فلسطينيون خرجوا من غزة ويحلمون بالعودة إليها

صدمات نفسية وحنين جارف

dpa
dpa
نازحون فلسطينيون بالقرب من الحدود بين غزة ومصر، 14 يناير 2024.

فلسطينيون خرجوا من غزة ويحلمون بالعودة إليها

غزة: خلال حرب غزة الحالية، أسّس التهجير الجماعي الإجباري للسكان، من شمال غزة إلى جنوبها، شكلا جديدا من التشتت والتغريب، ووضعيات مختلفة من المعاناة، خلقت مشاعر من التشظي والقلق الوجودي والخوف من الحاضر والمستقبل.

وقد توهم كثير من الفلسطينيين، عند اندلاع الحرب، أن البقاء في منازلهم قد يجنّبهم ويلات الحرب، ليأمرهم الاحتلال بالنزوح نحو جنوب القطاع، مستخدما القصف العشوائي الثقيل، والتدمير الهائل للأحياء السكنية، لطردهم قسرا من بيوتهم، وليتضح منذ البداية أن حياة الفلسطينيين ليست موضوعة على الأجندة الإسرائيلية، في شمال القطاع وجنوبه.

وفي العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أعلنت السلطات المصرية إغلاق معبر رفح، أمام حركة المسافرين من غزة إلى مصر والعكس، وهو ما زاد من اختناق الأوضاع في القطاع. ثم عادت مصر لفتح معبر رفح في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني فقط أمام حركة الأجانب ومزدوجي الجنسية من القطاع إلى أراضيها.

الأزمات التي يعيشها كثر ممن غادروا غزة ووصلوا إلى برّ الأمان، لم تتوقف بخروجهم، إذ وقعوا فريسة مشاعر القلق المضاعف على أهلهم وأصدقائهم

القليل من سكان غزة تمكن من السفر عبر معبر رفح خلال الحرب الطاحنة، بفعل امتلاكهم، أو امتلاك أحد ذويهم، جنسية أجنبية، وهناك عدد قليل جدا تمكن من دفع أموال طائلة للعبور إلى الجانب المصري. وقد بلغ عدد المسافرين من غزة باتجاه مصر والبلاد الأخرى، مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول، ما يقارب عشرة آلاف شخص.

أزمات جديدة

لكن الأزمات التي يعيشها كثر ممن غادروا غزة ووصلوا إلى برّ الأمان، لم تتوقف بخروجهم، فهم نجوا من الموت، إلا أنهم وقعوا فريسة مشاعر القلق المضاعف على أهلهم وأصدقائهم داخل غزة، أو بقائهم معلّقين في مصر، دون أي أفق لتحديد مصيرهم، في ظل استمرار الحرب.

AP
فلسطينيون يفرون من الهجوم البري الإسرائيلي في وسط قطاع غزة، متجهين جنوبا نحو دير البلح، الجمعة 5 يناير 2024.

الفلسطينية أماني السقا (38 عاما) غادرت إلى مصر تحت القصف، من مكان نزوحها في محافظة رفح، ضمن كشوفات مزدوجي الجنسية، لكنها تعيش حاليا تجربة نفسية قاسية، بسبب خروجها مجبرة من وطنها، وافتقادها نمط الحياة اليومي مع الأصدقاء والأهل هناك. تقول السقا لـ "المجلة": "على الرغم من نجاتي وتخلّصي من هاجس الموت، إلا أن أصوات الحرب تطاردني في كل مكان، حتى في نومي، تداهمني الكوابيس المرعبة، بسبب قسوة ما تعرضت له داخل غزة".

تتابع: "لقد مسح الاحتلال كل الأشياء التي نحبها، وحوّل منازلنا والأماكن العزيزة على قلوبنا إلى ركام، فكان حلنا الوحيد الفرار من غزة".

هناك صوت في داخلي لا يني يسألني لماذا أنا هنا؟ لماذا لست في غزة؟

مقارنات

وتعيش السقا خلال تواجدها في مصر، صراع المقارنات، بين ما اعتادت عليه في مسقط رأسها، وما وجدت نفسها مجبرة على معايشته في الخارج، وهو ما يشعرها بأسى كبير، إذ تقول: "أشعر أنني غريبة عن كل ما حولي، فهناك صوت في داخلي لا يني يسألني لماذا أنا هنا؟ لماذا لست في غزة؟".

تكمل: "أواجه قهرا كبيرا، وإحساسا بالظلم، بعدما أجبرني الاحتلال على ترك منزلي وذكرياتي، ويوميات الصحبة مع أهل غزة والأماكن التي أشعر بالألفة معها... هذا القهر يجدّد شعوري بالاختناق كل لحظة. وكل ما أريده العودة إلى أرضي ومكاني، فنحن هنا غرباء مهما أحاطنا الناس بالرعاية، والضحكة صارت غير ممكنة، فلا شيء هنا يشعرني بالسعادة".

EPA
سكان مخيم النصيرات والبريج للاجئيين الذين أخلوا مدينة غزة، بعد إطلاق العمليات العسكرية الإسرائيلية.

تتابع: "كانت لديّ فرصة الذهاب إلى أميركا، التي أحمل جنسيتها، لكني فضلت البقاء في مصر، بهدف العودة إلى غزة... أعرف أن الاحتلال حوّل الحياة في غزة إلى حياة بدائية، وهدم معظم المباني داخلها، وجعلها غير قابلة للسكن، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية، لكنني مصمّمة على العودة عند أول فرصة سانحة".

حياة معقّدة

ومثلما تبدو مغادرة الفلسطينيين لغزة معقدة، فإن من تمكنوا من ذلك، تظلّ ظروف حياتهم شائكة، خاصة أن عليهم قضاء وقت غير معلوم دون عمل، ويعيشون دون أفق واضح بالعودة، ما دامت الحرب مستمرة، ناهيك عن أن معبر رفح مغلق بوجه عودة الفلسطينيين العالقين بمصر إلى غزة.

AFP
فلسطينيون يركبون مركبة، خلال فرارهم من الغارات الإسرائيلية على رفح جنوب قطاع غزة، 1 ديسمبر 2023.

الفلسطيني محمد الكفارنة (41 عاما) خرج من غزة إلى مصر هاربا من القصف والصواريخ وأعمال الإبادة العرقية. وهو يبدي حسرته جراء تجربة الحرب والتهجير: "يعز عليّ أن أغادر البلاد التي نشأت فيها، وترعرعت محبا بساطة ناسها، فغزة وعلى الرغم من الحصار الممتدّ منذ عقدين، ومن الوضع الأمني المقلق بشكل مستمر، إلا أنها من أجمل الأماكن للعيش في العالم".

العودة لن تكون سهلة، بعد هدم بيتنا، ومتجر زوجي، لكن الخيمة في غزة أجمل من أي بيت في العالم

دون عمل

وبعد تدمير الاحتلال محال غزة التجارية، والبنية التحتية للقطاع، فقد معظم تجار غزة وعمالها مصادر رزقهم وأملاكهم، دون بارقة أمل بتعويضهم عما فقدوه.

 يقول الكفارنة: "إن الشعور بالذهاب إلى المجهول أمر صعب، فأنا معلق في القاهرة، بلا عمل أو أفق واضح، خاصة وأنني فقدت متجري خلال قصف الاحتلال لغزة، وما يزيد صعوبة الحياة الحالية، أنني خرجت ضمن كشوفات التنسيق الأميركية للسفر عبر معبر رفح، في حين خرجت زوجتي وأطفالي ضمن كشوفات التنسيق التركية، وهو ما يعني أنني لا أستطيع الذهاب إليهم، وها أنا أواجه محنة قاسية وحدي، بينما تواجه زوجتي مشقة العناية بطفلين لم يتجاوز أكبرهما الثالثة من العمر، دون أي أفق قريب للحل".

البيت والذكريات

أما زوجته آية الحلاق (35 عاما)، فتشير إلى أنها خرجت من غزة  إلى تركيا تحت خطر الموت، وتنقلت ثلاث مرات نازحة، هاربة وعائلتها من وحشية الاحتلال تجاه المدنيين، معربة عن حنينها الجارف إلى مدينتها وأهلها: "حياتنا في غزة غاية في البساطة والتلقائية، وصحيح أن أهل غزة يعانون من البطالة والوضع الاقتصادي والاجتماعي السيء لسنوات طويلة، وأن حياتهم تتسم بالقلق، إلا أننا نحب الحياة، نضحك ساخرين من كل شيء، ونتعاضد بعضنا مع بعض، ونكوّن صداقات جميلة، فالعلاقات في غزة ترتبط بحالة جميلة من الألفة التي يصعب تكرارها".

تكمل آية: "كل ما أفكر به الآن: متى ستنتهي الحرب؟ ومتى سنعود لغزة، ويلتم شملنا أنا وزوجي وأطفالي، على الرغم من معرفتنا بأن العودة لن تكون سهلة، بعد هدم بيتنا، ومتجر زوجي، لكن الخيمة في غزة أجمل من أي بيت في العالم".

dpa
امرأة فلسطينية مع أطفالها في حي الشيخ رضيوان المدمر في غزة، بعد مئة يوم من حرب غزة، 15 يناير 2024.

نصف موت

أما مايا السنداوي (24 عاما)، وهي فلسطينية تحمل الجنسية الأوكرانية، وقد عاشت آخر عشر سنين في غزة، فتخبرنا بأنها غادرت غزة مرغمة بسبب الحرب، فانتقلت بصحبة أمها إلى روسيا بهدف النجاة بحياتها وحياة أمها، بعد اشتداد القصف في منطقة تل الهوى بمدينة غزة.

تفيدنا مايا: "لقد تنقلت قبل المجيء لغزة عبر خمس دول، لكني في غزة، عرفت قيمة أن يكون للإنسان مجتمع يندمج فيه، فهنا الجميع يعرف الجميع، والجميع صاحب للجميع، والناس هنا سلسون جدا في التعامل، وعفويون إلى الحد الذي جعلني احبهم وأتعلّق بالعيش معهم".

وتؤكد السنداوي أنها تحلم بالعودة إلى غزة في أقرب فرصة، حال تحسنت الظروف الأمنية وانتهت الحرب. حيث أنها تعيش ظروفا نفسية صعبة. وتخبرنا أيضا بأنها منزعجة بسبب رفض السفارة الأوكرانية في مصر خروج والدها من غزة، دون سبب واضح، وتشير إلى أنها قلقة جدا على حياته في ظلّ مواصلة الاحتلال التنكيل بالمدنيين الأبرياء.

AP
فلسطينيون يفرون عبر شاحنة، من الهجوم البري الإسرائيلي في وسط قطاع غزة، متجهين جنوبا، الجمعة 5 يناير 2024.

أصوات الحرب

وتقول مايا إنها لم تتخلص بعد من آثار الصدمة العصبية التي عاشتها بسبب الحرب: "لا تفارقني أصوات القذائف والصواريخ ومشاهدها المرعبة، وعلى الرغم من أنني صرت في أمان لكنني دائما قلقة ومتوترة وتنتابني مشاعر غضب دائمة، حيث أنني أمشي في الشوارع وأتشكك في سبب وجودي في هذه البلاد التي لا تشبه غزة، وأبقى أتفقد وجوه الناس، وأغالط نفسي متسائلة: من هؤلاء؟ لماذا أشعر بالغربة هنا؟ أين تلك الوجوه التي اعتدت عليها هناك؟".

وتحدثنا  عن الأماكن في غزة: "صحيح أن غزة مدينة بسيطة، وبلا أماكن فارهة للمتعة والترفيه، لكنها بما تملكه من إمكانات بسيطة، تستطيع أن تسعدك، فالأماكن كالبشر في غزة، تمتلك روحا وقدرة على جذب الحياة، لاسيما البحر، فهو مصدر رفاهية لجميع الناس دون طبقات اجتماعية ولا تمييز. الجميع هنا يذهب إلى البحر الذي يحتضنهم ويشكّل متنفسا لهم من الحصار الإسرائيلي الخانق".

font change

مقالات ذات صلة