غزة من مختبر لأسلحة الدمار والتكنولوجيا إلى مختبر لآليات الهيمنة الإعلامية

بدايات تصدّع الرواية الإسرائيلية؟

REUTERS/Violeta  Santos Moura
REUTERS/Violeta Santos Moura
متظاهرون يحملون أعلامًا ولافتة كتب عليها "أوقفوا الإبادة الجماعية في فلسطين" خلال احتجاج في العاصمة الإسبانية للتضامن مع الفلسطينيين والمطالبة بوقف بيع السلاح لإسرائيل

غزة من مختبر لأسلحة الدمار والتكنولوجيا إلى مختبر لآليات الهيمنة الإعلامية

تناولت محطة "أيه بي سي نيوز" الأميركية خبر الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار التي فقدت تسعة من أولادها في قصف إسرائيلي لبيتها ترك ولدها الأخير وزوجها في حالة حرجة، وهذه من المرات القليلة التي تُعنى فيها منصة إعلامية أميركية كبرى بذكر الانتهاكات الإسرائيلية في غزة.

إلا أن الخبر لم يكن في جوهره حول تلك "الانتهاكات"، بل هذه مزاعم "وزارة الصحة في غزة"، أي "حماس"، وهو ما التقطه المعلقون، الوهميون والحقيقيون، على حساب المحطة على "إكس"، لإطلاق الحكم الجازم، بأن هذا "خبر كاذب" Fake News. حكم لا يكتسب شرعيته من أي آلية فحص وتدقيق، بل يبدو في حد ذاته آلية رد تلقائية دفاعية/ هجومية، للدحض الآني والسريع، انطلاقا من سلسلة انحيازات مسبقة أخرى يمكن اختصارها بـ: هل أنت "مع" إسرائيل (حرب إسرائيل على غزة/ احتلالها إلخ) أم "ضدها"؟ بناء على ذلك يمكنك الرد فورا، عند اطلاعك على منشور كهذا (حتى دون الحاجة إلى قراءة الخبر كاملا)، دون الحاجة إلى مشاورة مصادر أخبار أخرى، أو القيام ببعض الجهد لفحص مصداقية الخبر من عدمها.

تصنيفات مسبقة

هذا الخبر ليس استثناء. كل الأخبار التي تتناول الجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، تصنّف مسبقا بهذه الطريقة، وبالتالي لا يهم حجم الفظاعة التي تعكسها المشاهد المتدفقة من غزة، بصورة يومية تقريبا، فالحكم جاهز دوما: أخبار كاذبة، دعاية "حماس"، معاداة السامية. أحد المعلقين على منشور آخر على حساب قناة "سكاي نيوز" البريطانية على "إكس"، تضمن صورة طفل ملقى على سرير، يكاد يموت جوعا بفعل الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومنعها دخول المساعدات، وقد أصبح الطفل كتلة عظام وأوشك على الموت، قال ذلك المعلق: "كيف نصدق أن هذا الطفل يموت جوعا بينما تبدو أمه في الصورة بصحة جيدة، هذا الطفل يعاني من مرض ما، وحماس تسوّق الأمر على أنه بسبب الجوع". معلق آخر اتهم القناة بأنها معادية للسامية. معلق آخر على خبر الطبيبة المفجوعة، سارع إلى القول: "إن صح الخبر، فهذا لأن حماس تصر على اتخاذ المدنيين دروعا بشرية".

هذه ليست حالات معزولة، بل هي سياسة إعلامية ممنهجة اعتمدتها إسرائيل، وداعموها منذ اللحظة الأولى للحرب، وأرسوا خطوطها العريضة

هذه ليست حالات معزولة، بل هي سياسة إعلامية ممنهجة اعتمدتها إسرائيل، وداعموها منذ اللحظة الأولى للحرب، وأرسوا خطوطها العريضة، التي تتراوح من: "كل الضحايا المدنيين الذين يسقطون هم إما أضرار جانبية لـ (الحرب) وإما نشطاء مع "حماس"، وإما مدنيون قتلوا لأن نشطاء ومقاتلي 'حماس' يتعمدون الاندساس بينهم"، وصولا إلى الاستنتاج الأكثر تطرفا: "ليس هناك مدنيون في غزة، ما داموا يسمحون لحماس بالسيطرة على القطاع ولا يضغطون عليها ضغطا كافيا لإطلاق الرهائن الإسرائليين لديها"، وهو ما عبّر عنه بفجاجة عضو الكونغرس عن الحزب الجمهوري راندي فاين، في مقابلة عبر "فوكس نيوز" إلى قصف غزة بالقنبلة النووية مثلما فعلت أميركا مع اليابان خلال الحرب العالمية الثانية. وهو ليس الأول في مثل هذه الدعوات.

 REUTERS/Hatem Khaled
الطبيبة الفلسطينية ألاء النجار (يسار الصورة)، أخصائية الأطفال التي فقدت تسعة من أطفالها في غارة جوية إسرائيلية، تنهار من الحزن في مستشفى ناصر في خان يونس، جنوب قطاع غزة

وغالبا ما تلجأ هذه السياسة، مع كل خبر أو صورة أو فيديو، يعكس فظائع من هذا القبيل، إلى منشورات تذكّر بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والمدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا في ذلك اليوم، وهي منشورات ترفق أيضا مع صور وتعليقات حول المأساة التي عاني منها الإسرائيليون. الهدف المطلق لهذه السياسة هو إنكار أن ما يجري "إبادة"، أو "جرائم حرب" يرتكبها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وحتى حين تنقل صحف إسرائيلية مثل "هآرتس" أخبار تلك الانتهاكات، فإن الجواب جاهز دوما وهو أن مثل وسائل الإعلام هذه وقعت ضحية التضليل الإعلامي الذي تمارسه "حماس".

حرب أم جرائم حرب؟

بحسب الرواية الإسرائيلية المعتمدة إذن، ليس هناك ضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، والقوات الإسرائيلية تقوم بعملياتها في غزة بـ"صورة مثالية"، بحسب وصف السياسي الأميركي جون بولتون، في مقابلة صحافية أجرتها معه أخيرا وسيلة إعلام عربية، وقد استدل على ذلك بما خلاصته هذا ما يخبرنا به المسؤولون الأميركيون الذين يتواصلون مع الجانب الإسرائيلي. إذن، "لا إبادة"، بل حرب، وهي حرب بين طرفين، إسرائيل ممثلة بجيشها و"حماس" ممثلة بمقاتليها "كتائب القسام"، وهو التصنيف الذي يمكن وصفه بـ"المريح"، إذ أنك حين تحدد الأمر بهذه الكلمات، وحين يكون هناك تغييب متعمد لحضور أي وسيلة إعلامية أو هيئة تقصّ للحقائق خارجية مستقلة، يصبح الأمر محصورا بين مصدرين للأخبار: الحكومة الإسرائيلية، وحركة "حماس". كل ما يصدر من داخل غزة، من تقارير وشهادات، وخصوصا من صور وفيديوهات، يصبح تلقائيا موضع تشكيك، وقد مضت حكومة الحرب الإسرائيلية في خطوات محسوبة في هذا المجال، إذ تعمدت قتل صحافيين، تابعين بصورة مباشرة أو غير مباشرة لوسائل إعلام عربية وفلسطينية، أو مستقلين تماما، وكان التصنيف جاهزا، فهم "تابعون لحماس"، وبالتالي أسبغت عليهم الصفة الأيديولوجية والسياسية والحركية الجاهزة، المراد منها تبرير قتلهم، وأكثر من ذلك إيصال صورة إلى العالم، بأن كل ما يصدر حتى عن الصحافيين المستقلين هو موضع شك.

كل ما يصدر من داخل غزة، من تقارير وشهادات، وخصوصا من صور وفيديوهات، يصبح تلقائيا موضع تشكيك

لذلك، فإن المرات القليلة التي استدعت تحقيقات من قبل الجيش الإسرائيلي، في شأن انتهاكات ضد المدنيين الفلسطينيين، وبصرف النظر عما خلصت إليه تلك التحقيقات، مصدر الشهادات فيها هو الجانب الإسرائيلي نفسه، ولذلك كان يصعب التملص من الأمر فعُزي إلى "أخبار كاذبة" أو إلى "دعاية حماس"، وتم تحويله بدلا من ذلك إلى الآليات البيروقراطية الداخلية، التي لا تعطل في أي حال من الأحوال الطريقة التي تخوض بها إسرائيل الحرب، ولا تدخل أي تعديلات جوهرية عليها، بل إنها في الغالب تعززها، فمنطوق تلك التحقيقات هو أن إسرائيل مستعدة للاعتراف بحصول "خطأ" ما، وإن كان سبب تلك "الأخطاء" غالبا هو شعور مقترفيها (الجنود) بالتهديد والخطر من قبل مقاتلي "حماس". أخطاء إذن، لا جرائم، ولا انتهاكات.

Bashar  TALEB / AFP
مشهد للخيام التي تأوي النازحين الفلسطينيين في مدينة غزة

طفلة في حريق

كالعادة، يصرخ بعض المعلقين الفلسطينيين والعرب، ولا سيما أهل غزة أنفسهم: ألا يرى العالم حقيقة ما يجري هنا؟ صرخة تدوي بصورة يومية تقريبا. المرة الأخيرة كانت بعد انتشار مقطع فيديو وصور الطفلة الفلسطينية وردة الشيخ خليل (5 سنوات) وهي تمشي بين النيران، محاولة النجاة بنفسها، بعد قصف إسرائيلي لمدرسة فهمي الجرجاوي أودى بحياة 23 مدنيا من النساء والأطفال، بمن فيهم والدة وردة وأخوتها. الصورة غيّبت تماما من الإعلام الجماهيري العالمي، الأميركي وسواه، وتجاهلها أيضا الإعلام "الرسمي" العربي. في مشهد يعكس حقيقة لا مفر منها وهي أن الاعتراف بفظاعة مثل هذه الصور، يوجب رد فعل ما، احتجاجا أو غضبا أو إدانة إلخ، أما تجاهل الصور فيعني أن ما تصوره لم يحدث حقا، وإن اعتُرف بحدوثه فإن ذلك لا يعني بالضرورة فداحته.

الحقيقة الأكيدة أن إسرائيل تتحرك ليس فقط تحت غطاء سياسي ودبلوماسي وإعلامي غير مسبوق في ضخامته ومنهجيته، بل أيضا في ظل سردية متمادية في الإنكار

بديهي إذن، أن يستحضر الفلسطينيون والمناصرون لقضيتهم، بعد كل صورة فظيعة كهذه، ساحات وميادين أخرى. يتذكرون المثال الأقرب زمنيا، أوكرانيا، وحجم الاستياء الغربي بعد سقوط كل ضحية مدني، ويتذكرون حرب فييتنام وبعض الصور الأيقونية، خصوصا لأطفال وشيوخ، التي علقت في الذاكرة الإنسانية. كما يذهب بعضهم أبعد من ذلك، إلى فظائع صور معسكرات الاعتقال النازية. لكن هذه المقارنات، وإن عكست "المعايير المزدوجة" التي فقدت معناها لكثرة ما تم تداولها دون نتيجة أو أثر، فإنها في حقيقة الأمر لا تحقق الهدف المرجو منها. لا تصل إلى حيث يجب أن تصل، وحتى إن وصلت في مرات قليلة نادرة، فإن ذلك لا يعني أنها ستحقق النتيجة المرجوة، وستدفع إلى صرخة عالمية مدوية وحقيقية يمكن أن تؤثر في مجريات الأحداث، وأن تضغط لوقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي. الحقيقة الأكيدة أن إسرائيل تتحرك ليس فقط تحت غطاء سياسي ودبلوماسي وإعلامي غير مسبوق في ضخامته ومنهجيته، بل أيضا في ظل سردية متمادية في الإنكار، قادرة على أن تتحدى في آن واحد الأدلة المصورة، الشهادات (بما في ذلك شهادات الضحايا أنفسهم) والأرقام والإحصاءات، الاحتجاجات الدولية التي يشارك بها مناهضون للحرب، كل هذا يبدو لا وزن له أمام تلك السردية، حيث لكل سؤال جواب، ولكل سيناريو افتضاحي يطرح سيناريو إنكاري مقابل، ولكل إدانة دولية قد تصدر، ثمة عشرات بيانات وتصريحات وتعليقات الدعم.

Jack GUEZ / AFP
أعمدة الدخان تتصاعد فوق أبنية مدمّرة نتيجة القصف الإسرائيلي

حرب الهيمنة على السرد

لم تكن غزة، والحال هذه، مختبرا فقط، للأسلحة والقنابل والتكنولوجيات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، بل هي أيضا مختبر لصناعة السرديات الإعلامية المهيمنة. ليس خافيا الدور الذي تؤديه شركات التواصل الاجتماعي الكبرى، والتي تحارب وتخفي السردية الفلسطينية، وتعلي السردية الإسرائيلية وتبرزها، ومعها بالطبع وسائل الإعلام الجماهيرية، من محطات تلفزيونية ومواقع إلكترونية إخبارية وصحف ومجلات ومراكز دراسات وأبحاث. فقد أدرك الإسرائيليون منذ البداية، وانطلاقا من التجارب السابقة وبناء عليها، أن الحرب ستكون على جبهات متوازية، الجبهة الميدانية العسكرية، والجبهة الدبلوماسية، والأهم الجبهة الإعلامية. سوف تكشف لنا الأيام على الأرجح، بالبيانات والمعطيات والأرقام، ما يبدو خافيا حاليا من حجم الاستثمارات التي ضختها وتضخها إسرائيل وداعموها في هذه الجبهة الأخيرة، إلا أن علاماتها واضحة منذ الآن.

ما تشهده الشوارع الأوروبية، بل وحتى الأميركية، من تظاهرات منددة بإسرائيل، تقلل هذه الأخيرة شأنه بنسبه إلى "معاداة السامية"، الحجر الأساس في الماكينة الدعائية الإسرائيلية

قبل فترة قصيرة شهد الملايين حول العالم الحلقة الأخيرة من المسابقة الغنائية الأوروبية الكبرى "يوروفيجن" التي يفترض أن تتوج المغني الأفضل على صعيد أوروبا. إسرائيل كانت مشاركة كالعادة. وكما حدث العام الماضي تماما، تراجعت المشاركة الإسرائيلية إلى ذيل قائمة المرشحين للفوز باللقب، بحسب لجان التحكيم الموزعة على بلدان أوروبا ومعها أوستراليا وإسرائيل، إلا أنه عند إعلان نتائج التصويت الهاتفي الشعبي قفزت المنافسة الإسرائيلية إلى قمة القائمة. صدمة دوّت في بيوت المشاهدين الأوروبيين وحول العالم، ولم يستطع حتى الداعم الإعلاني الإسرائيلي للمسابقة، إخفاء وقعها بين آلاف الحاضرين مباشرة في موقع الحدث، وحتى بين المذيعين، فالجميع كان يعرف أن أداء المنافسة الإسرائيلية لا يرتقي حتى إلى أن يكون ضمن الخمسة الأوائل، إلا أنها ورغم أنف الجميع تصدرت التصويت الشعبي. وهو ما استثمرته الحكومة الإسرائيلية فورا، مخاطبة الحكومة الإسبانية، صاحبة المواقف الواضحة في مناهضتها لحرب إسرائيل في غزة، بالقول إن "الإسبان قالوا كلمتهم"، أي أنهم شأن الأوروبيين جميعا إنما يؤيدون إسرائيل. أما ما نراه من مواقف سياسية رسمية، ومواقف شخصيات ونواب وإعلاميين ومثقفين، ومواقف الناس الذين يخرجون يوميا في تظاهرات حاشدة ضد الحرب، فهذا كله – كما تريد الدعاية الإسرائيلية قوله – محض وهم. شركة الاتصالات الإسبانية، أمام حجم هذه الكذبة، طالبت بتحقيق في عملية التصويت، وسننتظر لنرى نتائج هذا التحقيق، إلا أن الأهم من ذلك هو الصدمة التي سرت بين غالبية الأوروبيين، أمام هول ما جرى. لم تفز المرشحة الإسرائيلية في النهاية، إلا أن ذلك لم يخفف أثر الصدمة.  

Menahem KAHANA / AFP
دبابات الجيش الإسرائيلي تنتشر قرب حدود قطاع غزة وسط تقارير عن استدعاء عشرات آلاف الجنود الاحتياطيين تحضيرًا لتوسيع الهجوم

تصدّعات

جرت تلك المسابقة في أجواء لا تشبه أبدا المشهد الدامي في غزة. أجواء من البهجة والاستعراض والجمال، تكاد تكون النقيض التام لفظاعة المشهد في غزة. إلا أن خيطا يصعب تجاهله ربط بين ذلك المشهد الاستعراضي الغنائي ومشهد القتل المفتوح، والمعروض أيضا أمام ملايين البشر حول العالم، وهو حجم الاستثمار الإسرائيلي في الدعاية والإعلام. ما تشهده الشوارع الأوروبية، بل وحتى الأميركية، من مظاهرات مندّدة بإسرائيل، تقلل هذه الأخيرة من شأنه بنسبه إلى "معاداة السامية"، الحجر الأساس في الماكينة الدعائية الإسرائيلية، فأولئك المتظاهرون والمعلقون هم إما "إسلاميون" مؤيدون لـ "حماس" وإما ضحايا التضليل الإعلامي لهذه الحركة. الملايين وفق هذه الرواية يصبحون مجرد رقم لا قيمة له، تماما مثلما يصبح قتل عشرات الآلاف في غزة، لا قيمة له، وقد خرج بنيامين نتنياهو أخيرا ليعلن صراحة إن شعار "الحرية لفلسطين" هو "شعار نازي" في توظيف لا تكلّ منه آلة الدعاية الإسرائيلية لفظائع الهولوكوست، وفي تتويج لهذه السردية الإنكارية التي تريد أن تسبغ على الاحتجاجات ضد حرب غزة طابعا ليس فيها، وهو أنها جميعها ضدّ اليهود وحقهم في الوجود، وليست ضدّ الحرب. هكذا، يستوي في هذه الرواية، حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، مع حقها في شنّ الحرب متى ما أرادت وعلى من أرادت وكيفما أرادت.

هذه التصدعات، وفي حين أنها لا تعكس وعيا أخلاقيا جديدا لدى تلك النخب السياسية اليمينية، فإنها تعكس مدى صعوبة هضم الرواية الإسرائيلية أمام فظاعة الواقع

رغم كل الجهود المبذولة لترسيخ هذه الرواية الإسرائيلية، فإن تصدعات بدأت تظهر بوضوح، وإن لم تقترب حتى من إمكان تغيير مسار الأحداث ووقف حرب الإبادة، لكن دلالاتها تبقى مهمة. بدأنا نشهد نبرة صوت مختلفة من قبل حكومات أوروبية، لا سيما تلك التي وقفت مع إسرائيل منذ البداية، مثل ألمانيا والسويد، وهذه التصدعات، وفي حين أنها لا تعكس وعيا أخلاقيا جديدا لدى تلك النخب السياسية اليمينية، فإنها تعكس مدى صعوبة هضم الرواية الإسرائيلية أمام فظاعة الواقع. هذا ما حدا قبل أيام قليلة بثلاثمئة مثقف فرنسي، من بينهم فائزان بجائزة نوبل (آني إرنو وجان ماري غوستاف لوكليزيو) إلى إصدار بيان مشترك، يحمل عنوانا لافتا "يجب أن نسميها إبادة"، ليلي هذا البيان بيان آخر ضم 380 كاتبا بريطانيا وأيرلنديا، دعا إلى "إنهاء الصمت الجماعي في وجه الرعب" وسمّى صراحة ما ترتكبه إسرائيل في غزة "إبادة" أيضا، في إدراك أن المسألة برمتها تبدأ وتنتهي هنا: هل هذه حرب؟ أم جرائم حرب؟ هل هذه مواجهة عسكرية بين الجيش الإسرائيلي و"حماس"، أم أنها حرب إبادة إسرائيلية متعددة الأهداف (في مقدمها الإجهاض التام للقضية الفلسطينية ولفكرة الدولة الفلسطينية) ضد الشعب الفلسطيني نفسه، لا ضد طرف واحد فيه؟

font change