"داليا" تروي لـ"المجلة" قصة العودة لغزة والحرب بعد نجاة

الخروج من القطاع يصبح خيارا وحيدا

Reuters
Reuters
مخيم يضم النازحين الذين لجأوا الى رفح من باقي مدن القطاع

"داليا" تروي لـ"المجلة" قصة العودة لغزة والحرب بعد نجاة

رفح- في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما سمحت السلطات المصرية بفتح معبر رفح البري مع قطاع غزة لسفر مزدوجي الجنسية، اعتقد البعض أنهم من المحظوظين الذين تمكنوا من النجاة والخلاص من كثافة القصف والدمار الإسرائيليين اللذين طالا كافة مناحي الحياة خلال الحرب الإسرائيلية التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنّ البعض اضطر للعودة رغم عدم انتهاء الحرب، تجنبا لتفريق العائلة ومفضلا ذلك على النجاة الفردية.

داليا اسم مستعار لفتاة غزية، فضلت عدم ذكر اسمها، في الوقت الذي اختارت أن نستخدم اسم أعز صديقاتها والتي فقدتها في الحرب بسبب القصف الإسرائيلي، واصفة إياها بأنها كانت تحب الحياة. تحمل والدة الشابة الجنسية المغربية كما عائلتها، إلا أن الأم لم تتمكن من منح جنسيتها لأبنائها وبناتها وزوجها حتى نشوب الحرب الأخيرة.

AFP
دخان القصف يغطي سماء خانيونس في 22 يناير

كانت العائلة تقطن مدينة غزة، قبل أن تُجبر على النزوح القسري إلى مدينة دير البلح وسط القطاع بسبب التهديدات الإسرائيلية قبل الاجتياح البري، إلا أن القصف والدمار والقتل، طال جميع المناطق حتى المناطق التي نزح إلها الغزيون، ومن بينها دير البلح والمنطقة التي نزحت العائلة لها، كما تقول داليا (24 عاما).

درست داليا تخصص الترجمة من اللغة الإنجليزية وتخرجت في الجامعة بقطاع غزة قبل عامين، وكغيرها من الخريجين، بحثت عن فرصة للتدريب والعمل، معتقدة أنّ الحياة ستسير بشكل طبيعي، واصفة غزة ما قبل الحرب بأن الحياة فيها "كانت بسيطة وجميلة، صحيح يوجد حصار واحتلال لكن كان الواحد مبسوط بحياته إلى حد ما، على عكس الوقت الحالي بعد أن دمروا الشوارع والمباني والمنازل والأماكن العامة وصارت غزة عبارة عن كومة رُكام ونازحين متكدسين في بضعة كيلومترات".

عاشت داليا الحرب منذ بدايتها، ورأت أنها حرب إبادة وليست كالحروب والعدوانات الإسرائيلية السابقة

عاشت داليا 38 يوما من الحرب منذ بدايتها، رأت أنها حرب إبادة ليست كالحروب والعدوانات الإسرائيلية السابقة، تقول: "ما دفعنا للسفر، أنه ما بقي عندنا طاقة نتحمل أكثر ولا نعيش ونشوف إللي بصير من قتل ودمار قدام عنينا".

سمعت هي وأسرتها أنّ السفارات في الخارج تعمل على سحب وتسهيل سفر رعاياها داخل قطاع غزة، تواصلوا مع السفارة المغربية حيث كانت والدتها تحمل الجنسية المغربية، وعلمت منهم كيفية إجراءات السفر قبل أن يُفتح معبر رفح البري مع مصر.

تأخرت العائلة في تسجيل أسماء أفرادها للسفر بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت بسبب استهداف شركات وأبراج الاتصالات الخليوية في القطاع، حتى تمكنوا من تسجيل أسمائهم للسفر في اليوم الـ25 للحرب، وانتظروا حتى اليوم الـ37 عندما وردت أسماؤهم في الكشف، تضيف: "عرفنا بورود أسمائنا من خلال مقيمين في تركيا تواصلوا مع جيراننا بلغوهم، ما كان في عندنا اتصال وإنترنت يومها".

لم يرد في الكشف أسماء العائلة كاملة، فقط الأم واثنتان من بناتها وابنها، ولم يرد اسم داليا وشقيقتيها ووالدها. توجهت العائلة إلى معبر رفح على أمل السفر معا، وبعد محاولات عدة سافرت داليا وشقيقتان مع باقي من وردت أسماؤهم فيما لم يُسمح للأب وابنته بالسفر واضطروا العودة إلى منزل النزوح القسري وسط القطاع.

استقبلهم في الجانب المصري من معبر رفح البري، مندوب عن السفارة المغربية، قدم لهم المساعدة وتسهيل إجراءات السفر حتى الوصول إلى المغرب، إلا أنّ العائلة طلبت المكوث في مصر كونها الأقرب إلى من تركوهم داخل غزة، وهو ما عملت عليه السفارة المغربية بالتعاون مع الجانب المصري، حيث سُمح لهم بالمكوث في مصر لمدة شهر قابلة للتجديد كما قالت داليا.

قلق في القاهرة وقتل في غزة

تصف داليا فترة مكوثهم في مصر بـ"القلق وعدم الراحة" وذلك بسبب عدم خروج العائلة بأكملها، حيث انقطعت الاتصالات فيما بينهم خلال الأسبوع الأول من سفرهم بسبب انقطاع وسوء شبكات الاتصال والإنترنت: "لم نعلم عنهم شيئا، هل هم أحياء؟ هل طالهم القصف؟ هل يأكلون؟ وهو ما زاد من حيرتنا وقلقنا بشكل أكبر مما كان عليه الأمر قبل سفرنا".

في القاهرة تطوع بعض القاهريين بالمساعدة في توفير شقة سكنية وشراء بعض الملابس وغيرها، لكن كيف لعائلة انقسم جزء منها تحت النار أن تنعم بالراحة والأمان

في القاهرة، تطوع بعض القاهريين لمساعدتهم في توفير شقة سكنية وشراء بعض الملابس وغيرها، لكن كيف لعائلة انقسم جزء منها تحت النار أن تنعم بالراحة والأمان. خلال الأسبوع الثاني من سفر داليا وغالبية أسرتها، توصلت إسرائيل وحركة "حماس" إلى هدنة مؤقتة لأربعة أيام يتم خلالها تبادل المحتجزين والأسرى بإشراف مصري - قطري- أميركي، تم تمديدها لثلاثة أيام إضافية... "خلال الهدنة، عرفنا بخبر استشهاد عمتي وعائلتها، واعتقدنا أنّ تمديد الهدنة سينهي الحرب، أمي استنفذت طاقتها في ترك أبي وشقيقتي ونحن أيضا"؛ تقول داليا التي قررت وأمها وأشقاؤها وشقيقاتها العودة إلى حيث نزحوا سابقا وسط غزة. بالفعل عادوا وتمكنوا من دخول معبر رفح وصولا إلى لمّ شمل العائلة التي أكملت حياتها تحت القصف الإسرائيلي بعدما فشلت الجهود الدولية في تمديد الهدنة أو إيقاف الحرب الإسرائيلية التي دخلت شهرها الرابع.
فكر والد داليا في السؤال عن منزلهم الذي كانوا يقطنونه في غزة، لكن لم يتبق أحد هناك، جميع الجيران والأقارب في منطقة سكنهم اضطروا للنزوح... "استودعنا بيتنا وغزة وأمنيتي أن يتلطف ربنا بمن تبقى هناك". وتتابع: "أنا اشتقت أرجع لحياتي الطبيعية رغم أنها ما كانت مثل ما بنحلم وبنتمنى، لكن كل إشي مكتوب حنعيشه، أنا كبرت في غزة وترعرعت فيها، صحيح الحياة صعبة لكن بالنسبة إلي أحلى من أي بلد تاني زرته خلال سفري السابق لعدد من الدول".

عودة للتفكير في السفر

حاولت داليا وعائلتها الصبر والصمود، على أمل انتهاء الحرب وإعلان وقف إطلاق النار في كل يوم، إلا أنّ أمانيهم لم تتحقق... "شكلها أمل برضه ماتت، بطل فينا حيل والروح تعبت والجسد أُنهك" كما تقول. بدأت العائلة تفكر في السفر مرة أخرى، نتيجة الإحباط والخوف وعدم الشعور بالأمان والراحة، لكن هذه المرة إما السفر معا وإما المكوث في مكان نزوحهم القسري تحت القصف والدمار الإسرائيلي معا.

AFP
عائلات فلسطينية تغادر خانيونس بعد تصاعد حدة المعارك فيها في 22 يناير

لا تتحدث داليا عن السفر بشغف أو حب، بل كخيار وحيد تُجبر عليه في ظل الوضع الحالي، الذي يعاني منه أكثر من مليونين و300 ألف غزي كانوا يقطنون كافة مدن وقرى ومخيمات قطاع غزة، فيما يتركز اليوم أكثر من ثلثي عددهم في النصف الجنوبي للقطاع، وتضيق المساحة عليهم يوميا بسبب التهديدات والتحذيرات الإسرائيلية المتكررة لإخلاء مناطق وأحياء جديدة طالت غزة وشمال القطاع ووسطه وشرق مدينة خانيونس في الجنوب.

السفر خيار وحيد في ظل الوضع الحالي، الذي يعاني منه أكثر من مليونين و300 ألف غزي، فيما يتركز اليوم أكثر من ثلثيهم جنوبي القطاع

وترى الشابة أنّ الحرب وما خلفته حتى وقت حديثها لـ"المجلة"، لم تترك أي ذكرى جميلة إلا وقتلتها، إلا أنها تؤكد عودتها ثانية في حال سافرت للمرة الثانية مع عائلتها خلال الحرب، وتعود لتطرح أسئلة على نفسها: "معقول نرجع نعمرها؟ معقول تصير غزة أحسن؟".

تحضيرا للسفر، رتبت العائلة نفسها استعدادا للمغادرة أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، على أمل الخروج معا، إلا أنهم وقبل موعدهم، أُجبروا على إخلاء منزل النزوح القسري وسط القطاع، لينتقلوا إلى غرب مدينة رفح جنوب القطاع بسبب كثافة القصف الإسرائيلي على المنطقة التي يقطنونها، ما أجبر جميع جيرانهم الجُدد على النزوح والانتقال إلى الخيار الأخير، خيم النزوح بمدينة رفح.

ربما ستتمكن خلال أيام من النجاة ثانية، أو الانتظار في القطاع كما الآخرين، إلا أنّ داليا أصرت وبإلحاح على ذكر رسالة أخيرة في قصتها: "لو صار وما طلع عليّ نهار، وإنه مُتنا، بدي توصل رسالتي بأنه كان نفسي أعيش عنجد، وكان فيّ لسا حاجات كتيرة نفسي أعملها، ما بدنا سفر جديد، بدنا تخلص، بدنا نطلع عمتي وندفنها، بدنا نلملم جراحنا ونستعيد حياتنا".

font change

مقالات ذات صلة