجية عميقة، إذ فشل تحالف "تأسيس" حتى الآن في تشكيل حكومة موازية بسبب الانقسامات الداخلية حول توزيع المناصب.

كما أن تصاعد خطاب الانفصال بين مؤيدي "الدعم السريع"، خاصة في غرب البلاد، يعكس يأسا سياسيا في تحقيق انتصار أو حل سياسي على الصعيد القومي، ويضعف قدرة "الدعم السريع" وتحالف "تأسيس" على المناورة السياسية لخلق تحالفات.

في المقابل، تضمنت رسالة "حميدتي" المبطنة لتحالف "صمود" مطالبة واضحة باتخاذ موقف "معنا أو ضدنا". وقد نشأ تحالف "صمود" و"تأسيس" نتيجة انقسام تحالف "تقدم"، الذي ترأسه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. ورغم تشاركهما في تعريف الصراع كمعركة ضد الإسلام السياسي وموقفهما المضاد للجيش السوداني، بالإضافة إلى العلاقة مع الرعاة الخارجيين والإقليميين، فإن الصعوبات العسكرية التي يواجهها "الدعم السريع" فرضت حالة استقطاب ثنائية، تُختزل فيها المواقف إلى "صديق-عدو".

ويعكس إعلان "حميدتي" رفضه العودة إلى منبر جدة لمحادثات السلام موقفا متصلبا يُعبّر، في جوهره، عن هشاشة موقعه التفاوضي لا عن قوة موقف مبدئي. هذا الرفض يتناقض بوضوح مع تصريحاته السابقة حول التزامه بـ"ضوابط التعامل الإنساني" وتعهدات الوفود التابعة له في محادثات سويسرا عام 2024. هذه التناقضات تشير إلى نمط متكرر لدى قيادة "الدعم السريع": تقديم التزامات سياسية مرنة لإرضاء الوسطاء الدوليين، دون نية واضحة لترجمتها إلى سلوك ميداني.

من منظور نظرية العدالة للفيلسوف جون رولز، التي تشترط على أطراف التفاوض أن يتحركوا من خلف "حجاب الجهل"- أي أن يتخذوا قراراتهم بمعزل عن مصالحهم الخاصة- يتضح مدى ابتعاد خطاب "حميدتي" عن هذه القاعدة العقلانية. فهو يفضل خطابا عاطفيا تعبويا قائما على الاستقطاب، لا يهدف إلى بناء أرضية مشتركة بقدر ما يسعى إلى كسب الوقت وتعزيز شرعيته في معسكره، على حساب فرص السلام.

وجّه "حميدتي" أيضا اتهامات لمصر وإريتريا بدعم الجيش السوداني، دون تقديم أدلة موثقة، في محاولة لتعبئة أنصاره وتبرير الهزائم الميدانية. تأتي هذه الاتهامات في سياق صرف النظر عن الدعم المتواصل الذي تتلقاه قواته من أطراف خارجية.

الانفتاح الدبلوماسي للقيادة السودانية

على صعيد موازٍ، تشهد القيادة السودانية انفتاحا دبلوماسيا متسارعا في محيطها الإقليمي، في إشارة واضحة لكسر العزلة الدولية التي فرضتها الحرب. فخلال شهري مايو ويونيو 2025، استقبلت بورتسودان زيارات رسمية من وفود رفيعة المستوى من جمهورية أفريقيا الوسطى وإثيوبيا، حاملة رسائل دعم سياسي وأمني.

ففي 28 مايو 2025، زارت وزيرة خارجية جمهورية أفريقيا الوسطى، سيلفي بايبو، بورتسودان حاملة رسالة من الرئيس فوستان أرشانج تواديرا إلى رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان. وفي أوائل يونيو، وصل وفد إثيوبي رفيع المستوى إلى بورتسودان، ضم مدير المخابرات رضوان حسين، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون شرق أفريقيا قيتاشو ردا، مؤكدا التزام أديس أبابا بدعم وحدة السودان واستقراره، وهي الزيارة الإثيوبية الثانية على هذا المستوى خلال ستة أشهر.

هذه التحركات لم تقتصر على العلاقات الثنائية، بل ترافقت مع مؤشرات على تحسّن نسبي في علاقات السودان بالمؤسسات الإقليمية. فقد رحّب كل من الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد بتعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في الحكومة الجديدة، معتبرين هذه الخطوة مساحة إيجابية لاستئناف مسار استعادة الحكم المدني. إن مجمل هذه التطورات يعكس وجود رصيد سياسي خارجي، يعزز من موقف الحكومة التفاوضي، ويمثل محاولة لتجاوز العزلة الدولية التي تثقل كفة خصمها "حميدتي".

مجمل التطورات يعكس وجود رصيد سياسي خارجي، يعزز من موقف الحكومة التفاوضي، ويمثل محاولة لتجاوز العزلة الدولية التي تثقل كفة خصمها "حميدتي"

الدلالات اللغوية والتهديدات العسكرية

اعتمد خطاب "حميدتي" على مزيج من الشعبوية والتصعيد، مستخدما عبارات عاطفية مثل "عدوان سافر" و"قتل الشعب"، لتصوير قواته كمدافعة عن الشعب ضد "الطغيان". هذه اللغة تتبنى استراتيجية "الضحية"، وهي تقنية شائعة في الخطابات الشعبوية لتعبئة الأنصار وتعزيز الشرعية. كما أن عبارته "لا مكان للمواقف الرمادية" تعكس لغة ثنائية تختزل الصراع إلى معسكرين متضادين، مما يعكس محاولة لفرض السيطرة على المشهد السياسي. وتجاهله لأي إشارة في خطابه لتحالف "تأسيس" يُبرز محاولة لإخفاء فشله في البناء السياسي أو تعثره على أفضل تقدير، بينما تركيزه على التهديدات العسكرية يُعزز لغة "القوة" كبديل عن السياسة.

تضمّن خطاب "حميدتي" تهديدا صريحا بمهاجمة مدينة الأبيض والولاية الشمالية، مع الإشارة إلى تمركز قواته حول الأبيض في ثلاثة اتجاهات (الخوي، حمرة الشيخ، والحمادي) واستعادة مواقع مثل الخوي والدبيبات. وتحذيره للمدنيين بالبقاء في منازلهم يحمل دلالات تصعيدية تعيد التذكير بما ارتكبته "قوات الدعم السريع" من جرائم في اجتياح الجنينة والخرطوم وولاية الجزيرة.

أ.ف.ب
احتفال الناس في بلدة صالحة، جنوب أم درمان، بعد يومين من استعادتها من "قوات الدعم السريع"، السودان في 22 مايو

وبينما تهدف "الميليشيا" عبر هذه التهديدات إلى استعادة المبادرة العسكرية بعد الخسائر في دارفور وكردفان، تُعد الأبيض نقطة محورية للسيطرة على شمال كردفان، بينما تمثل الولاية الشمالية خطا خلفيا للجيش. وهذه التهديدات تزيد من مخاطر التشريد، حيث نزح 13 مليون شخص بحلول مايو 2025، وفق تقارير الأمم المتحدة، وتُفاقم الأزمة الإنسانية، خاصة في ظل تفشي الجوع والعنف العرقي.

يظهر "حميدتي" في خطابه الأخير قائدا في أزمة، يعتمد على الشعبوية والاستقطاب لتعويض ضعفه السياسي والعسكري والفكري. وقد عكس الخطاب محاولة لإعادة صناعة هيبة القائد في ظل تزايد هشاشتها بسبب التراجع السياسي والعسكري، لكنه افتقر إلى أي رؤية وطنية شاملة.

إن صمود الفاشر، وتقدم الجيش، وتعيين رئيس حكومة مدني، والانفتاح الخارجي، كلها أمور تعزز موقف الجيش، بينما تُعمق تهديدات "حميدتي" واتهاماته الانقسامات والصراع. ويبقى السؤال المطروح: إلى متى يمكن لقائد أن يحافظ على سلطته من خلال خطاب الأزمة والتصعيد، في ظل تراجع ميداني وانعدام للشرعية؟

font change