ذكرى الإبادة في رواندا... تتغيّر الأدوات لكن الأسس "الأخلاقية" واحدة

عقيدة "اللا إنسان" التي تبيح ارتكاب المجازر دون تمييز

Jeremiah Kamau/Reuters
Jeremiah Kamau/Reuters
لاجئون روانديون يعبرون إلى تنزانيا هربا من المعارك، 30 مايو 1994

ذكرى الإبادة في رواندا... تتغيّر الأدوات لكن الأسس "الأخلاقية" واحدة

تصادف اليوم ذكرى "اليوم الدولي للتفكر في الإبادة في رواندا 1994" الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2004، بعد مرور عشر سنوات على واحدة من أفظع جرائم الإبادة التي شهدها العالم المعاصر، والمفارقة الصادمة أن الخطاب نفسه الذي برر إبادة الروانديين في ذلك الوقت نجده اليوم يتكرر مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

يتحدث الباحث الأيرلندي يوجين ماكنامي في مقالته "كتابة الإبادة الرواندية: العدالة وسياسات مشاهدة الحدث بعد وقوعه" (مجلة "قانون ونقد"، 2007)، أنه في ربيع وصيف عام 1994، نفذت سلسلة من المجازر في جمهورية رواندا، ورغم أن القتل كان بدائيا –باستخدام المناجل بشكل رئيس – إلا أنه تم بسرعة مذهلة، فمن أصل عدد سكان رواندا الذي يبلغ نحو سبعة ملايين ونصف المليون نسمة، قتل ما لا يقل عن ثمانمائة ألف شخص في مائة يوم فقط. وغالبا ما يتحدث الروانديون عن مليون وفاة، وقد يكونون على صواب. فقد كانت أكثر آلة قتل جماعي فعالية منذ القصف النووي الأميركي لهيروشيما وناغازاكي. هذا العدد الكبير من القتلى يذهب بنا نحو الاعتبارات التي يصيغها المجرمون أثناء قتل ضحاياهم، كيف يطلقون عليهم الصفات التي تجردهم من إنسانيتهم، وتخرجهم من التصنيف الآدمي، وتصفهم بأنهم "حيوانات" و"حشرات" و"برابرة" و"وحوش".

يناقش أستاذ القانون الكندي بايام خاكان في مقالته "منع الإبادة: قياس النجاح من خلال ما لم يحدث" ("منتدى القانون الجنائي"، 2011)، الآليات التي كان يمكن من خلالها تفادي وقوع الإبادة الجماعية في رواندا، ومن أهم هذه الآليات التشويش على محطات الإذاعة التي كانت تحرض على العنف في رواندا، وأهمية التحذير المبكر والتفاعل السريع، ففي بلد ريفي يعاني من الأمية بنسبة 70% مع محدودية مصادر المعلومات، لعبت إذاعة RTLM التي باتت تعرف باسم "إذاعة الإبادة" دورا حاسما في تأجيج الكراهية، وتحريك الجماهير، وتنظيم الإبادة الجماعية، وقد أكد الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضية باياراجويزا، أن الراديو كان الوسيلة الأوسع انتشارا في رواندا، حيث استغلت RTLM تاريخ الامتيازات التي يتمتع بها التوتسي ومعاناة الهوتو، وكذلك مخاوف التمرد المسلح، لتحريض السكان على كراهية وعنف موجهين بشكل كبير ضد التوتسي. ولم تكتفِ هذه الإذاعة ببث دعاية الكراهية، بل نشرت أسماء الأفراد المستهدفين بالقتل، مما جعلها أداة رئيسة في تنظيم الإبادة الجماعية وتنفيذها.

هذا العدد الكبير من القتلى يذهب بنا نحو الاعتبارات التي يصيغها المجرمون أثناء قتل ضحاياهم، كيف يطلقون عليهم الصفات التي تجردهم من إنسانيتهم، وتخرجهم من التصنيف الآدمي

وعبر بث يطلق شعارات "اقتلوهم أينما وجدتموهم"، "إنهم حشرات يجب أن تُقتل"، "قتلهم واجب وطني"، لعبت محطة RTLM دورا مهما في وصم الضحايا بـ"الجراد" و"الصراصير"، وبالتالي فإن قتلهم لن يصيب الضمير البشري بأي تأنيب لأنهم خارج فكرة الآدمية، فالقتلة يجب أن يمارسوا القتل بأريحية شديدة، بل يجب أن يمارسوا ذلك بفرح، لأنهم يقومون بواجب إنساني في التخلص من اللا إنسانيين. هذا الوصف للروانديين يشبه تماما ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بالقول: "نحن نحارب حيوانات بشرية"، وهو يشبه تماما الوصف الذي أطلقه المستعمرون في أميركا الشمالية على السكان الأصليين، بأنهم البيئة التي تولد القمل، ووصف التوتسي بأنهم صراصير وجراد،  وهو ما ينتج خطابا يدعو إلى الإبادة، ويبرر القتل دون تأنيب ضمير.

مكتب بث إذاعة RTLM خلال إبادة 1994 في رواندا

هذه الديناميكية يفسرها هربرت سي. كيلمان (1973)، حيث يرى أن الإبادة الجماعية لا تنشأ بالضرورة عن غياب الأخلاق لدى مرتكبيها، بل عن فرضهم منظومة "أخلاقية" قيمية تقصي الضحايا من دائرة الإنسانية. فكيف يُنتَج خطاب الإبادة عبر أنساق قيمية تعيد تشكيل الضحايا ضمن منطق "الحيونة"، بما يبرر استئصالهم؟

من هو "اللا إنسان"؟

أفاد مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، بأن 70% من الضحايا الذين تم التحقق من وفاتهم في غزة هم نساء وأطفال،  وهذا ما يضع هؤلاء الأطفال والنساء في صلب عملية الإبادة الإسرائيلية، لقد قال غالانت بأننا "نحارب حيوانات بشرية"، ومن هنا نفهم أن الأطفال والنساء كانوا ضمن آلة الحرب كأهداف رئيسة لا جانبية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وثق ناشطون تغريدة لبنيامين نتنياهو قبل أن يحذفها سريعا، يهاجم فيها أطـفال غزة، قائلا: "هذا صراع بين أطفال النور وأطفال الظلام... بين الإنسانية وشريعة الغاب".

 Abir Sultan/AFP
نتنياهو وغالانت في مؤتمر صحافي، 28 أكتوبر 2023

يأتي هذا التجريد الخطابي في سياق تاريخي أوسع، إذ لم تفكك الدوائر الأكاديمية بالقدر الكافي شيطنة الضحية قبيل قتله، ولم يأخذ القانون الدولي هذه التوصيفات في سياق تنظيم الإبادة وتنفيذها. ومع ذلك، فإن آليات القتل بين رواندا وفلسطين امتازت بالتشابه في خطاب إبادتهم، ففي رواندا، اتخذت المجازر طابعا "بدائيا" عبر استخدام السكاكين والبلطات، بينما في فلسطين، تنفذ عمليات القتل بأسلحة التكنولوجيا الحديثة، مثل الطائرات المسيرة (الكواد كابتر) والمروحيات الهجومية (الأباتشي). ورغم اختلاف الأدوات، فإن النمط الخطابي ذاته يعاد إنتاجه، إذ يُنظر إلى الضحايا على أنهم "حيوانات"، في صياغة لخطاب دعائي يشرعن قتل هؤلاء الناس.

هذا الوصف للروانديين يشبه تماما ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بالقول: "نحن نحارب حيوانات بشرية"

لم يقتصر هذا الخطاب على التوصيف اللفظي، بل ترجم إلى سياسات وخطط عمل. فمنذ بدء الحرب على قطاع غزة، ارتكبت إسرائيل مئات المجازر، استهدفت خلالها عائلات فلسطينية بأكملها عبر قصف مكثف للمباني السكنية، التي كانت تضم النساء والأطفال في المقام الأول. يستند هذا الاستهداف إلى تصورات الفلسطينيين عن المنزل كمساحة آمنة، حيث تتجمع العائلات في أوقات الحرب، فيما يمكث الرجال في المساحات العامة والشوارع، وأثناء ذلك، تركز القصف على المباني السكنية بشكل أساس، مما نتج منه وقوع النسبة الكبرى من الضحايا من النساء والأطفال.

 Omar Al-Qattaa /AFP
فلسطينيون وسط الدمار بعد قصف في جباليا، 10 نوفمبر 2024

تصف صابرين، وهي نازحة من غزة إلى الجنوب، لـ"المجلة" بعضا مما عاشته خلال الحرب: "في بداية الحرب، فقدت أخي وزوجته وأطفالهما، استشهدوا وهم في طريقهم إلى المنزل لجمع بعض الأغراض. خرجنا على عجل، فذهب أخي من طريق وزوجته من طريق آخر، لكن الطريق تحول إلى حزام ناري، واستشهدوا جميعا. كان النزوح قاسيا، خاصة عندما طُلب منا الانتقال جنوبا، كانت الدبابات قريبة جدا. لو تأخرنا للحظة، لكانت وصلت إلينا. ركضنا بجنون وسط الفوضى، وبينما كنا نحاول عبور الطريق بين غزة والجنوب، كنت مرعوبة. مررنا بظروف صعبة، لكننا لم نعرف حربا بهذا الشكل. وعندما عدنا إلى منزلنا، وجدناه مدمرا بالكامل. لم يعد هناك مأوى، حتى منازل أخوتي دُمرت تماما. نحن من الشاطئ الشمالي في غزة، وكان منزلنا قبالة البحر، حيث كانت الزوارق الحربية ترابط قبالتنا. خرجنا من دون وعي، ظنناها أياما وسنعود، لكن مرت سنة ولم نعد.".

Ulli Michel/Reuters
امرأة رواندية تنهار وطفلها على ظهرها قرب مخيم كيبومبا، 28 يوليو 1994

قتل النساء والأطفال في المجزرة ليس مجرد فعل عشوائي، بل هو استهداف ممنهج لهم كجزء من آلة الحرب التي وصمت من تحاربهم بـ"الحيوانات البشرية". وهذا يطرح تساؤلا مهما: لماذا تستهدف آلة القتل الإسرائيلية النساء والأطفال تحديدا، في الوقت الذي تدّعي فيه أنها تحارب "حيوانات بشرية"؟

في رواندا، اتخذت المجازر طابعا "بدائيا" عبر استخدام السكاكين والبلطات، بينما في فلسطين، تنفذ عمليات القتل بأسلحة التكنولوجيا الحديثة

يكتسب استهداف النساء بعدا أعمق في سياق الحروب، حيث لا يُنظر إليهن كأفراد فقط، بل كمصدر لاستمرارية الحياة والمقاومة. فقتل امرأة فلسطينية واحدة لا يعني فقط إنهاء حياتها، بل يعني أيضا القضاء على إمكان إنجابها لأربعة أو خمسة أطفال، كما أن قتل الأطفال الفلسطينين يعني التخلص من "الثعابين الصغيرة" كما تصفهم وزيرة الداخلية الإسرائيلية السابقة إيليت شاكيد. قتل الأطفال الذين بلغ عددهم في سياق الحرب الحالية 15.000 ألف طفل، كان ذاته في سياق رواندا، ومع أن الإبادة كانت تميل إلى القضاء على الأشخاص البالغين، إلا أن قتل الأطفال كان ضمن نطاق الإبادة بهدف القضاء على نسل العدو.

Pascal Guyot/AFP
لاجئة رواندية بين جثث مئات اللاجئين في حدود زائير، 17 يوليو 1994

القتل عبر التحكم بالماء والطعام

برز التحكم بالغذاء والمياه كأحد أهم آليات القتل "غير الدموي"، والذي تبنى الحرمان من اليوم الأول للحرب، ففي 9 أكتوبر/تشرين الاول 2023 قال غالانت: "لقد أعطيت أمرا: غزة ستكون تحت حصار تام لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق". وأردف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق قائلا: "نحن نحارب الهمجيين [الإرهابيين] وسوف نرد وفقا لذلك". وفي هذا السياق فإن غالانت يضيف اعتبارا "أخلاقيا" آخر لوصف الفلسطينيين، وهو الهمجية، وبهذا المعنى، فإن هؤلاء "الهمجيين" لا يستحقون الطعام ولا الشراب ولا الوقود ولا الكهرباء، وفي هذا التصريح خرج غالانت من سياق استخدامه جملة "نحن نحارب حيوانات بشرية" إلى استخدام مفهوم "الهمجية"، التي تشير إلى عموم الناس دون سياق يأخذ معناه من الحرب، بل يأخذ معناه من الحصار الذي يحدث أثناء الحرب وخارج نطاق الحرب، ويستهدف عامة الناس به، وهذا الاستهداف يكون ضحيته في الأساس الناس العاديون من النساء والرجال والأطفال، كل هؤلاء لا يستحقون مقومات الحياة، بادعاء أنهم "همجيون"، وهو المفهوم "الأخلاقي" الذي يصوغه أيضا مرتكبو الإبادة تجاه ضحاياهم لتسويغ قتلهم دون أن يكون هناك أدنى شعور بالمسؤولية تجاه إنسانية أولئك القتلى.

يبقى الحرمان من مقومات الحياة مختلفا عن القتل بالمجزرة لكنه يؤدي إلى النتيجة ذاتها، القضاء على البشر بادعاء أنهم "همجيون" و"حيوانات" و"صراصير"  

أدى هذا النوع من القتل "غير الدموي" بادعاء "الهمجية"، إلى وفاة الكثير من الأطفال الفلسطينيين بسبب المجاعة وسوء التغذية والبرد الشديد. وفي العادة، فإن مثل هذه الظروف التي تؤدي إلى الموت غير المباشر بفعل حدوث كارثة طبيعية وتحاول الدول التدخل للمساعدة، إلا أن خلق هذه الظروف التي تؤدي إلى الموت غير المباشر، أصبح من أهم تقنيات تنظيم الإبادة في فلسطين، التي يذهب ضحيتها الأطفال بشكل أساس، فيما تحاول النساء النجاة من هذه الأوضاع بتدبير أي شيء للأطفال للأكل والتدفئة والشرب، وهنا ظهرت الطوابير في غزة، فمن أجل النجاة من هذه الظروف وقف الأطفال والنساء والرجال في طوابير طويلة للحصول على الطعام، بحيث لم يعد يتخيل الطفل والمرأة والرجل في غزة الحصول على هذه الأشياء دون الوقوف ضمن طابور، الذي يعني الانتظار الطويل، وأثناء ذلك، ليس فقط ما يغدو مهما في هذه الحالة، حجز دور في الطابور لأخذ وجبة من الطعام أو الحصول على غالون من المياه، لكن ما يغدو مهما هو عدم نفاد الطعام قبل وصول الدور الى الشخص المنتظر منذ ساعات طويلة.

 Omar Al-Qattaa /AFP
أطفال مصابون يتلقون العلاج بعد قصف مدرسة بغزة، 3 أبريل 2025

يبقى الحرمان من مقومات الحياة مختلفا عن القتل بالمجزرة ولكنه يؤدي إلى النتيجة ذاتها، القضاء على البشر بادعاء أنهم "همجيون" و"حيوانات" و"صراصير"  خارج المستوى الآدمي، وفق الاعتبارات "الأخلاقية" التي يصوغها منفذو الإبادة، أي أنهم خارج المستوى الإنساني، بل إنهم يمثلون "اللا إنسان" الذي يجب القضاء عليه.

font change