كيف سجل معين بسيسو مأساة غزة قبل عقود؟

يوميات ترصد تاريخ القطاع مع الاحتلال

Reuters
Reuters
مشهد للمنازل والمباني المدمرة نتيجة الغارات الإسرائيلية في جباليا شمال قطاع غزة

كيف سجل معين بسيسو مأساة غزة قبل عقود؟

يعدّ الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو (1926-1984)، أحد أبرز أدباء غزة، وقد تناول بصور عدة، شعرا ونثرا، الوقائع التي خاضها القطاع في مواجهاته مع الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي، ومن بين أبرز أعماله كتاب "يوميات غزة" الذي نشر للمرة الأولى عام 1971 في مصر، ويسرد فيه محطات بارزة من معاناة القطاع انطلاقا من معايشته الشخصية لها.

في هذه اليوميات يسرد بسيسو قصاصات لاهبة للمدينة المأسوية، موسومة بتوصيفين موازيين للعنوان المركزي، أولهما: "في المعركة"، وثانيهما: "مقاومة دائمة"، بتقديم من الشاعر سميح القاسم (1939-2014)، يفصح فيه عن طبيعة الصداقة المتوترة والنبيلة في واحد، في ما بينهما من جهة، ومن جهة ثانية يحاول إنصاف علامة بسيسو الغائرة والفارقة في آن، إنسانيا وشعريا، في ازدواجية عاتية تجمع بين التزامه الوطني وسيرته الشعرية، ولعل لقب "المارد" المستند إلى عنوان أحد دواوينه الصاخبة "مارد من سنابل"، يوجز هذين الجانبين في مسيرته.

يفتتح معين بسيسو يومياته بقصيدة عن طائر تهوي به عاصفة، فاصلة إياه عن السرب الذي أسعفه بأن ينهض بمشقة، لأن في صعوده صعود الوطن على نحو رمزي.

علبة كبريت اسمها غزة

المدخل إلى غزة في اليوميات هي رفح، ثم خان يونس التي تغيّرت جذريا عن ماضيها كمحطة لقوافل التجار، وأمست متراسا للتصدي في أيام العدوان الأولى، منتصبة بجسارة ضد الغارات الثلاث للاحتلال الإسرائيلي.

يواصل معين بسيسو تدوين معايناته لتحولات المدينة في ظل الغزو الإسرائيلي الكاسح، إذ تستبدل الأمكنة أسماءها العتيقة بأسماء معسكرات اللجوء الطارئة

بين الحاضر الممتنع على الغزو الإسرائيلي، وماضيها الذي استباحه نابوليون بمشقة في تاريخ المتوسط، في طريقه إلى عكا، التي سينحسر فيها مهزوما، يليه جشع بريطاني آخر في محاولة فاشلة لإخضاع المدينة، وقوفا عند لحظة الثورة الكبرى 1936، حتى تخوم الانتداب البريطاني، مع تشييد السكة الحديد بين غزة وأشدود، وأما أحد معالمها العتيدة فالشارع الرئيس الذي يشق المدينة نصفين، والمعروف باسم شارع عمر المختار.

كتاب "يوميات غزة"

بهذه النبذة التاريخية يستهل معين بسيسو خطابه عن روح المدينة وجرحها في آن.

يواصل معين بسيسو تدوين معايناته لتحولات المدينة في ظل الغزو الإسرائيلي الكاسح، إذ تستبدل الأمكنة أسماءها العتيقة بأسماء معسكرات اللجوء الطارئة، مع زحف الرماد الهائل، المنفطر من أقدام طوابير التهجير العرقي، إذ يستشري زمن بطاقة اللاجئ، بدل زمن فلسطين البكر، وفي إثر هذا الانشطار يؤرخ الشاعر لمأساة المهاجر الفلسطيني وفق توصيفه التراجيدي.

معين بسيسو

لا ينفك معين بسيسو يعود إلى تاريخ الشرخ الفلسطيني، 1948، وهو يصل الحاضر بماضيه، كيما ينفض الغبار عن صورة الهندي الأحمر الفلسطيني في معسكرات اعتقاله الجديدة في قطاع غزة، التي تشرف عليها وكالة الغوث، معسكرات اللاجئين المستفحلة طوابير إنسانية أشبه بمعسكرات الإبادة النازية، إذ يتحول ضحايا الأفران النازية في الأمس القريب، إلى جلادين جدد يستبيحون أطفال غزة ونساءها، المنذورين لفداحة التقتيل الأعمى بلا هوادة.

سيرة الأنقاض

هي سيرة الطوابير والأنقاض وخبز السفن المحمول عبر ميناء بيروت، هدية من شعب الولايات المتحدة الأميركية، ومعها صناديق محمولة بالقنابل إلى ميناء تل أبيب. كيف يستبدل الفلسطيني أرضه ببطاقة زرقاء؟ أن يستبدل كوخا صفيحيا في العراء بأرضه الأصلية؟

AFP
قائد قوة الطوارئ الأممية إ.ل.م. بيرنز، ورئيس الأركان الإسرائيلي موشيه ديان، وقائد الأمم المتحدة في غزة، العقيد والتر لوندكويست، بعد مؤتمر في عسقلان، 13 يونيو 1957

محض سيرك كبير، كرنفال دموي عميم، هكذا أرادوا له أن يكون كابوسا ثقيلا طويلا، تحت إشراف رجال "الكويكرز"، وكي يصرفوا المدرسين عن تعليم الأطفال في معسكرات العراء هذه، قوّضوا رواتبهم إلى مقايضات كليوغرامات من البصل والسمك المقدد، وبعض المعلبات. المدرسون، هذه الكتيبة المقاتلة فكريا بأصابع الطباشير المسجلة فوق الألواح السوداء المنتزعة من الصناديق، يوثقون انتصارهم على الأفران النازية الجديدة.

تلك هي صورة مقاومة الموت في رفح والمغازي والنصيرات والرمال وجباليا، وهذا هو نفسه الوضع اليوم، بل أفدح، مضاعفا لما بدأه الاحتلال وفق اليوميات في قطاع غزة منذ 29 أغسطس/ آب عام 1953، الغارة الأولى على معسكرات اللاجئين في البريج، التي تحولت إلى أشلاء.

تلك هي صورة مقاومة الموت في رفح والمغازي والنصيرات والرمال وجباليا، وهذا هو نفسه الوضع اليوم، بل أفدح، مضاعفا لما بدأه الاحتلال منذ عام 1953

في طليعة الشرائح الاجتماعية، الفلاح الذي تحولت راحة كفه إلى حقل بعد أن سلبت منه الأرض، يبسطها للمطر عساها تنبت سنابل، كل لاجئ ما عاد يمتلك سوى راحة كفه، فيما أطفاله يسألونه في البريج والنصيرات عن أصبع موز، وأتعس الفلاحين مواطنو غزة في الشجاعية وحارة الزيتون وقرية خزاعة في مواجهة الأسلاك الشائكة التي تحول بينهم وبين بيوتهم وأراضيهم، قبل عنصرية الجدار الفاصل، ومع فرط الحنين إلى حفنة سنابل وراء الأسلاك الشائكة يكون ثمن التسلل هو رصاص القناصين.

AFP
فلسطينيون يغتسلون ويغسلون أدوات الطبخ بمياه البحر في دير البلح، بسبب انقطاع المياه العذبة والكهرباء، 29 أكتوبر 2023

كذلك صورة بحر غزة، لا تختلف عن تراجيديا البر، بحر مفخخ بالبوارج على بعد ثلاثة كيلوميترات من الميناء، وبذا مصائر الصيادين أن يكفنوا بشبكاتهم وتلقى الجثث إلى الشاطئ كيفما اتفق.

نسر دوستويفسكي

ما أشبه اللاجئ الفلسطيني بنسر دوستويفسكي في كتابه "يوميات بيت الموتى"، بحسب معين بسيسو، إذ غزة وقفت بجناح النسر المكسور لتواجه عدوان 1956.

إسرائيل الشهيرة بتصدير الماس الخام المستورد بعد صقله، لم تستطع أن تصهر قلب غزة بعدما سطت عليه في راحة كفها بحسب تخييل اليوميات، فقد ظل منيعا، ومن العبث أن يقنع سقراط موشي دايان بأن من سبقه من الطغاة الذين فقدوا ذاكرتهم، يجهلون أن لحم الإنسان الذي يقاتل دفاعا عن وجوده أصلب من حديد جنازير الدبابة، وهذا حال من خلفوه من مجرمي حروب الإبادة من أرييل شارون حتى بنيامين نتنياهو.

دوستويفسكي في كتابه يوميات بيت الموتى

يقف معين بسيسو عند نصب تذكار الجندي المجهول في ساحة غزة، متخيلا الحياة وقد دبت في شرايينه، ليعيد طفرة النصر خلف الأسلاك الشائكة مثخنة الجراح، لكن واقع الحال غير ذلك، فهو الآخر لم يسلم من تخريب الاحتلال، فأعدمته تفجيرا بالقنابل.

وكأن محو غزة وشعبها يبدأ من محو رمزها الذي يتمثله نصب تذكار، والمفارقة أن يأمر الجنرال الإسرائيلي بتفتيش البيوت المجاورة بحثا عمن وضع الورود على قاعدة التمثال التي آلت إلى أشلاء، أكثر من ذلك، أن يفتشوا عمن أخذوا أشلاء التمثال بعد تدميره.

معين بسيسو

وكما هي غزة مدينة الحرائق والنار، هي مدينة الأمطار، ولذا تمطر سماؤها في يوميات معين بسيسو، خاصة في اليوم التالي لكل عملية تهجير بشعة، وكأن البروق والرعود هي رد فعل الطبيعة ضد حمام الدم الجماعي، حتى تغسل المدينة وتنبعث كعنقاء من رمادها:

"لقد كانت غزة تعرف وحدها الثمن الذي دفعته... ذلك الثمن الذي لا يستطيع أحد أن يعوضها عن فقده، حتى حينما كانت فؤوس بعض رجالها تضرب برفق على مسافة كيلومترات من محطة غزة ولم يكن ذلك البعض من رجال غزة ينقبون في ذلك اليوم عن كنز مدفون... أو عن آثار... كانوا ينقبون عن كنز جديد... هو أبناؤهم الذين دفنهم الاحتلال وهم أحياء" (ص59)

رابط معين بسيسو في جبهة فك الحصار بيومياته الحمراء، وأفصح بلسانها من الداخل عن جحيم الاحتلال المستعر يوما تلو يوم

على هذا النحو سلب الاحتلال كل شيء في غزة إلا روحها.

التجويع، وقصف اللاجئين، يتفاقمان، فيما يهتف العامل الفلسطيني المهجر في المنافي: لتنسني يميني إن نسيتك يا غزة، الى درجة تحوّل عرق العامل في المنفى إلى زجاج، وأحجار، وألواح أمام المحاصِر الذي بات يطوق القطاع برا وبحرا.

AFP
بائع يعرض صوراً مؤطرة لياسر عرفات في سوق غزة، 19 سبتمبر 1993، عقب اتفاق منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل

شمشون ودليلة

يستحضر معين بسيسو في يومياته حكاية شمشون ودليلة، التي تحفل بها أسفار التوراة، ويراها جديرة بأن يقف عندها المؤرخون، كما هي مسجلة في سفر القضاة، إذ بشرت الملائكة والديه بأن سيكون له شأن كبير وسيمده الله بقوة تخليص اليهود من الاضطهاد الذي يتعرضون له على أيدي الفلسطينيين في غزة، وبذا اهتموا بأسطورة شمشون ووضعوها في صلب الاستهداف الصهيوني لفلسطين.

هذه بطولة الإسرائيلي الشمشونية الضالعة في تقتيل شعب أعزل، وفق تاريخ فولكلوري ملفق، ولكن غزة الجديدة وارثة تقاليد غزة القديمة، تعرف بأصالتها كيف ترسل دليلة من بناتها إلى الثكنات لتجزّ شعر الوحش، سر قوته، وهو الحديد، بينما سر غزة هو المقاومة.

AFP
نساء فلسطينيات يمررن قرب إطارات مشتعلة في مخيم جباليا للاجئين، 13 ديسمبر 1993، خلال مواجهات مع الجيش الإسرائيلي

علامة الطباشير البيضاء لم تسلم هي الأخرى من الحملة الهمجية للاحتلال، لأنها رمز المعلم وأجيال المدراس التي يجب جردها من سلاح المعرفة، ومن فرط حرب التجويع تغدو غزة كطائر البجع الذي يغرس منقاره في صدره، ويطعم فراخه من أحشائه.

رابط معين بسيسو في جبهة فك الحصار بيومياته الحمراء، وأفصح بلسانها من الداخل عن جحيم الاحتلال المستعر يوما تلو يوم، وعن حصن المدينة المنيع السامق، رغم فرط الحرائق، وما تعيشه غزة اليوم من فداحة التهجير والتقتيل ليس وليد اللحظة، بل غائر في تاريخ أزلي من المحو والتدمير عن بكرة جرائم الحروب المتفاقمة.

font change