"المهمة السياسية الأساسية، ليست فقط في مجابهة أشكال السلطة الظاهرة، بل في نقد آليات عمل المؤسسات التي تبدو ظاهريا محايدة ومستقلة، وفي تفكيك خطابها ومهاجمتها على نحو يكشف العنف السياسي الكامن الذي تمارسه في الخفاء. إن الهدف من فضح هذا العنف المقنّع، هو أن يصبح بالإمكان مقاومته والنضال ضده بوعي وبصيرة". ميشيل فوكو– حوار مع نعوم تشومسكي حول الطبيعة الإنسانية.
في خضم مأساة الحرب التي تعصف بالسودان، تتكشف حقيقة مرة، أثقل من دوي المدافع وأشد إيلاما من الدمار الناتج عنها. حقيقة تيه فكري غير مسبوق ضرب على بنية الوعي السياسي السوداني، وتجاوزت فيه أدوات السياسة الاستقطابَ التقليدي لتشهد تفكيكا كاملا لمعنى "الوطنية" و"المصلحة العامة" في الممارسة السياسية، واختُزلت فيه القضايا الوطنية ومقاصدها لتتحول لمحض أدوات في الصراع من أجل البقاء وإعادة التموضع السياسي.
منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، انخرط طيف واسع من القوى السياسية السودانية- يمينا ويسارا- في محاولة استغلال المأساة، لتصفية حساباتها السياسية وإعادة تقديم نفسها وخطابها وتحويل الكارثة الوطنية إلى رأسمال رمزي في حسابات النفوذ وروافع سياسية ذاتية غير معنية بمجريات الحرب وما فيها من مكابدة، بل تهدف لانتصار الذات السياسية والتنظيمية.
إن ما نشهده في السودان لم يعد مجرد صراع عسكري مسلح، بل هو أيضا انهيار شامل لفحوى الممارسة السياسية الوطنية وتفكيك جذري للبوصلة الأخلاقية التي توجهها بشكل ينعكس في انتهازية محمومة، تساهم في تحويل أشلاء الوطن إلى غنيمة سياسية، وتبني سردياتها الكبرى على أنقاض الواقع. وفي هذا المشهد، أصبحت الحرب مجرد خلفية عرض في مسرحية إعادة ترميم الذوات السياسية المهترئة. لقد أدى عطب منطق تحويل الوطن إلى غنيمة، إلى سقوط مزدوج، في أحلك لحظات التاريخ الوطني: انهيار ودمار شامل على الأرض أمام دوي المدافع، وسقوطٌ سياسي في الفراغ أمام انهيار أعمدة المشروع الوطني.
فمن جهة، نجد مجموعات من الإسلاميين الذين فقدوا مقاعد السلطة بعد نجاح الثورة الشعبية في أبريل 2019 في الإطاحة بنظام حكم "المؤتمر الوطني" وخلع الرئيس عمر البشير الذي تربع على مقاعد حكم البلاد منذ انقلاب "الجبهة القومية الإسلامية" في يونيو/حزيران 1989، تحاول القفز على الرفض الشعبي العارم الذي قاد مواكب ثورة ديسمبر ضدهم وإعادة تقديم أنفسهم وخطابهم وإعادة التموضع كأوصياء على الجيش وعلى الدولة في مواجهة جرائم "الدعم السريع" وتصوير أنفسهم على أنهم الجهة السياسية الحاضنة لها، ليمسحوا بأستيكة ماضيهم الاستبدادي وإرث ثلاثين عاما من حكم الفساد والاستبداد الذي أسقطته جحافل الثورة الشعبية العارمة وهي متمسكة بسلاح سلميتها، وأن يقفزوا في ذلك على أن الميليشيا التي تذيق السودانيين الأمرين حاليا هي أحد أسوأ منتجات عهد حكمهم وأن تمددها هو من عواقب سوء إدارتهم لشأن البلاد وأن كوادرهم التنظيمية هي التي تسيطر على مفاصل صناعة القرار الرئيسة فيها. وهم يحاولون تصوير الحرب كمدخل لمشروع عودتهم المتسللة للحكم في البلاد، وادعاء أنهم المعسكر الوطني الذي وقف في وجه طوفان الدمار الذي اجتاح السودان على يد "قوات الدعم السريع" ووصف أي انحياز ضد جرائم الميليشيا وضد طبيعتها الفاشية على أنه انحياز سياسي لمعسكرهم.