المؤرخ رشيد الخالدي لـ"المجلة": لسنا قريبين لا من حلّ الدولة ولا الدولتين

صحيح أن وسائل الإعلام الأميركية لا تأتي على ذكر ذلك، لكن النقابات الأساسية في الولايات المتحدة، في مهن مثل التمريض أو عمال كهرباء أو عمال البريد، أيّدت وقف إطلاق النار في غزة، وهذا موقف معاكس لموقف الإدارة الأميركية، ناهيك بموقف الحكومة الإسرائيلية. هذه ظواهر جديدة لا مثيل لها في التاريخ. فمن جهة هناك استمرار للدعم الرسمي الحكومي والاقتصادي والإعلامي والديبلوماسي من النخبة الأميركية والبريطانية والألمانية إلخ، أما على مستوى القاعدة الشعبية فهناك تحولات وتغيرات بالغة الأهمية. وبالطبع يستحيل تقييم هذه التغيرات اليوم، ونحتاج إلى أن نرى الحال بعد سنة مثلا، إذا استمرت هذه التغيرات، إلا أنني منذ نشأتي في الولايات المتحدة، وقد ولدت في 1948 في عام النكبة ونشأت في أماكن عدة، وعشت نصف حياتي في الولايات المتحدة، لم أشهد ما أشهده اليوم.

"معاداة السامية" بين الواقع والدعاية السياسية

• لطالما تحدثت عن محاولات القوى المؤيدة لإسرائيل طمس حقوق الشعب الفلسطيني، واليوم نشهد أمرا مماثلا، فالقوى نفسها تعيش حالا من الإنكار حين يتعلق الأمر بالاحتجاجات الشعبية، والإسرائيليون يقولون ذلك بوضوح، ويتهمون هذه التحركات بأنها إسلامية وليست نابعة من الضمير الإنساني، هل ترى أن هذا الإنكار يحقق غايته؟

ليس ناجحا على الإطلاق. هناك اتهامان يوجههما الصهاينة وأصدقاؤهم وأعوانهم. الأول هو أن هذه حركات إسلامية، والثاني أنها معادية للسامية ولليهود كيهود، ولا علاقة لها بحقوق الإنسان ولا القضية الفلسطينية، فيروج أصحاب هذا الادعاء أن هؤلاء المحتجين أناس يكرهون اليهود كيهود ويتخذون من هذا الأمر، أي دعم فلسطين، ستارا للتعبير عن عدائهم لليهودية واليهود. الاتهام الأول باطل طبعا. فغالبية الناس في التظاهرات ليسوا مسلمين ولا يعرفون شيئا عن الإسلام. غالبيتهم أميركيون أو من أقليات أميركية من سود وإسبان وبيض ويهود، وفي الجامعات الأميركية، نرى أن من يقودون الحركات المؤيدة لفلسطين أقلّ من نصفهم عرب أميركيون، أما البقية فطلاب يهود وأقليات وسواهم. خذ على سبيل المثل نقابة عمال البريد أو نقابة عمال صناعة السيارات، هل هم مسلمون؟ هذا اتهام باطل ولا أساس له.

أما اتهام الحركات المعادية لإسرائيل بأنها في الأساس معادية للسامية، ومع أنه اتهام باطل كليا، إلا أنه للأسف الشديد يجد تأييدا في بعض الأوساط الإعلامية والسياسية، ويمكن أن يرى المرء أن فئات من هم أكبر في السن، وأثرى وأكثر بياضا، والرجال عموما، هم من يؤيدون إسرائيل. فمن يمتلك الاقتصاد الأميركي؟ هؤلاء عموما، سواء أكانوا يهودا أم لا، وهذا لا علاقة له بالدين، بل بالثروة والسنّ والجنس والعرق وعوامل أخرى. أما الشباب، والطبقات غير الثرية والنساء عموما، فهؤلاء هم من يؤيدون فلسطين دون أن يكون لهم أي ارتباط بالإسلام أو بمعاداة السامية.

لكن الحقيقة أن مؤيدي إسرائيل يتسترون خلف العداء للسامية لأن هناك بالفعل عداء للسامية في المجتمعات الغربية، بل إنه صناعة غربية، فمن طردوا اليهود من إنكلترا في القرن الثاني عشر لم يكونوا مسلمين بل كان الملك الإنكليزي، ومن طردهم من فرنسا في القرن الثالث عشر هو الملك الفرنسي، ومن طردهم من إسبانيا والبرتغال أواخر القرن الخامس عشر، هم الإسبان، أي أن معاداة السامية صناعة أوروبية، ولا تزال موجودة. إذن، هناك عداء بالفعل للسامية، لكن ليس من الحركات المؤيدة لفلسطين.

الهجوم المضاد

• ذكرتَ الجامعة والتحرّكات الجامعية، وهذا أيضا جديد على هذا النطاق والشكل، حتى أنه طرحت نقاشات حول الحرية الأكاديمية ومعاداة السامية، ويبدو أن أهداف التحرّكات المضادة لهذه التحركات قد تحققت، فاستقال رؤساء جامعات تحت الضغط، كما أن هناك ضغطا يتعرض له كثير من الطلاب والأساتذة، كيف تصف هذا التحول؟

هذا تحوّل كبير وخطير. ما نراه حاليا هو هجوم مضاد لهذه القوة المسيطرة على الاقتصاديين والسياسيين ورؤساء الأحزاب الأميركية، والمسيطرة أيضا على الجامعات. فلمن تنتمي الجامعات الخاصة في أميركا، إنها تنتمي قانونيا إلى مجالس الأمناء؟ وممن تتكوّن هذه المجالس؟ إنهم المتبرّعون. أي بكلام آخر أثرى أثرياء المجتمع الأميركي ومعظمهم ذكور، أي أن كبار السن والأثرياء والذكور، الذين يسيطرون على الكثير من قطاعات المجتمع، يسيطرون أيضا على الجامعات والمتاحف مثلما يسيطرون على الاقتصاد.

فهؤلاء يشنون هجوما مضادا على هذه الحركة التي لا مثيل لها في تاريخ أميركا. وبالفعل استطاع هذا الهجوم المضاد أن يحقق انتصارات ولو مؤقتة على نطاق الجامعات، من خلال قمع تظاهرات، وطرد طلاب، وتخويف أساتذة وطلاب. حاليا نحن في فترة أعياد وحين يعود النشاط إلى الجامعات قريبا في نيويورك وغيرها من المدن والولايات، سنرى مدى نجاح هذا الهجوم المضاد. أعتقد أن الطلاب والأساتذة لن يسكتوا، والجامعة في حقيقة الأمر هي طلاب وأساتذة وليس أثرياء يسيطرون ويفرضون آراءهم الرجعية على الجامعات. سندخل في صراع طويل مدعوم ليس فقط من أولئك الأثرياء الذين يمتلكون الجامعات قانونيا، مدعومين بالسياسيين والإعلام الذي يسيطرون عليه أيضا، وبين الأساتذة والطلاب. بالطبع ليس جميع الأساتذة والطلاب مع حقوق الفلسطينيين، لكن أغلب من هم في حقول العلوم الإنسانية والفنون يؤيدون الحقوق الفلسطينية. هناك بالطبع في الجامعات المهنية، المحاماة والطب والهندسة، كثير من الصهاينة الذين يؤيدون إسرائيل، وهناك انقسام في تلك الجامعات، لكن معظم أساتذة العلوم الإنسانية متعاطفون مع حقوق فلسطين. ويجب أن نتذكر أن الحركات المعادية للحروب في التاريخ الأميركي، سواء أكانت حرب فييتنام أو العراق، انطلقت في الجامعات، فسنشهد صراعا طويل الأمد، لأن تاريخ التأييد الأميركي لإسرائيل طويل وسوف يمتد إلى المستقبل، إلا انه للمرة الأولى نرى في صفوف المؤيدين لحقوق الفلسطينيين مجموعات مهمة، مقابل من يسيطرون على السياسة والإعلام والاقتصاد.

• يبدو لافتا أن كثيرا من الشباب، بمن فيهم الجامعيون، لديهم معرفة ضئيلة بتفاصيل القضية الفلسطينية، مما قد يستنتج منه أن جزءا من تأييدها، وهذا يؤكد ما تذهب إليه، يأتي انطلاقا من الوقوف إلى جانب العدل وضدّ الاضطهاد دون معرفة سياسية عميقة بتاريخ الصراع. كيف ترى هذه المسألة؟

هذا تحليل سليم تماما، فمعرفة التاريخ والتفاصيل السياسية للقضية الفلسطينية، ضئيلة عند كثير من الطلاب وبين من يؤيدون حقوق الفلسطينيين، وكما تفضلت فإن كثيرا من هذا التأييد نابع من حب الشباب خاصة للعدالة. هم يرون أن هذا الصراع غير عادل وأن هناك اضطهادا وقمعا. بعضهم ينظر إليها من منطلق عرقي، ويرى أن أوروبا والبيض يضطهدون شعبا عربيا فقيرا وضعيفا. السود في أميركا، مثلا، يرون القضية من هذا المنطق. أحد أصدقائي من السود قال لي إنه شعر لدى زيارته فلسطين أنه في الجنوب الأميركي في الخمسينات أيام "قانون جيم كرو"، حيث كان هناك أناس يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها سواهم، وأناس لهم الحق في التصويت في الانتخابات وأناس لا يحق لهم ذلك. بالطبع، المقارنة غير صحيحة تماما، لكن هناك كثر يرونها كذلك. والشباب عموما لديهم حب للعدالة وهذا هو الدافع الأساسي.

في الوقت نفسه، نرى اليوم نوعا من الانفتاح على القضية الفلسطينية عند الشباب. هناك حب هائل للمعرفة. كتابي على سبيل المثل يباع بصورة مذهلة وأيضا كتب زملائي عن القضية الفلسطينية، وكتاب إدوارد سعيد القديم "سؤال فلسطين" أو كتب إيلان بابيه، تباع كتبهم بشكل رهيب، وهناك طلب هائل لهم للمشاركة في المحاضرات والندوات والمقابلات، وعلى المستوى الشخصي أجد نفسي عاجزا عن تلبية كل الطلبات التي تصلني وأنا لست الوحيد في ذلك، فكلّ من هو معروف بامتلاك قدر من المعرفة بالقضية الفلسطينية، مطلوب من الشباب الذي لديه تعطش للمعرفة، وحتى من كبار السن. ففي حين أن هناك معرفة ضئيلة جدا بتفاصيل ما يجري في فلسطين، هناك تعطش للمعرفة لم أشهد له مثيلا من قبل. وهذا كله جيد جدا.

هناك أحيانا نقص في الوعي السياسي عند بعض الشباب، وهناك أحيانا أخطاء يقومون بها. ابنتي محامية مسؤولة عن منظمة غير حكومية تدعى Palestine Legal تدافع عن الشباب، وهناك منظمات مماثلة في أوروبا وكندا إلخ، ويقول لي المحامون الذين يعملون في هذا المجال إنهم يضطرون أحيانا إلى الدفاع عن طلاب يقولون كلاما غير معقول، كلاما معاديا للسامية أو غير مدروس، لأن هناك فهما ضئيلا أحيانا عند البعض، لكن هناك حبا وتعطّشا للمعرفة لديهم.

• يلاحظ أن الفلسطينيين الذين يتحركون اليوم سواء في فلسطين أو في الشتات، هم ممن ولدوا بعد اتفاق أوسلو، ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

أظن أن هذا الجيل شاهد على فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في تحقيق أي أهداف وطنية للشعب الفلسطيني. وهو شاهد على إخفاق الدول أو الأنظمة العربية في دعم الفلسطينيين. وأيضا على دعم الغرب المطلق للمشروع الإسرائيلي. حب الشباب للعدالة وحقوق الإنسان، يدفعهم في اتجاه تأييد القضية الفلسطينية. وقد أدرك الشباب الفلسطيني، في الداخل أو الخارج، فشل جيلي والجيل اللاحق في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، وأنه مطلوب انطلاقة جديدة. لا أعرف متى ستأتي هذه الانطلاقة، أو إن كانت ستأتي، وإن كنت أرجوها قريبة، لكننا في مأزق سياسي واستراتيجي تسبّبت به جميع القيادات التقليدية للشعب الفلسطيني. جيلي يشعر بذلك ويدرك أنه فشل، لكن الشباب لديه مشاعر أشدّ قوة. نحن هرمنا وانتهى عهدنا، أما الشباب فسيعيشون لسنوات طويلة مع فشلنا وهذا الواقع يزعجهم، ولهم الحق في ذلك.

مستقبل الدولة الفلسطينية

• بعد كل ما حصل، هل بات الشعب الفلسطيني أقرب إلى تجسيد الدولة الفلسطينية أو حل الدولتين، وكيف تفسّر عدم إعلان أميركا تحديدا، موقفا واضحا من قضية إنهاء الاحتلال بصفتها مفتاح الحل؟

أعتقد أننا لسنا أقرب لا من حل الدولتين ولا من حل الدولة الديموقراطية الواحدة، فلا أرى في الأفق أي حكومة إسرائيلية، أو أي تحالف سياسي إسرائيلي في الوقت الحالي، يمكن أن يقبل بأي حل عادل للقضية الفلسطينية وإنهاء الحرب على الشعب الفلسطيني وإنهاء الصراع، ولا أرى أيضا في الأفق، في السنوات القليلة المقبلة، تغيرا جذريا في الموقف الأميركي يمكن أن يسمح بالافتكاك عن التأييد المطلق لإسرائيل، كما لا أرى للأسف الشديد حتى اليوم ظهور قيادة فلسطينية قادرة على توحيد الصف الفلسطيني وطرح استراتيجيا موحّدة وواضحة. في زمن منظمة التحرير الفلسطينية، كان هناك نوع من وحدة الصف ومن الإجماع على استراتيجيا، وهذا العهد انتهى، ومن دون توافر هذه العوامل كيف نستطيع التحدّث عن دولة فلسطينية وعن إنهاء الاحتلال. هذا غير وارد لا اليوم ولا غدا ولا بعده.

إلا أنني متفائل للغاية بما هو حاصل أولا في العالم العربي من ناحية تأييد الناس للفلسطينيين. دعك من الحكومات فهي في مكان آخر، لكن الناس من المغرب إلى البحرين يؤيدون فلسطين، وأولى التظاهرات في البحرين أو في مصر منذ سنوات، هي الداعمة لفلسطين، وهذا دليل على أن الشعوب العربية تؤيد فلسطين. وهو أمر معروف يمكن أن يخبركم به أي مؤرخ. في 1910، كانت جميع الصحف تتحدث عن الصهيونية وقد جمعتُ 400 مقال من صحف عربية في بيروت والشام والقاهرة وغيرها عن الصهيونية وفلسطين، قبل الحرب العالمية الأولى حتى، وقد أيّد الشعب العربي الفلسطينيين خلال ثورة 1936. وكان هناك في حماه متحف للسوريين الذين استشهدوا خلال ثورة 1936 -1939.

• الشيخ عز الدين القسام نفسه سوري...

هذا صحيح. وقد رأينا الظاهرة نفسها في حرب 1948 وفي كل فترة من فترات الصراع. هذا بالنسبة إليَّ دليل مهم جدا. والدليل الآخر هو بداية تحرّك جدّي في الغرب يناهض تأييد الحكومات المطلق لإسرائيل وهو تغير بالغ الأهمية. المعارضة الوحيدة لوعد بلفور في حكومة لويد جورج في 1917 جاءت من عدو واحد وهو اليهودي الوحيد مونتيغو، الذي قال إن الصهيونية غير جيدة لليهود، ولم يكن هناك معارض سواه في بريطانيا ولا في أميركا أيام ويلسون، ومنذ ذلك اليوم إلى زمننا هذا، لم تكن هناك معارضة حقيقية للدعم المطلق لإسرائيل والفكرة الصهيونية. أما اليوم فهناك معارضة جدية في الكونغرس وبين الجماعات والنقابات والكنائس ولدى الجالية اليهودية، وهذا أمر بالغ الأهمية لأننا إذا كنا نؤمن أن هذا مشروع استيطاني، فيستحيل، نظريا، ألا تكون له قاعدة أو "متروبول"، وأميركا وأوروبا هما "المتروبول"، فإذا اهتزّ تأييد إسرائيل في "المتروبول" اهتزت إسرائيل وهذا ما هو حادث اليوم. أقرأ الصحافة الإسرائيلية بدقة وهناك من يدركون جيدا أنه لا يمكنهم الاعتماد على الدعم الأميركي المطلق إلى أبد الآبدين، لأن ما يحدث في قاعدة الجماهير وليس على مستوى النخبة، يهدّد العلاقة الإسرائيلية الأميركية وهذا تحليل سليم. هذا لن يحدث اليوم ولا غدا، ليس في زمن هذا الرئيس ولا من سيأتي بعده سواء استمر بايدن أو جاء ترامب، ربما الإدارة التي بعد ذلك، أو بعدها، لكن هناك تغيرا حاصلا في أميركا. لا أعرف في شأن أوروبا، لكن يخيل إليّ أن هناك تغيرا حاصلا هناك أيضا وإن لم يكن في حجم التحول الحاصل في الولايات المتحدة. هذه كلها دلائل على أن الوضع يمكن أن يتغير.

أما إنهاء الاحتلال فهو أمر لا أحد يأتي على ذكره في الولايات المتحدة، على رأس الهرم، سواء أكان الحزب الديموقراطي أو الجمهوري، يستحيل أن تجد تأييدا للإنهاء الفوري للاحتلال، لكنّ هناك عددا من الشيوخ والنواب، يؤيدون إلى حدّ ما الحقوق الفلسطينية وهذا جديد، إذ لم يكن هناك في الكونغرس أي تأييد للفلسطينيين في الماضي. إذا استمر هذا التحول، وقد لا يستمر، أرى أن هناك إمكانا لحل عادل في فلسطين. على المدى المتوسط، الأحداث تتطور بصورة متسارعة إلى حد ما بسبب وسائل الإعلام غير التقليدية، وأيضا بسبب اندفاع جيل الشباب وحبهم للعدالة ومعارضتهم للاضطهاد، هذه كلها دلائل على إمكان التغيير لكن ليس اليوم ولا غدا للأسف.

اتفاق أوسلو والأفق المسدود

• كنتَ مستشارا للوفد الفلسطيني خلال المفاوضات التي أدّت إلى اتفاق أوسلو، لو عاد بك الزمن اليوم، فهل ستؤيد خيار أوسلو مجددا؟

كنتُ مستشار الوفد الفلسطيني الذي ذهب إلى مدريد ثم إلى واشنطن للتفاوض مع إسرائيل، بأمل أن هذه المفاوضات ستؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. في البداية كان لدينا هذا الأمل. ولكن حين انتهت هذه المفاوضات في يونيو/حزيران 1993، قبل بضعة أشهر من إعلان اتفاق أوسلو، بتنا مقتنعين أن هذا الطريق مسدود ولا يؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بسبب المواقف الأميركية والإسرائيلية التي كانت موحّدة. كان ذلك خطأ مني. أخطأت في تقدير الموقف في 1991. كنت مقتنعا بأن الانتفاضة الأولى أثرت جذريا على الإسرائيليين والأميركيين، وبالفعل أثرت أيجابيا على الرأي العام الأميركي وأيضا على الرأي العام الإسرائيلي، أقنعته أن استمرار الاحتلال بوضعه الحالي مستحيل. ولكن بسبب أخطاء قيادتنا الفلسطينية، وبسبب عوامل أخرى ذكرتها في كتابات عدة، لم ننتهز الفرصة، إن كانت قائمة في المقام الأول. وقد كتبت مقالا في "نيويورك تايمز" عند إعلان اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993، قلت فيه إن هذا الاتفاق لن يحقق نتيجة. أنا مقتنع أن أي تفاوض على أساس اتفاق أوسلو لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى استمرار الاحتلال والاستيطان، وعلينا أن نجد طريقة جديدة كليا، وهذا يتطلب توحيد الصف الفلسطيني، وتأييدا عربيا، واستراتيجيا واضحة لما نريده. شعوب العالم كله تقف معنا إلى حدّ ما، ولكن نحن يجب أن تكون لدينا فكرة واضحة عما نريده وهذا غير موجود. فهناك من ينادي بتحرير كامل وهناك من ينادي بحل الدولتين وهناك المرتاحون للوضع الحالي في رام الله، من لديهم رواتب ويحظون بمعاملة خاصة، واضح أنهم مرتاحون. يخيل إليّ أنه مطلوب استراتيجيا جديدة. هل يجب أن نعتمد على المقاومة المسلحة أم المدنية أم السياسية لا أعرف، أنا مؤرخ وأنظر إلى حركات نجحت مثل الأيرلنديين في 1921 والهنود في 1947 والجزائريين في 1962، جميعهم اعتمدوا على تشكيلة من وسائل المقاومة منها سياسية وبرلمانية وغيرها، مثلا الأيرلنديون الذين قاوموا الإنكليز عسكريا، اعتمدوا أيضا وسائل غير عسكرية، فانسحب جميع ممثلي أيرلندا من البرلمان البريطاني، وشكلوا ما سمّوه البرلمان الأيرلندي في دبلن، وتعرضوا للاعتقال والاضطهاد، لكن هذه الخطوة كانت مهمة لشرعية مطالبة أيرلندا بالاستقلال، كما ساهمت الديبلوماسية الأيرلندية في الولايات المتحدة وإنكلترا، بانتصار الأيرلنديين، في الوقت الذين كانوا فيه ينصبون الكمائن ويغتالون ضباط المخابرات الإنكليزية، فكل حركة لها وسائل مختلفة، وهذا الأمر يعود تقريره إلى الشعب الفلسطيني، لكننا نحتاج إلى استراتيجيا عميقة وتفكير عميق بما هو مطلوب.

فلسطينيون أم عرب؟

• بقدر ما يعتبر انتماء الفلسطينيين إلى المحيط العربي الأوسع، نقطة في صالحهم، فإن هذا ربما ألحق الضرر بهم، بمعنى القول دائما، مثلما يفعل الإسرائيليون حاليا، إن الفلسطينيين هم عرب ولا ينتمون إلى هذه الأرض، كيف تنظر إلى هذه المسألة؟

الكيانية الفلسطينية وظهور الفكر الوطني الفلسطيني ليسا شيئا أبديا. فجد جدي لم يكن يعتبر نفسه فلسطينيا فحسب. كان يقول أنا مسلم ومقدسي وعربي وعثماني وأعيش في فلسطين أرض المعراج إلخ. أي أنه لطالما كانت هناك مكوّنات أخرى ضمن شخصية الفلسطيني، ولا شيء اسمه أنا فلسطيني وهذه هويتي وشخصيتي الأساسية. في القرنين التاسع عشر والعشرين ظهر الفكر القومي عندنا وعند غيرنا وهذه ظاهرة مستحيل إنكارها، فالفلسطينيون عرب في نهاية المطاف. أنا لديَّ أقارب في خمس دول عربية، لديّ ابنة عم متزوجة من مصري وأخرى متزوجة من سوري، ولي أقرباء متزوجون من أردنيين ونصف أفراد عائلتي متزوجون من لبنانيين، ونبقى مع ذلك فلسطينيين، ففي لبنان أو مصر أو سوريا، أشعر أنني بين أهلي، لكنني لست لبنانيا ولا مصريا ولا سوريا. فمسألة الكيانية قائمة منذ زمن طويل ويستحيل إنكارها، ونرى أن فلسطينيي الأردن مختلفون عن فلسطينيي لبنان إلخ، لكنهم جميعا فلسطينيون، وعلى الرغم من إحساسهم بأن لهم أقارب في الأردن أو في الشام يشعرون بأنهم فلسطينيون وينتمون إلى فلسطين، ولو لم يكن هذا أمرا عميقا لكان اختفى نتيجة النكبة والتهجير، والاندماج في هذه المجتمعات. في سوريا الفلسطيني حاصل على الحقوق كافة ما عدا جواز السفر، والنظام يضطهده مثلما يضطهد السوري، كذلك الفلسطيني في الأردن، لديه كل حقوق الأردنيين، وعلى الرغم من اندماجه في المجتمع الأردني، فإنه يشعر أنه فلسطيني. القول إن الفلسطينيين عرب فحسب، هو ادعاء صهيوني، لكنه، ومثل كل افتراء، له أساس. وهو أننا عرب فعلا، نتكلم اللغة نفسها، ونتناول الطعام نفسه، ولكن في الوقت نفسه نحن فلسطينيون، والحقيقة أن الصدمة والنكبات المتتالية إلى يومنا هذا مع تهجير مليوني فلسطيني في قطاع غزة، يعزّزان هذا الانتماء، فليس هناك أي عربي من المحيط إلى الخليج إلا ويشعر مع أهل فلسطين، لكننا نشعر أكثر إلى حدّ ما، لأنهم أهلنا. المغربي والكويتي وغيرهما يشعرون بما نشعر به، وإن لم يكن لهم أهل مثلنا يتعرضون للاعتقالات والدمار، وهذا الانتماء ثابت، إلى جانب انتمائنا العربي.