يهتم الفيلسوف الأميركي ديفيد ليفينغستون سميث، في كتابه "صناعة الوحوش" الصادر حديثا بترجمة سلمى الحافي عن "دار الساقي"، بتفكيك التصورات الساذجة التي طالما ردت الجرائم الكبرى والمجازر المروعة إلى الكراهية والبربرية والانفعالات غير المنضبطة. تفسيرات ترى في الشر فعلا فجائيا وعشوائيا يظهر عند تجاوز حدود السيطرة.
لكن سميث يرفض هذا التبسيط. يجتهد في الكشف عن مسار طويل ومعقد ومنظم يفضي إلى نزع الإنسانية عن الآخر. مسار يُبنى بتراكم مقصود ويوظف أدوات الخيال واللغة والعاطفة والتاريخ، لينتج في النهاية نظاما رمزيا مغلقا يصور الآخر بوصفه كائنا لا يستحق الحياة. وفي هذا النظام، لا يُقتل الإنسان لأنه ارتكب خطأ، بل لأنه طُرد من حقل الإنسانية. حين يُنتزع عن شخص ما وصف الإنسان، لا تعود حياته ذات قيمة ولا يُنظر إلى موته كخسارة.
يعتمد هذا النظام على بنية رمزية لا تعترف بالإنسان كقيمة ثابتة أو حق مكتسب، بل كمكانة تُمنح وتُسحب. تتحول صفة الإنسان إلى امتياز رمزي تمنحه جماعات وسلطات معينة وتقرر من يستحقه ومن يجرد منه. يرى سميث أن هذه البنية وجدت دعائم جديدة في العالم المعاصر بفعل التسارع التقني وانتشار وسائل الاتصال والميديا. باتت الدعاية وصناعة الصور وبث التخيلات أدوات سهلة ومتاحة، ويمكن عبرها تجريد شعوب بأكملها من الحق في الحياة وبناء أنظمة من التصنيف الرمزي تقصي جماعات بكاملها.
ويلفت الفيلسوف إلى أنه في بعض الأنظمة لا يُنظر إلى الإنسان كحقيقة بيولوجية بل كقيمة رمزية خاضعة للقياس. لا كل الأجساد تُمنح المكانة ذاتها ولا كل الأرواح تُعامل كأنها متساوية. في هذا المعنى، يرى سميث أن الإبادة لا تنتجها الكراهية وحدها، بل نظام متكامل من التخيل الرمزي، يجعل القتل مشروعا، والاستبعاد فضيلة، والوحشية ضرورة.
وحش الأوهام العميقة
تعمل آليات التجريد من الإنسانية، كما يوضح سميث، من داخل استراتيجيات بالغة التعقيد، تستفيد من المخاوف البدائية المغروسة في النفس البشرية لتبني صورة لكيان لا يُختزل في مرتبة دنيا، بل يُصور ككائن مختلف جذريا لا ينتمي إلى نوعنا.