عراة بلا أمل... أيتام غزة يروون لـ"المجلة" مأساتهم

الضحية الأكبر للعدوان الإسرائيلي المتواصل

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

عراة بلا أمل... أيتام غزة يروون لـ"المجلة" مأساتهم

غزة: منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة قبل أربعة أشهر، قتل ما لا يقل عن عشرة آلاف طفل، في حين صار آلاف غيرهم أيتاما، بعد فقد الوالدين أو أحدهما على الأقل، وسجّلت أرقام مرعبة من الأطفال الذين أصبحوا من ذوي الحاجات الخاصة، بفعل الإصابات الفادحة التي لحقت بهم.

أما من نجوا من كلّ تلك الأهوال فيعانون يوميا مأساة النزوح، والظروف المعيشية البالغة الصعوبة، والخوف والتشرد وفقدان أدنى مستويات الأمان، بفعل استمرار الحرب في غزة. ولعلّ الصدمات النفسية التي يعانيها أولئك الأطفال سوف تستمر طويلا وستتطلب رعاية خاصة، حتى بعد انتهاء الحرب.

وفي حين يبيت أطفال آخرون في منازلهم آمنين، ويذهبون إلى مدارسهم، ويمارسون الشغف والاكتشاف تجاه كل شيء حولهم في الحياة، فإن حياة أطفال غزة، انقلبت خلال الأشهر الماضية انقلابا جذريا، فوجودوا أنفسهم محرومين من أبسط حقوقهم، إذ تعطلت العملية التعليمية بالكامل، وباتوا أسرى سجن من النار، يتعرضون خلاله للخطر الشديد، ويعانون شتى أنواع الإيذاء الجسدي والمعنوي.

يحدثنا الطفل سامي ملَكة (13 عاما)، النازح مع أمه وعائلة أبيه من شرق غزة إلى رفح، قائلا: "تعرض أبي للقنص على يدجنود الاحتلال وهو يحاول عبور الشارع من أجل الحصول على طحين لنا، وكنت في كل مرة أطلب منه الذهاب معه لقضاء حاجيات البيت، وكان يوافق، لكن هذه المرة أصر على الذهاب وحده، وكأنه كان يشعر بأن مكروها سيحدث له".

 كان أبي صديقي، يحاورني ويدعمني ويحاول كثيرا تحفيزي، كان يحلم في احترافي كرة القدم، وها هو يرحل قبل أن يتحقق هذا الحلم

سامي

يتذكر سامي والده بأسى: "كان أبي صديقا لي، يحاورني ويدعمني، ويحاول كثيرا تحفيزي من أجل لعب كرة القدم، لقد كان يحلم في احترافي كرة القدم، والانتقال خارج غزة، للعب في الأهلي المصري، وها هو يرحل قبل أن يتحقق هذا الحلم، وألبي له أمنيته، ولست أدري هل سأستطيع تحقيق ذلك، وقد سلبت الحرب مني كلّ ما أملك".

حلم مشوّه

هذه ليست حال سامي وحده، فتقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة، يونيسيف، يفيد بأن سبعة عشر ألف طفل غزي تعرضوا للانفصال عن أهاليهم خلال الحرب الضروس، كما يقرّ التقرير بمقتل ما يزيد على عشرة آلاف طفل خلال هذه الحرب. يتابع سامي: "حين علمت بمقتل أبي، شعرت بأن ظهري قد انكسر، ولا أعرف كيف سأواصل الحياة بعد اليوم، كان أبي يمنحني مشاعر الأمان والثقة والقوة، ويعلمني من خبرته، ولطالما أخبرني بأن الحياة ستظلّ تضع لك المصاعب في طريقك، لكنني لم أتخيل أن الصعوبة الكبرى التي سأواجهها هي فقده، كلّ شيء اسودّ في عيني بعد رحيله".

AP
أطفال أصيبوا في القصف الإسرائيلي لقطاع غزة يتلقون العلاج في مستشفى في دير البلح، الأحد 4 فبراير 2024

يقول سامي: "لم يعد لي ولعائلتي مأوى بعد هدم بيتنا، ولم يعد لنا سند بعد مقتل أبي، فصار حملي ثقيلا، إذ يترتب عليّ الاعتناء بأمي وأختي، وهذا الشعور وحده، يجعلني أخاف المستقبل، فعليّ ملء فراغ كبير تركه أبي، والفراغ في داخلي أكبر بكثير".

لطالما كانت الحالة المعيشية في غزة بمثابة مأزق لمعظم عائلات القطاع، خلال سنوات طويلة من الحصار، وهذا ما دفع الكثير من الآباء للسفر بحثا عن لقمة العيش، وتأمين القوت للأبناء.

لطالما شعرت بالحزن من أجل الأطفال اليتامى، وتألمت لأجلهم، والآن حولتني الحرب إلى يتيم

أحمد

يروي لنا الطفل أحمد مهدي (12 عاما) قصة ابتعاد أبيه عنه خلال السنوات الماضية، بسبب عمله في الداخل المحتل، فكان يغيب طيلة الأسبوع، ليعود يوم الجمعة ويبيت مع عائلته. يقول أحمد: "كلما كان يغادر أبي المنزل للعمل، أشعر بأنني وحيد وضائع، لكنني كنت أقول لنفسي هذا وضع مؤقت، وسيعود أبي قريبا للعيش معنا، وقد فرّقتنا هذه الحرب مرة أخرى".

REUTERS
أطفال نازحون، فروا من منازلهم بسبب الغارات الإسرائيلية، يلعبون في مقبرة يحتمون بها

يضيف أحمد: "حينما نزحنا إلى خانيونس، حسبنا أن هذا المكان آمن، كما أخبرنا الاحتلال، لكن هذا كله كذب، فقد قتل أبي في منطقة الأمان، خلال قصف أحد المنازل، بينما كان يبيع المعلبات بجانبه... كان كل همّه إسعادنا لكن الحرب لم ترد ذلك".

ألم متواصل

يتابع أحمد: "أشعر بألم متواصل، وما يزيد ألمي أنني لم أعش خلال السنة الماضية وقتا كافيا مع أبي بسبب ظروف عمله، فلم أشبع من وجوده، ولم أحتضنه بالشكل الكافي، وها هو يرحل إلى الأبد بفعل همجية الاحتلال، وبفعل الحرب، لم أعد قادرا على احتضان أبي مرة أخرى، ولو ليوم واحد في الأسبوع... لطالما شعرت بالحزن من أجل الأطفال اليتامى، وتألمت لأجلهم، والآن حولتني الحرب إلى يتيم، يثير الشفقة لدى الآخرين، وما زلت لا أستوعب أني سأكمل الحياة دون أبي".

لم أكن أتخيل أن تتعامل معنا الحياة بهذه القسوة... كان علينا إكمال رحلة النزوح وحدنا، تاركين عائلتنا تحت الأنقاض، ما زلت لا أصدق كل ما حدث

آية

أما الطفلة آية السيد (15 عاما) فقد نزحت وعائلتها من منطقة القرارة الريفية شمال خانيونس إلى مخيمات الإيواء في رفح، تروي: "أشعر بالضعف والانكسار، وبأن الحياة غير آمنة، ليس في داخلي إلا الخوف، الخوف من الحاضر، والخوف من المستقبل، والشعور بالسقوط أمام كل شيء".

سبب هذه المشاعر الأبرز، هو فقدان آية لأبيها خلال رحلة النزوح المرعبة، بعدما هربوا تحت وابل النيران الذي تعرضت له منطقتهم: "عندما اشتدت الأحزمة النارية، هربنا من شدة القصف، فلم يعد دوي القذائف يحتمل، وصار الخوف يشعرني بالشلل وشعرت في بعض الأحيان بأنني يكاد يغمى عليّ، فاندفعنا جميعا للنزوح الى مناطق الإيواء المحددة، لكن جدي رفض ذلك، وقرر البقاء".

REUTERS
أطفال نازحون في إحد مخيمات النزوح في رفح بجنوب قطاع غزة، 6 فبراير 2024

تكمل آية: "إن خروجنا تحت القصف الشديد، جعلنا في حالة ارتباك لا توصف، وبالفعل نسي أبي أن يترك لجدي وجدتي وأخيه الصغير النقود، وعاد ليعطيهم المال، بعدما ابتعدنا عن المنزل مسافة ليست بالقليلة".

تتوقف آية عن الحديث وتنظر إلى السماء، ثم تضيف: "لم أكن أتخيل أن تتعامل معنا الحياة بهذه القسوة... ذهب أبي الى المنزل ولم يعد، فقد قصف المنزل بكل من فيه، ولم ينج أحد، وكان علينا إكمال رحلة النزوح وحدنا، تاركين عائلتنا تحت الأنقاض، ما زلت لا أصدق كل ما حدث".

font change

مقالات ذات صلة