غزة المتخيّلة أو الحياة على حافة الإبادة

Lina Jaradat
Lina Jaradat

غزة المتخيّلة أو الحياة على حافة الإبادة

"يوم جميل"، أقول لنفسي في الصباح. شمس كهذه، دأب كل شمس شتويّة صافية، تشبه أن ترى العالم للمرة الأولى. إشراقتها تكون في القلب، لا في العينين. السعادة أحيانا أن تمشي تحت هذه الشمس، في تلك الشوارع الأليفة القديمة، في محاذاة أشجار وأسوار تلوح منها آثار بواباتها العتيقة. العلاقة بالمكان، حين لا تكون سياحية، هي علاقة مبتدؤها القدمان. بعد ذلك تأتي العينان، ثم الأنف. لا أكاد أجد دوراً لليدين، عدا الإشارة أو مجرد أن تكون هناك.

أحاول – عبر تلك الآثار - تصفّح المكان، مثلما يتصفّح أحدهم عروق شجرة قديمة ولحاها، يقرأ سيرة حياتها وأطوارها، في تلك الخطوط. أحاول تمييز الطبقات، بين بيت عمره مئة عام، وآخر عائد إلى الستينات، وثالث إلى الثمانينات، ورابع لم يبق منه إلا بضع درجات حجرية يعلوها العشب البرّي. تلك أعمار الناس. ذلك التعاقب الدائم للأيام. شمس بعد شمس. جيل بعد جيل. كثيرا ما أرى رسم قلب محاط بالحرفين الأولين من اسمين، أو كلمة "أحبك" مكتوبة، بلغة هذه البلاد، على الجدران والأسوار، أحيانا يكون التاريخ مثبتا بجانب إعلان الحب هذا. لا أعرف لمَ يميل الناس إلى وضع التواريخ، ربما إدراكا منهم لمرور الزمن، ربما رغبة في تثبيت تلك اللحظة الفارقة، وإنقاذها من السيلان الدائم للزمن.

سائراً في تلك الأزقّة القديمة، أفكّر في مدن إيتالو كالفينو غير المرئية، المتخيّلة. أفكّر في غزة أيضا، وإن ليس بتراتبية واضحة. فغزة حاضرة دوما، نحملها بداهة في تفاصيل حياتنا اليومية، كأنها صخرة تذكرنا بأنّ ثمة شيئا فادحا، ناقصا، موجعا، راسخا، يأبى هذه المرة أن يغادر ليس لسبب سوى لأنّ الإبادة لا تغادر، ولأن أثر الفظائع لا يقلّ، إن لم يكن يتفاقم، بمرور الزمن. أتذكّر غزة أو أتذكّر أنني عاجز عن نسيانها. غزة التي تثير كلّ أنواع المشاعر، والأفكار، والمخاوف، والأحلام، غزة التي تُمحَق محقاً، التي تُباد أمكنتها، مثل بشرها، التي لم يعد ممكناً تمييز شوارعها القديمة، هي أيضا، بمعنى من المعاني، غزة متخيّلة. غزة المتخيلة هي غزة قبل دمارها. وهي غزة بعد دمارها.

ملّ الناس الأخبار. ملّوا الشاشات. ملّوا اليأس، وملّوا الأمل. تواطأوا على مواصلة الحياة، تاركين كوّة صغيرة، ثابتة ودائمة وملحاحة كالألم، لخبر يأتي فجأة بانتهاء هذا الكابوس

الراجح أن كالفينو، ما كان ليكتب كتابه ذاك، ولا ليتخيّل مدنه تلك، لولا الحرب الكونية الثانية. كان في ريعان شبابه حين رأى مدنا أوروبية عريقة، راكمت أزمنتها وأمكنتها وملامحها وحدودها، عبر الأجيال، وهي تصبح ركاما. تلك المدن أعيد إعمارها بعد الحرب، ربما صارت أكثر حداثة، أكثر توسعا، ربما استأنفت مسيرتها الحضارية، والأكيد أنها عادت أماكن صالحة للعيش، بل وازدهرت. ظلت تحمل الأسماء نفسها، لكنها لم تعد هي نفسها. تلك المدن ماتت وولدت من جديد لكن القديم اختفى، مع جميع ساكنيه. المدن هي الذكريات، وإعادة إعمارها بعد الدمار، لا تستطيع إعادة ترميم الذكريات. لكن الأدب يستطيع فعل ذلك. أتخيّل أن هذا بالضبط ما كان كالفينو يطمح إليه. أعطى مدنه أسماء سحرية، يرتبط معظمها بالنساء، كأنما ليستودع فيها من جديد سرّ الولادة.

Lina Jaradat

غزة، في 2023-2024، صارت أيضا فلسطين المتخيّلة. في شوارع العالم هتف أصحاب الضمائر "الحرية لفلسطين". كان على غزة أن تدفع ثمن ذلك باللحم والدم. عادت الألسن تلهج بالمعجزات، أو هكذا أحبّ بعضنا أن يظن. أسطورة السيف والدم. أمثولة الذئب والحمل. الحماسة التي اشتعلت هي القهر وقد صار له صوت. القهر والسأم، القهر والغثيان. أما آن لفلسطين أن تصير فلسطين. أما أن لهذا الوحش أن يرتوي. السياسة فرغت جعبتها من الكلام، كلّ شيء بات واضحا، وضوح تلك الشمس الرائعة. فلسطين، هذه المرة، على بعد حقيقة دامية، لا على بعد شعار أو هتاف. غزة أعادت فلسطين من الكلام إلى الواقع. لكنّ الثمن يفوق الوصف، يفوق الألم الذي يعرفه الناس ويستطيعون إيجاد كلمات لوصفه. على مدى عقود، أحبّ آخرون أوطانهم، وكرهوها، باسم فلسطين. دماء غزة لم تعطهم الفرصة هذه المرة. لا أعرف إن كان انتصارا، لكنّ كلّ تلك الدماء تعني شيئا واحدا، هذه المرة فلسطين هي فلسطين فحسب. أحبّوا أوطانكم، واكرهوها، واصنعوا أساطيركم وخرافاتاكم، كما شئتم، لكن بعيدا عن كلّ تلك الدماء.

لم أكن قادرا يوما على تخيّل الروح. لم أؤمن يوما بالأشباح. وحديث الجنّ لا يعنيني. أستطيع أن أمكث ساعات في الظلمة الدامسة، في مدينة غارقة في ظلمة دامسة، ولن يتراءى لي أي طيف. الظلمة تتقشّر عن ظلمة أقلّ، لا أكثر. لكنني هذه الأيام أرى الأرواح. أراها في النوم والصحو. أرى أرواحا معلقة بين السماء والأرض، فوق الدخان، فوق الركام. أرى وجوها، من الأعمار كافة تطفو قريبة بعضها من بعض. أرى أرواح حيوانات أيضا. كلاب وقطط وبغال وحمير. أرى أرواح أشياء، ملابس وحقائب وصناديق. أرى أرواح أمكنة، مطابخ وغرف نوم، نوافذ وأبوابا. أرى تلك المساحة، بين السماء والأرض، مزدحمة بذلك كله. لا بدّ إذن من أنها مدينة أخرى ولدت هناك. كيف لا تولد مدينة من كلّ هؤلاء البشر والأشياء والأمكنة؟ لا يعقل فقط أن يختفي كلّ شيء، ألا يترك أثرا في مكان ما. ألا يعيش حياة أخرى في مكان ما.

Lina Jaradat

هذه المدينة ليست في غزة. إنها غزة أخرى، لكنها ليست هناك. إنها في كلّ  مكان، لأنها في الرأس. هل هو طيف العجز، تعبير عن اليأس المطلق؟ لست متأكدا من هذا كما لست متأكدا، بعد غزة، من شيء. العالم الذي ضجّ بالهتاف والأغنيات، ضجّ أيضا بالبكاء، بالأنين، بالصراخ وبالعويل. ولم تتوقّف المذبحة. ملّ الناس الأخبار. ملّوا الشاشات. ملّوا اليأس، وملّوا الأمل. تواطأوا على مواصلة الحياة، تاركين كوّة صغيرة، ثابتة ودائمة وملحاحة كالألم، لخبر يأتي فجأة بانتهاء هذا الكابوس. لا أعرف إن كان يمكن تسميته إنكارا. لكنْ، إن كان من إنكار، فلا بدّ من أنه الأضخم في تاريخ البشرية.

أجل، بعد غزة، بعد المذبحة، كلّ شعور بالسعادة، صغر أم كبر، سيظلّ مترافقا مع شعور خفيّ بالذنب: لماذا أحظى بهذا وقد حرم منه كلّ هؤلاء؟

بعد كلّ المواقف والشعارات، الاتهامات والاتهامات المضادة، التحليلات والمراجعات، تأتي الجثث. غزة لم تصبح جثة بعد، لكنها حوّلت العالم إلى جثة. لكن، ماذا بعد جثّة؟ ماذا بعد تخيّل جثّة؟ فلتكن جثة طفل، أو بالغ، ولتتعدّد طرق الموت وبشاعاته. لكن ماذا بعد تخيّل جثّة؟ المخيلة تقف هنا، تتعطّل. لأن المخيلة لا تستطيع الانفكاك من الشعور. حين تصل المخيلة إلى جدار مسدود، فهذا يعني في الوقت نفسه ارتطام الحواس بهذا الجدار. أسمع صوت ارتطام ملايين الرؤوس، حول العالم، بهذا الجدار. وهو صوت مرعب. ليس صوت العجز فحسب، بل صوت موت المخيلة. أسئلة كثيرة عن العدالة والحقّ، الثواب والعقاب، الخير والشر. أسئلة لا تنتهي. أجل، القاتل معروف ودماء القتيل ساطعة حدّ الذهول، ومع ذلك تبقى الأسئلة بلا أجوبة. لماذا؟ كما في كلّ المذابح الكبرى، يظلّ السؤال بسيطا، لماذا هم؟ تتراكم الجثث وأنت تصنع قهوتك، تسمع أغنية، تجري محادثة هاتفية، تتناول طعام غذائك، تمارس الحبّ... باختصار تواصل الحياة، وكلّ تفصيل من تفاصيل حياتك، كل عمل تقوم به، يتزامن مع جثث جديدة. لا أعرف إن كان القتلى يشعرون بشيء ما قبل لحظة قتلهم، يسمعون صوتا ما، همسا ربما، كلمة تبث السكينة في أرواحهم قبل إقلاعها. لا أنفكّ أتخيّل تلك اللحظة. كم كان الموت ليكون وحشياً إن خلا حتى من لحظات كهذه. إن كنا في نهاية المطاف نقبع في عتمتنا، ثم ننتهي في ثانية واحدة. ننتهي فحسب.

Lina Jaradat

أمشي في تلك الشوارع القديمة، في تلك المدينة البعيدة. شمس الشتاء تبعث دفئاً تتسرّب منه سعادة مؤلمة. أجل، بعد غزة، بعد المذبحة، كلّ شعور بالسعادة، صغر أم كبر، سيظلّ  مترافقا مع شعور خفيّ بالذنب: لماذا أحظى بهذا وقد حرم منه كلّ  هؤلاء؟ غزة المتخيلة تمشي معي. شمس الشتاء تتخللها حتى تصل إليّ. كم بشعة الحياة، حين تستمرّ، تستمرّ حقا، وقد انقطعت أسبابها.

محض مصادفات. حين كتب كالفينو "مدن غير مرئية"، كان، وهو المولود في أعقاب الحرب العالمية الأولى، 1923، في مثل عمري، وقد نشرت الرواية في عام مولدي (1972). مصادفات، لكنها قادرة في الوقت نفسه على أن تكون جزءا من نسيج حكايات الكتاب نفسه. مدن كالفينو غير مرئية، لا لأنها متخيّلة فحسب، بل لأنها موجودة. موجودة لكنها لا تُرى. تحتاج إلى ذاكرة لكي تراها، وتحتاج إلى لغة، وإلى شعر. مدن كهذه لا يعرفها غزاة، بمن فيهم قبلاي خان نفسه، ولا رحالة، بمن فيهم ماركو بولو. مدن كهذه تصبح سحرية لأنها أكثر من مرثية لمدن رحلت وحملت بين حجارتها أهلها. لأنها في حقيقة الأمر تعويذة، تعاود إنهاض المدن على قدميها. أفكّر في أولئك الغزاة الجدد. ليسوا قتلة فحسب، ولا مستعمرين فحسب، لكنهم مهووسون بمحو الأمكنة. تلك النشوة المرعبة على وجوههم وهم يسوّون بالأرض أحياء بأكملها. ذلك العداء تجاه الأمكنة يكاد يتوازى مع العداء تجاه أهلها. لقد أدرك هؤلاء الغزاة أن الأمكنة هي أهلها ولذلك يدمّرونها بهذه الشراسة. لم يشهد التاريخ قاتلا مهووسا إلى هذا الحدّ بقتل الذاكرة. ربما لأن الذاكرة هي أكثر ما يرعبه. بالتالي، يجب محوها، من الأمكنة، ومن الهواء، ومن رؤوس الناس وعقولهم. يجب قتل الذاكرة قبل كلّ شيء آخر.

أتذكّر حزن أمي على طبق من البورسلان تحطم يوما، بعد أن رافقها منذ بداية زواجها، وعبر جميع أفراح العائلة وأتراحها. لا بدّ أن ذلك الطبق كان يعني شيئا ما، شيئا عميقا وراسخا ونافذا يتجاوز وصفه وتعريفه الموضوعيين. إنه، أيضا، سجلّ للذاكرة. شاهد على القلب والروح. رفيق الأيام وهي تجري خلف الأيام. ولا أستطيع منع نفسي من التفكير: إذا كان المكان هو الشخص بكل ما فيه وكل ما يعنيه، والشخص هو المكان بكل ما فيه وكل ما يعنيه، إذا كان كلّ  شخص يؤّسس مدينته المتخيّلة، داخل وبجوار المدينة التي يعيش فيها حقا، فكم غزة أبيدت اليوم في غزة؟ ثلاثون ألفا قتلوا حتى الآن. ثلاثون ألف غزة إذن. على الأقلّ.

Lina Jaradat

أمشي في تلك الشوارع القديمة. أشعر أنني أتقدّم جنازة لها أول وليس لها آخر، خلفي مدن أخرى أبيدت. أعرف أنها ليست غزة فحسب، ولم تكن يوماً غزة فحسب. رام الله أيضا تُباد اليوم. القدس تُباد. حيفا ويافا أبيدتا. بيروت أبيدت، صيدا، صور، طرابس، دمشق، حماه، حلب، صنعاء، عدن، بغداد، البصرة إلخ. قافلة من المدن صارت جثثا تمشي ورائي. طبقات من المدن السرّية المتخيلة في السماء فوقي. وجوه جميع من رحلوا تتسرّب مع أشعة الشمس الشتوية الدافئة، تتراءى حزينة في الهواء السعيد.

أحاول أن أنام دون تخيّل شيء. تتدفق الذكريات كأنها لشخص آخر. كيف شختُ بهذه السرعة؟ كيف لم أعد أريد من الحياة شيئا؟ كيف ماتت شهوة الحياة في قلبي وفي روحي؟ أصلي لأرواح لا أعرفها. ترتعش الصلاة في قلبي، مثل كلّ صلاة تصبح، هي الأخرى، محض ذكرى وخيال.

اقرأ أيضا: قالت لي ابنتي

أحاول أن أتذكر مدن كالفينو السحرية. كيف ابتدع كلّ هذه الأسماء. كلما أعياني اليأس عدتُ إلى هذه المدن، أستمدّ منها شيئاً من اليقين ومن الطمأنينة ومن الثبات. أعرف أن كلّ المدن التي اغتيلت وأبيدت، والتي ستُغتال وتُباد، ستظلّ حية، لأن كاتباً، بل شاعراً، تخيّلها يوما، ومنحها حياة، وأعاد إليها الذاكرة التي حرمت منها.

إحدى مدن كالفينو، في رأسي، سيظلّ اسمها غزة.

font change

مقالات ذات صلة