حكومة "تأسيس" الموازية في السودان... صناعة الوهم السياسي وشرعنة العنف

مفارقة مأساوية تعكس انهيار منظومة القيم والسيادة لدى النخب السياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
محمد حمدان دقلو (حميدتي) شمال غرب الخرطوم في عام 2019

حكومة "تأسيس" الموازية في السودان... صناعة الوهم السياسي وشرعنة العنف

في السادس والعشرين من يوليو/تموز 2025، أعلن تحالف تأسيس السوداني، والذي يترأسه قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن تكوين حكومة موازية للحكومة السودانية، أطلق عليها اسم "حكومة السلام".

تتألف هذه الحكومة من مجلس رئاسي، يضم خمسة عشر عضوًا، يترأسه حميدتي، ويعاونه نائبا عبد العزيز الحلو، قائد أحد فصائل "الحركة الشعبية-شمال". كما يشمل المجلس حكامًا رمزيين للأقاليم السودانية، بما في ذلك مناطق خارج نطاق سيطرة "قوات الدعم السريع"، التي تقتصر حاليًا على أجزاء من دارفور وكردفان. وقد تم تعيين محمد حسن التعايشي، عضو مجلس السيادة السابق، رئيسًا لمجلس الوزراء، بينما يتولى اللواء المتقاعد فضل الله برمة ناصر، رئيس أحد فصائل "حزب الأمة"، رئاسة المجلس التشريعي.

تأتي هذه الخطوة بعد خلافات حادة، داخل التحالف حول توزيع المناصب والأنصبة، في هذه الحكومة الافتراضية، التي تستحق الوصف على حد تعبير الشاعر الأندلسي، بأنها "ألقاب مملكة في غير موضعها".

أتى إعلان هذه الحكومة على عجالة، ليسبق بأيام اجتماع المجموعة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات، الذي كان مقررا عقده اليوم الأربعاء في 30 يوليو/تموز 2025 لمناقشة الأزمة السودانية، قبل أن تقرر الخارجية الأميركية إلغاءه من دون تحديد موعد لاحق. ويظهر أن قادة التحالف قرروا تجاوز خلافاتهم مؤقتًا، معجلين بإعلان تشكيل هذه الحكومة، طمعًا في ذكرهم في الاجتماع أو نيل الاعتراف بها أو مساواتها بالحكومة السودانية الرسمية في بورتسودان. وقد بدأت بعض الأطراف السياسية المتماهية مع "قوات الدعم السريع" في الترويج لهذا الخطاب، مشيرة إلى "حكومة نيالا" مقابل "حكومة بورتسودان".

في هذا السياق، أعرب صديق الصادق المهدي، الأمين العام لتحالف "صمود" بقيادة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عبد الله حمدوك، عن اهتمام تحالفه بالحوار مع التحالف التأسيسي بعد إعلان حكومته، كجزء من رؤيتهم لتحقيق السلام، وصون وحدة السودان.

يهدف إعلان هذه الحكومة الموازية إلى إعادة تقديم صورة الدعم الخارجي والتسليح المستمر الذي تقدمه بعض الأطراف الإقليمية إلى "قوات الدعم السريع"، بشكل مقبول وذلك بعد أن أثار جدلًا واسعًا، وأحرج هذه الدول في المحافل الدولية، بسبب تورطها في دعم ميليشيا غير حكومية، متهمة بارتكاب فظائع وجرائم حرب، وإبادة جماعية، وفق تصنيف رسمي من حكومة الولايات المتحدة.

كان تدمير ونهب المتحف القومي أبرز مظاهر الهمجية، بعد أن أدى إلى ضياع تراث حضاري، يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام

من خلال تشكيل حكومة موازية تحمل هيكلية شكلية تشبه الحكومات الرسمية، تسعى "قوات الدعم السريع" ومن يقف خلفها إلى تخفيف الحرج السياسي والدبلوماسي والأخلاقي عن الدول الداعمة، التي تواصل حتى الآن تسليح هذه الميليشيا، رغم الانتقادات الدولية ورغم انفضاح هذا الأمر على نطاق عالمي واسع، امتد من تقارير الأمم المتحدة، وحتى الصحافة العالمية، ليتسبب في ضرر جسيم على صورة وسمعة هذه الدول، بعد أن أنفقت مئات ملايين الدولارات على تجميل صورتها، وتقديم نفسها للعالم، ولكنها خسرت كل ذلك بشكل سريع بسبب الجرائم والفظاعات، التي تورطت في دعمها عبر تسليح ميليشيا "قوات الدعم السريع" خلال حرب السودان الحالية. في هذا السياق، يمكن أن يشكل إعلان هذه الحكومة محاولة لإضفاء طابع رسمي على هذا الدعم، مما يتيح لهذه الدول، الدفاع عن مواقفها في الأروقة الدولية، مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، على أساس أنها تدعم "حكومة" تسعى لتحقيق السلام والاستقرار، وليس مجرد فصيل مسلح.

أ.ف.ب
قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يحضر مؤتمرًا للخدمة المدنية في بورتسودان في 29 أبريل

وكما يسعى إعلان هذه الحكومة، إلى تقديم "قوات الدعم السريع" ككيان سياسي منظم، يمتلك رؤية حوكمة، بدلاً من تصويرها كجماعة مسلحة، تسعى لزعزعة الاستقرار. كما يحاول داعمو الحكومة الموازية، الترويج لها من خلال وعود بتقديم خدمات للمواطنين في مناطق سيطرتها. لكن الواقع كشف عن فشل ذريع من قبل "قوات الدعم السريع" في تقديم أي نموذج للحوكمة في المناطق التي سيطرت عليها. فعندما سيطرت هذه القوات على ولاية الخرطوم، سادت حالة من الفوضى والعنف الهمجي، وقامت بقتل وتشريد الآلاف، إلى جانب احتلال ونهب منازل المواطنين، وارتكاب حالات غير مسبوقة من العنف الجنسي، وجرائم الاغتصاب على نطاق واسع. كما شهدت العاصمة تدميرًا للبنية التحتية المدنية، بما في ذلك محطات المياه، والكهرباء والمستشفيات، وكان تدمير ونهب المتحف القومي أبرز مظاهر الهمجية، بعد أن أدى إلى ضياع تراث حضاري، يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام. لم يقتصر هذا النمط على الخرطوم، فقد شهدت ولاية الجزيرة، هيمنة إجرامية مماثلة، خلال سيطرة "قوات الدعم السريع"، حيث شهدت قرى مثل السريحة، وود النورة، مجازر مروعة، وأعمال نهب واغتصاب وتهجير. وفي دارفور، تشهد مدن مثل نيالا وزالنجي والضعين، انتهاكات جنسية مستمرة، وجرائم اغتصاب غير محصورة، إلى جانب نهب مسلح للممتلكات على يد جنود "الدعم السريع" المسيطرين عليها. ومن أبرز الفظائع التي شهدتها دارفور عند بدء اندلاع الحرب، كانت مجزرة المساليت التي ارتكبتها الميليشيا في شهر مايو/أيار، ويونيو/حزيران 2023، التي راح ضحيتها حوالي خمسة عشر ألف مواطن، في مدينتي الجنينة وأردمتا بغرب دارفور خلال أيام.

يهدف إعلان الحكومة إلى إعادة تعريف أطراف النزاع في السودان، بطريقة تخدم مصالح "قوات الدعم السريع" و"تحالف تأسيس"

علاوة على ذلك، يهدف إعلان الحكومة إلى إعادة تعريف أطراف النزاع في السودان، بطريقة تخدم مصالح "قوات الدعم السريع" و"تحالف تأسيس". فبدلاً من التصنيف المباشر الذي يضع "قوات الدعم السريع" كميليشيا مسلحة تواجه الجيش الرسمي، يسعى هذا الإعلان إلى تصوير النزاع، على أنه مع طرف سياسي مواز،ٍ يمتلك هيكلية حكم وبرنامجا سياسيا. يهدف هذا التحول إلى إرباك المشهد السياسي السوداني، ومحاولة إيجاد تبرير للأطراف الدولية والإقليمية، على التعامل مع "حكومة الدعم السريع" ككيان سياسي طبيعي ذي مشروعية، وليس مجرد فصيل عسكري. تحمل هذه الخطوة دلالات رمزية، إذ تسعى لتغيير التصورات حول الصراع من كونه نزاعاً بين حكومة شرعية ومتمردين، إلى صراع بين "حكومتين" متنافستين، مما يمنح "قوات الدعم السريع" مكانة سياسية أقرب إلى الشرعية، بشكل يفتح الباب أمام مفاوضات مستقبلية، تضع الطرفين على قدم المساواة، خاصة في ظل الضغوط الدولية لإيجاد حل سياسي شامل.

أ.ف.ب
نازحون سودانيون يصلون إلى محطة حافلات في الخرطوم، 28 يوليو 2025، لدى عودتهم إلى العاصمة

فضلاً عن ذلك، يعكس إعلان الحكومة محاولة لتكريس الاستقطاب، بين القوى السياسية والمجتمعية في السودان واستغلاله. فقد أدى مقترح تشكيل هذه الحكومة بالأساس، إلى انقسام تحالف "تقدم"، وامتدت الانقسامات لتشمل الأحزاب السياسية المكونة له، حيث انقسم "حزب الأمة" بين معسكر رئيسه الذي يترأس المجلس التشريعي لحكومة "الدعم السريع"، وبين الأطراف الأخرى المتشظية داخل الحزب. كما أعلن فصيل من "حزب المؤتمر السوداني"، أطلق على نفسه اسم "المؤتمر السوداني الفيدرالي"، انقسامه لينحاز بشكل معلن إلى معسكر "قوات الدعم السريع". وهو استقطاب يكرس لحالة الانقسام السياسي والجغرافي، ويمهد لمزيد من التشظي في البلاد.

"الدعم السريع" لا يمثل مشروعًا سياسيا جادا لتجاوز الأزمة، ولا تطورا طبيعيا في مسار إعادة بناء الدولة، بل هي تجسيد صارخ للتحلل من فكرة الدولة نفسها، وخدمة الأجندات الخارجية والدعم الخارجي.

بالنظر إلى إعلان هذه الحكومة في سياقه الحقيقي، لا يمكن النظر إلى حكومة "الدعم السريع" على أنها مشروع سياسي جاد لتجاوز الأزمة، ولا تمثل تطورا طبيعيا في مسار إعادة بناء الدولة، أو تطورها بأي حال من الأحوال، بل هي تجسيد صارخ لسعي "الدعم السريع" وحلفائها للتحلل من فكرة الدولة نفسها، حين تنبع السلطة لا من الشرعية أو الخدمات أو الرؤية أو الأداء، بل من السيطرة المسلحة، وخدمة الأجندات الخارجية والدعم الخارجي. إن ما نراه أمامنا ليس بداية لحل، بل تعبيرًا عن مأزق أخلاقي وسياسي عميق، يطال الفاعلين المحليين والدوليين على حد سواء. فإضفاء الصبغة الحكومية على جماعة ارتكبت جرائم إبادة واغتصاب ونهب واسع، لا يغير من طبيعتها، بل يغير فقط من حدود الجريمة: من فعل ميليشياوي خارج النظام وحكم القانون، إلى جريمة منظمة تتم تحت عباءة "الحكم" وباسم "السلام". وهنا، تختل معايير السياسة، ومعاني الشرعية وحدود الممكن والمقبول. وهو ما نجده واضحا في سلوك القوى المتماهية في صورتها الكلية مع "الدعم السريع" مثل تحالف "صمود" والذي رفض تشكيل الحكومة، ولكنه أعلن قبوله التعامل مع أطرافها في تحالف "تأسيس" بل سعيه للتواصل معهم، وهم الأعضاء السابقون معهم في تحالف "تقدم"! في حين أن مجرد التواصل مع الحكومة السودانية، يجد منهم الإدانة والاستنكار وتوزيع الاتهامات والإساءات. وهو ما يكشف بجلاء عن تورط "صمود" في محاولة شرعنة سردية إفناء الدولة لصالح جمهورية "الكدمول الجنجويدي".

أ.ف.ب
مبنى برنامج الغذاء العالمي بالخرطوم، 28 يوليو 2025

يمثل إعلان هذه الحكومة الموازية محاولة لإعادة تعريف الحقيقة: بمحاولة شرعنة الجريمة عبر تقديمها في طقوس الدولة. إنها مفارقة سودانية مأساوية تعكس انهيار منظومة القيم والسيادة، لدى أجزاء واسعة من النخبة السياسية التي تحاول تحصين نفسها بالشعارات التطهرية، بينما هي تبقر بسكين سردياتها خاصرة الوطن.

لا يكمن الخطر الأكبر في وجود هذه الحكومة، بل في قبول التعامل معها، بوصفها طرفًا سياسيا طبيعيا. لأن في هذا القبول تكريسٌ لمبدأ القوة فوق الحق، وتسليمٌ بتفوق منطق السلاح على منطق النظام وحكم القانون، وهو مسار إذا ما استمر الترويج له وترديده، فسيقود البلاد، إلى تعميق التشظي، وتعميم النموذج الميليشياوي وحكم الغاب الذي قدمت نموذجه "قوات الدعم السريع" في كل مكان سيطرت عليه كبديل للدولة.

وهنا، فإن مهمة الفاعلين السياسيين والمدنيين السودانيين، كما المجتمع الدولي، لا تقتصر على رفض هذه الحكومة الرمزية، بل على التعامل مع جوهر الصراع الجاري على أسس الحقيقة والوقائع، وليس سرديات المتاهة المعرفية والأكاذيب والادعاءت، التي يكذبها الواقع والأحداث القريبة. إن استعادة مركزية المدنية، يحتاج إلى تبني التعامل مع الواقع كما هو، وليس اختيار تقديمه بشكل انتقائي، وتصويره على أسس رغبوية، لأن ذلك لا يمكن أن يخدع السودانيين، الذين رأوا وعاشوا بأنفسهم ميقات الشر الأعظم، تحت سيطرة "قوات الدعم السريع". وهذا يتطلب أيضا تحويل الانتباه من شكلانيّة الشعارات، ومحاولة تغليف الانحيازات السلطوية، وخدمة الأجندات الخارجية، إلى أسس بناء الدولة الفعلية: العدالة، المساءلة، المشاركة، والحماية. لأن السودان لا يحتاج إلى حكومة جديدة، بل إلى إنهاء الوجود المؤسسي للميليشيات، والمحافظة على جهاز دولته.

font change