يوسف القدرة الخارج من غزة: روحي ما زالت هناك

الكتابة صوت الناجين والذين لم ينجوا

يوسف القدرة في مرسيليا

يوسف القدرة الخارج من غزة: روحي ما زالت هناك

قال الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة إن الموت أصبح مناخا سائدا في غزة، وإن هناك دائما ما لا تصل إليه الكاميرات، وما لا يمكن ترجمته إلى صورة أو بث مباشر. وأضاف القدرة، الذي عاش أكثر من سنة ونصف السنة تحت نيران القصف، أن غزة لا تخرج من أهلها.

في هذا الحوار، تحدث يوسف القدرة الذي وصل قبل أسبوع إلى مرسيليا، جنوب فرنسا، الى "المجلة"، عن أيام وليالي الخوف التي عاشها، وكيف كان يواجه الموت بالكتابة، حيث كل جملة قد تكون الأخيرة. مضيفا أنه كان يكتب على الهاتف "دون شحن كاف، ودون ضوء سوى ما يصدر من الشاشة"، وأنه كان يكتب على ورق مقوى أحيانا، بعد أن يتحسس العتمة أو يتتبع صوت الطائرات. هنا نص الحوار.

خرجت من غزة. هل يمكن القول إنك نجوت؟ لقد عشت أكثر من سنة ونصف السنة تحت القصف، من بيت إلى خيمة، ومن خيمة إلى أخرى. كيف نفهم خروجك هذا في الوقت الذي نسمع فيه دعوات التهجير للغزيين؟

النجاة كلمة ثقيلة، تقال بسهولة، لكنها لا تعاش بسهولة. لم أنج، إنما انتزعت. كأن أحدهم قلعني من تربة صدري، ورماني في هواء لا أعرفه. ما حدث لم يكن خروجا، كان انفصالا مؤلما عن المدينة التي أحببتها حد التهلكة. كل خيمة تركتها خلفي كانت خيمة داخلي، وكل بيت تهدم على مرأى عيني، كان يشيد طبقة جديدة من الحنين فوق قلبي.

خروجي لم يكن نقيضا للثبات، إنه جزء من مقاومة صامتة. حين تصبح المدينة مسرحا دائما للقصف، لا يعود الرحيل خيانة، ولكن بحثا عن صوت منها يدوي باسمها.

غزة لا تخرج من أهلها، نحن نحملها مثل ندبة نبيلة، لا نخجل منها، ولا نتجاوزها

أما دعوات التهجير، فهي لا ترعبني فقط، إنها تربكني أمام هذا التاريخ العظيم الذي نحمله نحن الغزيين على أكتافنا. غزة لا تخرج من أهلها، نحن نحملها مثل ندبة نبيلة، لا نخجل منها، ولا نتجاوزها.

نجوت؟ لا أدري. لكنني كلما تنفست، شعرت أن غزة تخرج مع أنفاسي، نفسا بنفس.

الحياة والموت

لنعد إلى غزة، كم مرة شهدت الموت، أو لنقل عشته؟

في غزة، لا يعاش الموت كحادثة، إنه مناخ. لا أستطيع عد المرات التي شهدته فيها، فالموت هناك ليس لحظة، إنما حالة سارية في الهواء، كالرطوبة، كالغبار، كالصمت الذي يسبق الانفجار.

عشته في عين أمي التي فقدت ابنتها وحفيدتها، في صراخ جارتي تحمل بقايا ابنها، في صرخة صديقي يبحث عن عائلته تحت الردم، في نوم متقطع ينتظر صافرة طائرة، في لحظة تأخرت فيها عن البيت فظنوا أني صرت رقما في النشرة. عشته حين كنت أكتب، وكل جملة قد تكون الأخيرة. حين كنت أضحك، وأعرف أن الضحكة لا تؤخر الغارة. الموت كان جاري، وساكني، ونديمي الذي لا أنظر إليه كي لا يطيل النظر في. ولأنني عشته كل يوم، صرت أبحث عن الحياة في التفاصيل الصغيرة: كوب الشاي، رائحة الخبز، لمسة أمي، صوت البحر من بعيد. كنت أقاوم الفناء بجمال هش، لكنه حقيقي.

أنت من عشاق الحياة. كثيرون ممن عرفوك في غزة والقاهرة وصنعاء يقولون ذلك. كيف تعاملت مع هذه المعادلة الحياة/ الموت؟

أنا لا أحب الحياة بوصفها نقيضا للموت، أحبها لأنها هشة، مؤقتة، ولأني أعرف أنها ستنتهي. في غزة، كنت أعيش كل يوم كأنه آخر فصل في رواية طويلة لا أعرف كيف تنتهي. أضحك رغم كل شيء، أغني أحيانا بصوت خافت، أعد أكواب القهوة كأنها صلوات، وألتقط الصور للأشياء التي قد لا أراها مجددا.

لم أطلب العدل، طلبت فقط أن أعيش بكرامة داخل هذا الاختبار الكبير. الحياة لم تكن شعارا ولا ترفا، كانت تمردا صغيرا على آلة الموت، شكلا من أشكال المقاومة

المعادلة لم تكن متوازنة، لم تكن عادلة. لم أطلب العدل، طلبت فقط أن أعيش بكرامة داخل هذا الاختبار الكبير. الحياة لم تكن شعارا ولا ترفا، كانت تمردا صغيرا على آلة الموت، شكلا من أشكال المقاومة: أن تزرع نبتة في بيت مهدد بالقصف أو حول الخيمة، أن تحفظ قصيدة في العتمة، أن تحتفل بعيد ميلادك وسط الركام، أن تقول للأصدقاء: "أنا هنا، ما زلت أتنفس".

صوت الناجين

هل كنت تخاف أن تقتل بإحدى الغارات، هل خفت من الموت؟

الخوف كان حاضرا، لا يغيب، لكنه لم يكن خوفا من الموت فقط، بل من أن أموت منسيا، بلا أثر، بلا وداع. كنت أسمع الانفجارات وكأنها تختبر هشاشتي. في كل مرة تمر طائرة فوق رأسي، أتهيأ لاحتمال أن يكون هذا هو المشهد الأخير. لم أكن أرتجف، كنت أترقب. الخوف نفسه تآلف مع يومياتي. صرنا نعيش معا: أكتب وهو يجلس بجانبي، أتناول ما توفر من طعام وهو يراقبني، أغمض عيني وهو يهمس لي: "قد لا تستيقظ".

ورغم ذلك، لم أتوقف عن الحب، عن الكتابة، عن تربية نبتة أو قطة حول الخيمة، الموت لم يمنعني من الحياة، جعلها أكثر وعيا، أكثر امتلاء.

قرأنا لك رسائل ونصوصا منشورة من غزة وعنها. هل كنت تهدف إلى كتابة شهادة عن الوضع الذي عشته، أم أردت أن تصرخ، تستغيث ربما؟

لم أكتب لأوثق فقط، ولم أكتب لأستغيث. كتبت لأن الكتابة كانت الطريقة الوحيدة لأبقى حيا من الداخل. في لحظات العتمة، حين يتعذر الكلام ويتحجر الصوت في الحلق، تصبح الكتابة نفسا آخر. لم أرد أن أشرح للعالم ما يحدث، أردت أن أقول إننا ما زلنا هنا، نكتب، نفكر، نحب، ننتظر.

كل رسالة كانت محاولة لفهم ما لا يفهم، ومقاومة للصمت الذي أراد أن يبتلعنا. لم أبحث عن لغة تقريرية، بحثت عن جملة تمسك بالرعشة، تضعها على الورق. كنت أكتب لأنني لا أحتمل الصمت، لا أحتمل أن يمر هذا الرعب دون أثر، دون ذاكرة. الكتابة كانت صوت الناجين، وصدى الذين لم ينجوا.

لحظة اختناق

صدور كتاب لك خلال هذه الفترة، هل هو مكمل لما أردته؟

نعم، "كتاب غزة: يوميات ورسائل وقصائد" ليس مجرد إصدار، هو امتداد لصوتي حين كانت الأصوات تخنق تحت الردم. هذا الكتاب لم يكتب على طاولة مستقرة، ولم ينضج في ظروف طبيعية. كل سطر فيه هو محاولة للقبض على لحظة تتفلت، على نفس في قلب العاصفة.

الكتاب ليس شهادة، ولا توثيقا جامدا، هو بقايا صوت، ووميض ذاكرة، ورسالة حب أخيرة علقت بين الحياة والموت

لم أسع إلى عمل منظم أو مؤطر، تركت النصوص تتناثر كما عشتها: يوميات قصيرة، رسائل مشوشة، قصائد ولدت تحت القصف. أردت أن يصل القارئ إلى النص كما كنت أكتبه، بيد مرتجفة، وبقلب مليء بالأسئلة. الكتاب ليس شهادة، ولا توثيقا جامدا، هو بقايا صوت، ووميض ذاكرة، ورسالة حب أخيرة علقت بين الحياة والموت.

كيف تغلبت على انعدام وجود أوقات مستقرة وأدوات مناسبة للكتابة. في ظل القصف، وانقطاع الكهرباء مثلا. هل كنت تكتب على الهاتف؟

كنت أكتب على الهاتف، نعم، وغالبا دون شحن كاف، ودون ضوء سوى ما يصدر من الشاشة. كنت أكتب في ملاحظات الهاتف ثم أرسلها بسرعة قبل أن ينقطع الإنترنت أو ينفد شحن البطارية. الكتابة لم تنتظر الظروف. لم أنتظر الهدوء ولا مكتبا ولا كرسيا مريحا. كتبت وأنا أتحسس العتمة، وأتتبع أصوات الطائرات، وأتأكد أن أمي نائمة، وأن ماء الشرب موجود، وأن ثمة طعاما لوجبة واحدة على الأقل، إلخ. لم تكن الكتابة قرارا، كانت رد فعل وجودي، رغم كل ما يريد نفي هذا الوجود. كل نص ولد في لحظة اختناق. أحيانا كتبت على ورق مقوى، أحيانا همست للنص في رأسي طوال الليل حتى الصباح، كي لا أنساه. الكتابة لم تنتظرني، كانت تسبقني، وتدفعني لأن أركض خلفها حتى وسط الشوارع المحطمة.

شاهدنا كثيرا من الصور المؤلمة التي بثتها القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي عن أوضاع الغزيين. هل تظن أن هناك ما لم توصله هذه الوسائل الى العالم عما عشتموه، وما زال يعاش حتى الآن؟

نعم، هناك دائما ما لا تصل إليه الكاميرا، ما لا تلتقطه العدسة، ما لا يمكن ترجمته إلى صورة أو بث مباشر. فالصورة تنقل الدمار، لكنها لا تنقل ارتجافة اليد وهي تفتح بابا قد يكون خلفه موت. لا تنقل نظرة الأم التي تحاول أن تقنع طفلها أن هذا الصوت مجرد رعد. لا تنقل صوت الدعاء الداخلي حين يسقط صاروخ قريب، ولا ثقل الصمت بعده.

العودة إلى غزة بالنسبة إلي ليست مجرد عبور عبر معبر أو استعادة مكان. هي لحظة متجددة، مشهد لا يتوقف عن الظهور

ما يعاش في غزة يتجاوز البث. هو زمن مختلف، يسير بطريقة أخرى. كل ثانية فيها قابلة لأن تكون الأخيرة، وكل لحظة حياة تعاش بكامل وعيها ورعبها. بعض الآلام لا تصور، وبعض الكرامات لا تعلن. وما لم توصله هذه الوسائل هو هذا الصراع اليومي من أجل أن نظل بشرا، رغم كل ما يراد لنا أن نكونه، أرقاما، ضحايا، صورا صامتة.

عمى عالمي

أسميت نصك الأخير، الذي هو رسالة إلى مهيب البرغوثي "سفر الخروج". هل استعرت لغة "الآخر" في هذا العنوان، أم أنك ترى أنه لا يوجد "آخر" في الإرث الثقافي الإنساني، ولا حدود جغرافية أو أيديولوجية؟

عنوان "سفر الخروج" لم يكن اختياري، اقترحته المحررة، ربما وجدت فيه صوتا يشبه النفس الذي كتب به النص. صحيح أن العبارة محملة بثقل ديني وتاريخي ينسب الى ما أسميته "الآخر"، في هذا السياق جاءت استعادة مشروطة، إعادة توجيه للمعنى من مركزه القديم إلى هامش جديد ينطق بلسان الناجين من الجحيم.

لا أؤمن بـ"الآخر" كمسافة ثابتة. الإرث الثقافي الإنساني، حين نعيد قراءته من موقعنا، يتحول إلى فضاء مشاع، مفتوح على التأويل، بلا حدود تعيق اللغة، ولا أيديولوجيا تحتكر المعنى. "سفر الخروج" هنا هو هروب من المذبحة، من خيمة إلى أخرى، من موت إلى موت أبطأ. هو خروج من الصمت، من العمى العالمي، من اللغة المكسورة إلى ما يشبه الشهادة.

هل تتوقع أنك، في يوم ما، ستعود إلى غزة؟

العودة إلى غزة ليست مسألة توقع، هي مسألة أنني لم أغادرها أبدا. جسدي قد يكون هنا، في هذا المكان أو ذاك، لكن روحي ما زالت هناك، بين الحارات المدمرة، وفي عيون الناس الذين ما زالوا يقاومون الموت في كل لحظة. غزة لا تغادر، حتى لو غادرتها. لا أتوقع العودة كما يفكر الناس. العودة إلى غزة بالنسبة إلي ليست مجرد عبور عبر معبر أو استعادة مكان. هي لحظة متجددة، مشهد لا يتوقف عن الظهور في كل لحظة. أنا لم أغادرها لأعود. أنا عالق هناك، في الأزقة، في ما تبقى من ركام البيوت، في الخيمة التي كتبت على قماشها آية من القرآن. العودة ليست إلى المكان بل إلى الذات، وغزة هي ذاتي الأولى.

font change