بوصلات زائفة في حرب السودان

تيه فكري غير مسبوق

غيتي
غيتي
عناصر من القوات المسلحة السودانية يشاركون في عرض عسكري أقيم في يوم الجيش، السودان 14 أغسطس 2024

بوصلات زائفة في حرب السودان

"المهمة السياسية الأساسية، ليست فقط في مجابهة أشكال السلطة الظاهرة، بل في نقد آليات عمل المؤسسات التي تبدو ظاهريا محايدة ومستقلة، وفي تفكيك خطابها ومهاجمتها على نحو يكشف العنف السياسي الكامن الذي تمارسه في الخفاء. إن الهدف من فضح هذا العنف المقنّع، هو أن يصبح بالإمكان مقاومته والنضال ضده بوعي وبصيرة". ميشيل فوكو– حوار مع نعوم تشومسكي حول الطبيعة الإنسانية.

في خضم مأساة الحرب التي تعصف بالسودان، تتكشف حقيقة مرة، أثقل من دوي المدافع وأشد إيلاما من الدمار الناتج عنها. حقيقة تيه فكري غير مسبوق ضرب على بنية الوعي السياسي السوداني، وتجاوزت فيه أدوات السياسة الاستقطابَ التقليدي لتشهد تفكيكا كاملا لمعنى "الوطنية" و"المصلحة العامة" في الممارسة السياسية، واختُزلت فيه القضايا الوطنية ومقاصدها لتتحول لمحض أدوات في الصراع من أجل البقاء وإعادة التموضع السياسي.

منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، انخرط طيف واسع من القوى السياسية السودانية- يمينا ويسارا- في محاولة استغلال المأساة، لتصفية حساباتها السياسية وإعادة تقديم نفسها وخطابها وتحويل الكارثة الوطنية إلى رأسمال رمزي في حسابات النفوذ وروافع سياسية ذاتية غير معنية بمجريات الحرب وما فيها من مكابدة، بل تهدف لانتصار الذات السياسية والتنظيمية.

إن ما نشهده في السودان لم يعد مجرد صراع عسكري مسلح، بل هو أيضا انهيار شامل لفحوى الممارسة السياسية الوطنية وتفكيك جذري للبوصلة الأخلاقية التي توجهها بشكل ينعكس في انتهازية محمومة، تساهم في تحويل أشلاء الوطن إلى غنيمة سياسية، وتبني سردياتها الكبرى على أنقاض الواقع. وفي هذا المشهد، أصبحت الحرب مجرد خلفية عرض في مسرحية إعادة ترميم الذوات السياسية المهترئة. لقد أدى عطب منطق تحويل الوطن إلى غنيمة، إلى سقوط مزدوج، في أحلك لحظات التاريخ الوطني: انهيار ودمار شامل على الأرض أمام دوي المدافع، وسقوطٌ سياسي في الفراغ أمام انهيار أعمدة المشروع الوطني.

فمن جهة، نجد مجموعات من الإسلاميين الذين فقدوا مقاعد السلطة بعد نجاح الثورة الشعبية في أبريل 2019 في الإطاحة بنظام حكم "المؤتمر الوطني" وخلع الرئيس عمر البشير الذي تربع على مقاعد حكم البلاد منذ انقلاب "الجبهة القومية الإسلامية" في يونيو/حزيران 1989، تحاول القفز على الرفض الشعبي العارم الذي قاد مواكب ثورة ديسمبر ضدهم وإعادة تقديم أنفسهم وخطابهم وإعادة التموضع كأوصياء على الجيش وعلى الدولة في مواجهة جرائم "الدعم السريع" وتصوير أنفسهم على أنهم الجهة السياسية الحاضنة لها، ليمسحوا بأستيكة ماضيهم الاستبدادي وإرث ثلاثين عاما من حكم الفساد والاستبداد الذي أسقطته جحافل الثورة الشعبية العارمة وهي متمسكة بسلاح سلميتها، وأن يقفزوا في ذلك على أن الميليشيا التي تذيق السودانيين الأمرين حاليا هي أحد أسوأ منتجات عهد حكمهم وأن تمددها هو من عواقب سوء إدارتهم لشأن البلاد وأن كوادرهم التنظيمية هي التي تسيطر على مفاصل صناعة القرار الرئيسة فيها. وهم يحاولون تصوير الحرب كمدخل لمشروع عودتهم المتسللة للحكم في البلاد، وادعاء أنهم المعسكر الوطني الذي وقف في وجه طوفان الدمار الذي اجتاح السودان على يد "قوات الدعم السريع" ووصف أي انحياز ضد جرائم الميليشيا وضد طبيعتها الفاشية على أنه انحياز سياسي لمعسكرهم.

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، انخرط طيف واسع من القوى السياسية السودانية- يمينا ويسارا- في محاولة استغلال المأساة، لتصفية حساباتها السياسية وإعادة تقديم نفسها وخطابها وتحويل الكارثة الوطنية إلى رأسمال رمزي في حسابات النفوذ

وعلى الضفة المقابلة، ساعدهم الارتباك الذي ضرب مفاصل معسكر قوى الثورة، حيث انحازت مجموعات مدنية من تحالف "قوى الحرية والتغيير" الذي ساهم في صناعة الثورة وقاد الفترة الانتقالية التي تلتها بتمظهراته المختلفة التي تلت الحرب: الجبهة المدنية، "تحالف تقدم" ثم "صمود"، إلى تبني وترديد سردية ميليشيا "الدعم السريع" عن الحرب، بتصويرها على أنها حرب تخوضها الميليشيا ضد فلول النظام السابق في الجيش، والتحذير من أن دحر الميليشيا- على الرغم من كل جرائمها- يعني إعادة إحياء النظام البائد.

وعلى الرغم من أن هذه السردية لا تقوم على قدمين ويشهد على ذلك سعي هذه التنظيمات بشكل محموم للتواصل مع الجيش وقيادته وإصرارهم على التواصل المباشر معه دون بقية أجهزة الدولة- وعلى الرغم من تعارض ذلك مع شعار الثورة الأساسي حول تمدين الدولة والحكم في السودان- إلا أنهم مضوا في السعي إلى فرض رؤية مبتسرة للحرب بوصفها مجرد امتداد لصراعهم القديم مع سلطة الإسلاميين المخلوعة، متجاهلين، بوعي أو عن غفلة، أنهم بذلك يدعمون سردية الميليشيا ويقدمون المبررات لحربها الذي شهد فيه السودانيون إجراما غير مسبوق ظل يتصدى له الجيش الآن-على الرغم من مناقصه السياسية التاريخية. وهي حقيقة وثقتها حركة السودانيين الطبيعية فرارا من مناطق سيطرة الميليشيا إلى مناطق سيطرة الجيش.

لم يقف تماهي هذه القوى عند هذا الحد، فقد مضى أكثر للمساواة بين كامل جهاز الدولة السودانية، بما فيه الجيش، وبين ميليشيا "قوات الدعم السريع"، وما زاد المشهد تعقيدا هو استمرار وجود عناصر ذات ارتباط عضوي وفكري وسياسي وثيق بالميليشيا في مفاصل صناعة خطاب وقرار هذه التحالفات على مدار حوالي عامين من الحرب، حتى شهد مارس/آذار 2025 خروجهم من "تحالف تقدم" لتكوين "تحالف تأسيس" المجاهر بدعمه السياسي للميليشيا ليفضح بذور هذا الانحياز الجنيني في تحالفات هذه القوى منذ البداية. وبينما استمرت بعض هذه العناصر في الوجود داخل ما تبقى من التحالف تحت اسم "صمود"، وهو ما دفعه للترحيب باستمرار التعامل والتعاطي مع تحالفات "الدعم السريع" السياسية حتى وهي تمضي في طريق المزايدة لتقسيم السودان.

مضوا في السعي إلى فرض رؤية مبتسرة للحرب بوصفها مجرد امتداد لصراعهم القديم مع سلطة الإسلاميين المخلوعة، متجاهلين، بوعي أو عن غفلة، أنهم بذلك يدعمون سردية الميليشيا

هكذا، وبدلا من الوقوف على أرضية أخلاقية صلبة، تورطت هذه القوى في تبرير جرائم فادحة، أو الصمت عنها، بل ساهمت في تطبيعها أحيانا تحت راية التوازن السياسي في بعض الأحيان، وبالتزوير الفج للوقائع والبيانات حول الانتهاكات في أحيان أخرى كما حدث في بيان الجبهة المدنية في مايو/أيار 2023 الذي نسب جرائم اغتصاب ارتكبتها ميليشيا "الدعم السريع" للجيش السوداني قبل أن ينفضح أمره وتضطر الجبهة للاعتذار عنه.

تفاقم هذا التماهي السياسي، حتى باتت التحالفات المعنية جزءا من آلة التبرير التي تسوغ للميليشيا عنفها باسم مقاومة الإسلاميين، وزاد من وطأة الأمر وحدة الداعمين والمؤيدين والحواضن الإقليمية لكل من الميليشيا وهذه التحالفات.

وبينما تتطلّع هذه القوى إلى صياغة موقف أخلاقي، تستثمر فيه الغضب الشعبي الذي أشعل جذوة ثورة ديسمبر وأطاح بحكم الإسلاميين، وتحاول احتكار إرث هذه الثورة، فإنها، في تماهيها مع ميليشيا "الدعم السريع"، قد قدّمت خدمة لا تُقدَّر بثمن لهؤلاء الإسلاميين أنفسهم. فقد سمح موقفها المتماهي للإسلاميين بإنتاج خطاب يحاول الربط بين الثورة التي خلعت حكمهم والميليشيا، وتصوير أنفسهم على أنهم من عناصر صناعة الاستقرار والحفاظ عليه في السودان، بينما الحقيقة هي أنهم السبب الأصيل في كل المآسي التي يكابدها الشعب السوداني اليوم، بعد عقود من الفساد والاستبداد التي نبتت منها بذور هذا الدمار. في المقابل، فإن مساعي "تحالف صمود" لاحتكار إرث الثورة، مدّعيا أنها البوصلة الأخلاقية للنضال الوطني، قد وجّهت طعنة قاتلة لشعارات الثورة، خاصة شعار "العسكر للثكنات والجنجويد يتحل"، الذي صاغته جماهير الثورة ببلاغة ووضوح ليحدّد الموقف الثوري الأصيل إزاء كل ما يجري الآن.

صناعة الإجماع

على مستوى التواصل العام، تعمل هذه الأطراف المتصارعة على تطبيق نموذج نعوم تشومسكي عن "صناعة الإجماع" في سياق منفصل تماما عن الواقع، يخاطب فيه كل طرف قاعدته ويستقوى بها ويتجاهل الناس.

يتم ذلك عبر بناء إطار إعلامي يقدم للجمهور خيارات ثنائية زائفة، مصممة لتقليص نطاق التفكر الممكن ويتجاهل البدائل. تم حصر النقاش افتراضيا ضمن ثنائية: إما القبول بحكم الجيش المطلق وفي ذلك يحاول الإسلاميون مغازلة الطموحات السلطوية لقادته وتجاهل تعارض هذا مع أهداف الثورة والانتقال المتعلقة بإصلاح المؤسسة العسكرية وتحديث وتطوير جهاز الدولة بشكل مدني للانتقال نحو الحكم الديمقراطي، أو التعامل مع الميليشيا كأمر واقع لا مفر منه لمواجهة "فلول النظام السابق" وتجاهل جرائمها وخلل وجودها بالأساس وخطرها على استقرار النسيج الاجتماعي في السودان وفي ذلك تقوم قوى "تقدم" ولاحقا "صمود" بتبرير وجودها عبر إغراق النقاش حوله في تعقيدات التاريخ الاجتماعي والسياسي السوداني حتى ولو كان ذلك بشكل مخالف للحقيقة ومحاولة تصويرها على أنها ممثل لقضايا الهامش السوداني.

على مستوى التواصل العام، تعمل هذه الأطراف المتصارعة على تطبيق نموذج نعوم تشومسكي عن "صناعة الإجماع" في سياق منفصل تماما عن الواقع، يخاطب فيه كل طرف قاعدته ويستقوى بها ويتجاهل الناس

يقدم الطرفان سردياتهما في هذا الإطار المصنّع والذي يستبعد المطلب الأساسي للثورة، والذي يمثل الخيار الثالث الأصيل: بناء دولة مدنية تحتكر فيها المؤسسات الرسمية وحدها العنف المشروع، وتخضع لسيادة القانون. لقد تم تحويل النقاش السياسي من "كيفية تحقيق الدولة المدنية وفرض احتكار الدولة للعنف" إلى التساؤل حول: بسلاح من نستعين لنضمن مقاعد السلطة؟ وهي عملية تضليل منظمة ولكنها كسولة تستصعب ممارسة السياسة بالانحياز للناس لإنجاز مهام الانتقال.

تتشابه هذه السرديات المتقابلة– رغم عدائها الظاهري– في بنيتها العميقة: كلاهما يسعى لصناعة بوصلة زائفة للصوابية السياسية، ويُدين كل من لا يهتدي بهديه، في مسعى سلطوي لا علاقة له لا بالوطنية ولا بالثورة ولا بالعدالة، بل بمشاريع سياسية انتهازية تسعى لتسيّد المشهد ولو على أنقاض البلاد. إن النتيجة النهائية لهذا الصراع متعدد الأبعاد هي تحول السياسة في السودان إلى "سياسة الموت" (Thanatopolitics).  فالسياسة هنا لم تعد تُعنى بإدارة حياة المواطنين، بل باستثمار موتهم وتشريدهم ومعاناتهم كأدوات في الصراع ضد الآخر. حتى شعار لا للحرب الذي يرفعه "تحالف صمود"، يتم استخدامه لفرض الإبقاء على الميليشيا وضمان استمرار وجودها بدلا عن تفكيكها. لقد تم تجريد المواطن ورأيه من صفته السياسية كمشارك أصيل واختزاله إلى مجرد جسد يعاني من عنف أطراف متنافسة على حطام الدولة. الطرفان، وإن اختلفا في اللافتة، يشتركان في بنية ذهنية واحدة: مركزية الذات السياسية، والخلط المتعمد بين المصلحة الوطنية ومصلحتهما التنظيمية أو الحزبية، واستخدام القيم الكبرى- كالوطن، والثورة، والديمقراطية- كستار يُخفون خلفه سعيهم المحموم للتموضع من جديد في مركز السلطة.

أ.ف.ب
أشخاص فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع إلى مخيم مؤقت في منطقة دارفور غرب السودان في 13 أبريل

هذه البوصلات المزوّرة لا تهدف في جوهرها إلى البحث عن حل، أو إلى تقديم قراءة شجاعة للكارثة، بل تهدف إلى إدارة الأزمة بطريقة تعيد إنتاج النفوذ السياسي، ولو على حطام البلاد. إنها ليست بوصلات تُشير إلى الحقيقة، بل إلى ما يخدم مصالح من يهتدون بها. ولذلك، فإن كل نقد يتجاوز حدود الاصطفاف معهم يواجَه إما بالتخوين وإما بالمزايدة، وإما حتى بالسعي المحموم لاغتيال الشخصية والإبعاد من المشهد السياسي ولا يُفتح له المجال إلا باعتباره تهديدا يجب إسقاطه. تحت راية أن الآخر هو العدو... مطلقا.

وما بين "بوصلات" تصنعها المصالح، لا المبادئ، ضاعت الحقيقة. ضاعت فكرة أن الوطن أكبر من كل هذه الكيانات. إن أخطر ما يجري اليوم، هو هذا السلوك الجماعي الذي يُفرغ السياسة من معناها النبيل- كفنّ لإدارة الشأن العام بأخلاق ومسؤولية- ويحوّلها إلى مرآة لصراع أناني على الموارد، تُستباح فيه الحقيقة، وتُداس فيه الذاكرة، وتُتجاهل فيه الحقائق ويُخون فيه من يرفض أن يُساق وراء سردية لا تستند إلا إلى هوس القوة أو شهوة الانتقام. لقد كان من الممكن أن تكون هذه الحرب، على فداحتها، لحظة تأسيس جديدة لو أن نخب الساحة السودانية تحلّت بشيء من الشجاعة الأخلاقية والقدرة على التفكّر في غير ذواتها. لكنها اختارت أن تواصل في ذات المسار القديم: الإسلاميون باستدعاء مسلك ما قبل الثورة، و"قوى الحرية والتغيير" في مشهد ما قبل انقلاب أكتوبر 2021، كل طرف يصنع لنفسه مرآة، ويقف أمامها مهلِّلا لنفسه، مشهّرا بغيره، في مشهد تراجيدي لا يكشف فقط عن فشل سياسي، بل عن انهيار عميق في معايير الممارسة السياسية الوطنية ذاتها.

إن الخروج من هذا النفق يتطلب ما هو أكثر من التسويات السياسية. إنه يتطلب مهمة فكرية بالدرجة الأولى: "إعادة تأسيس الفضاء السياسي" عبر بناء خطاب جديد يتجاوز الثنائيات الزائفة والإدانات الزائفة والبوصلات الأخلاقية الزائفة. يستلزم ذلك بلورة مشروع ممارسة سياسية جديد، قوامه المفاهيم وليس تقاسم السعي لتقاسم السلطات. إنها مهمة شاقة لإعادة بناء المعنى بالتوازي مع إعادة بناء المؤسسات، ودونها، سيظل السودان يدور في حلقة مفرغة من العنف الذي يغذي نفسه عبر أيديولوجيات متصارعة حول الخراب، بالسلاح تارة وبالكلمات الخاوية من المضمون تارة أخرى.

font change