حرب غزة... بين غياب الرؤية السياسية واستعصاء الحل العسكري

لا توجد حلول بسيطة لهذا الصراع المعقد الحالي، والعمليات العسكرية وحدها لن تؤدي إلى سلام دائم

Axel Rangel Garcia/Majalla
Axel Rangel Garcia/Majalla

حرب غزة... بين غياب الرؤية السياسية واستعصاء الحل العسكري

مع تجاوز الصراع بين إسرائيل وحماس شهره الثالث، يتعرض الشرق الأوسط الكبير لتهديد متزايد بسبب التصعيد المحتمل والشكوك الاستراتيجية غير المسبوقة. يوما بعد يوم، تقع اعتداءات وأحداث كبرى في أماكن مثل البحر الأحمر وبيروت وبغداد وطهران، وكل منها تحمل القدرة على إشعال صراع أوسع يمتد إلى ما هو أبعد من قطاع غزة.

من بين العناصر الأساسية التي تعمل على تأجيج عدم الاستقرار الإقليمي، يبرز بشكل كبير الخلاف السياسي بشأن رؤية مشتركة للطريقة التي يمكن أن تنهي الحرب بين إسرائيل و"حماس" وطبيعة نتائجها المحتملة، لآن إسرائيل و"حماس"، الخصمين الرئيسيين، يحملان طموحات سياسية متضاربة للغاية، ما يعني أن الأمل ضئيل في التوصل إلى حل دبلوماسي شامل ودائم في أي وقت قريب.

وما يزيد الأمور تعقيداً هو التناقض بين رؤيتي إسرائيل والولايات المتحدة للنتيجة المثلى التي يمكن أن تلي الصراع عقب نهايته. هناك اختلال ملحوظ في مقاربات الطرفين الأساسية لحل الصراع. في المرحلة الأولية التي أعقبت عدوان "حماس" على إسرائيل، أيد الرئيس الأميركي جو بايدن بقوة حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وأيد هدفها السياسي المتمثل في تفكيك "حماس".

ولكن، في الأسابيع الأخيرة، طفت على السطح خلافات سياسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، سواء فيما يتعلق بالقضايا قصيرة المدى مثل نطاق وطبيعة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، أو فيما يتعلق بالمسائل طويلة المدى حول ما يجب أن يحدث بعد انتهاء هذا الصراع.

اقرأ أيضا: حياة مسيحيي فلسطين على بُعد 76 كيلومترا من غزة

فبد أن أمضت إدارة بايدن ما يقرب من ثلاث سنوات في السلطة وهي لا تعطي أي أولوية للقضية الفلسطينية مقارنة بقضايا الشرق الأوسط الأخرى، نفضت الغبار مؤخرا عن حل الدولتين الذي كان جزءا من قواعد اللعبة في السياسة الخارجية الأميركية لكل إدارة تقريبا منذ نهاية الحرب الباردة. كما دعت إلى إنعاش السلطة الفلسطينية، وهي هيئة الحكم الذاتي المؤقت الذي يتمتع بسلطة محدودة في أجزاء من الضفة الغربية، ليكون لها دور في غزة.

بالمقابل، فإن وجهة نظر إسرائيل بشأن نهاية اللعبة ليست واضحة تماما، ولعل مرد ذلك تعدد الأصوات الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولكن قد يكون السبب أيضا مرتبطا بعدم وجود إجماع داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه وأزمة الهوية الوطنية المستمرة منذ عقود. والحال أن إسرائيل، لعقود من الزمن، لم تكن يوما من الأيام قادرة على التصالح مع الكيفية التي تسعى بها إلى تعريف نفسها في علاقتها بجيرانها، بما في ذلك جيرانها المباشرين، أي الشعب الفلسطيني.

إسرائيل، لعقود من الزمن، لم تكن يوما من الأيام قادرة على التصالح مع الكيفية التي تسعى بها إلى تعريف نفسها في علاقتها بجيرانها، بما في ذلك جيرانها المباشرين، أي الشعب الفلسطيني

منذ أن بدأت هذه الحرب، أعربت الحكومة الإسرائيلية عن مواقفها بشأن نهاية اللعبة في غزة، وعلى نطاق أوسع، مع الفلسطينيين عموما الذين يتعارضون بشكل مباشر مع ما تدعمه الولايات المتحدة. لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ائتلاف حاكم يضم وزراء يفضلون الضم المباشر للأراضي المحتلة ويعارضون حل الدولتين، ونتنياهو نفسه صرّح أن إسرائيل لن تسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى غزة، بعد أن أمضى سنوات يعمل جهده على تقويض السلطة الفلسطينية في رام الله، بينما يسهل آلية التمويل لغزة تحت سيطرة "حماس" بالتنسيق مع قطر.

والآن ثمة تقارير تفيد بأن إسرائيل بدأت بالفعل في وضع خطط لإنشاء "منطقة عازلة" داخل قطاع غزة، في خطوة سوف تقلّص من دون شك مساحة الأراضي المتاحة للفلسطينيين في القطاع. وفي نفس الوقت يتحدث بعض المسؤولين الإسرائيليين عن وجود عسكري إسرائيلي طويل الأمد في أجزاء من غزة، فيما يقول آخرون إن الضغوط الاقتصادية الوطنية الأوسع نطاقا، من جهة، التهديدات الأمنية الإقليمية الأخرى، من جهة أخرى، قد تجعل من غير المتاح نشر عدد كبير من القوات الإسرائيلية لإعادة احتلال غزة.

اقرأ أيضا: الحديث عن الحُب أمر غير طبيعي في القدس

وفي الأيام الأخيرة، طرح بعض مسؤولي الأمن الإسرائيليين أفكارا غامضة حول عمل إسرائيل مع العشائر الفلسطينية أو العائلات الكبيرة في غزة للمساعدة في حكم وإدارة المنطقة الفقيرة والمزدحمة بعدد سكانها الذي يربو على مليوني نسمة. يبدو هذا الترتيب المحتمل غير محتمل إلى حد كبير نظرا لحجم الدمار الذي حدث خلال ثلاثة أشهر فقط والتحولات المحتملة في الديناميكيات الاجتماعية والسياسية الداخلية الفلسطينية نتيجة لهذه الحرب – فالحرب كما يبدو تغير الحقائق السياسية بطرق لا يمكن التنبؤ بها.

خلاصة القول إنه بعد مرور ثلاثة أشهر على حرب غزة، باتت رؤى الولايات المتحدة وإسرائيل متباينة تباينا جوهريا حول ما يجب أن يحدث بعد انتهاء الحرب، وهو خلاف قادر بطبيعة الحال على إطالة أمد الصراع بدلا من تقصيره.

بعد مرور ثلاثة أشهر على حرب غزة، باتت رؤى الولايات المتحدة وإسرائيل متباينة تباينا جوهريا حول ما يجب أن يحدث بعد انتهاء الحرب، وهو خلاف قادر بطبيعة الحال على إطالة أمد الصراع بدلا من تقصيره.

ضبابية الرؤية

أحد الدروس الكبيرة التي تحاول أميركا تعلمها من عقدين من حروبها في العراق وأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول هو أن عدم وجود أهداف استراتيجية ذات نهاية محددة بوضوح يمكن أن يؤدي إلى حروب طويلة ومكلفة. خلال فترة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، كانت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان تحدد أهدافها في حروبها في العراق وأفغانستان بناء على من تريد أن تهزم في الحرب، وليس ما الذي تريد الوصول إليه وبناءه وتركه وراءها.

وحين أعلن الرئيس باراك أوباما عن "زيادة" القوات العسكرية الإضافية في أفغانستان في وقت مبكر من ولايته الأولى، كان يحدد الهدف الاستراتيجي بأنه تعطيل وتفكيك وهزيمة تنظيم "القاعدة" والجماعات التابعة له في أفغانستان وباكستان. ولم توضح الولايات المتحدة مطلقا ما تريد أن تتركه وراءها نتيجة للجهود العسكرية وجهود إعادة الإعمار المكلفة.

Reuters
بايدن ونتنياهو في لقاء بتل أبيب في 18 أكتوبر/تشرين الأول، 2023

حدث مثل ذلك في اليمن، فحين بدأ التحالف العربي المملكة العربية، إلى جانب عدد قليل من الدول الأخرى، عملياته العسكرية هناك في عام 2015 لمواجهة التهديدات، لم تقدم أي فكرة واضحة عن الوضع المنشود الذي تريد أن توصل البلاد إليه عقب الحرب، وهو السبب الرئيسي في تعثر الحرب والبحث عن مخرج دبلوماسي.

ومع بداية عام 2024، تجد إسرائيل نفسها منخرطة في عملية عسكرية موسعة في غزة تهدف إلى تفكيك "حماس"، ولا يبدو أنها ستنتهي قريبا، بل إنها تظهر في الواقع علامات على احتمال توسعها في مناطق أخرى في الشرق الأوسط. ونظراً لعدم وجود نهاية سياسية واضحة في ذهنها تشترك فيها مع الولايات المتحدة، الحليف الأمني والدبلوماسي الرئيس لإسرائيل، فإنها ببساطة تخاطر بخلق وضع يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض جهودها لحماية مواطنيها وإعادة تأسيس الردع، بل قد يعيق أيضا الطريق إلى حل سياسي دائم للصراع.

كتب الجنرال والمنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز في أوائل القرن التاسع عشر أن "الحرب هي مجرد استمرار للسياسة بوسائل أخرى. ولذلك نرى أن الحرب ليست مجرد عمل سياسي، بل هي أداة سياسية حقيقية، واستمرار للتواصل السياسي يتم بوسائل أخرى."

وفي غياب هدف سياسي محدد بوضوح لعملياتها العسكرية، ربما تكون إسرائيل قد وضعت عن غير قصد الأساس لمواجهة تحديات أكثر أهمية على المدى الطويل. إن الانخراط في صراع مع "حماس" والتصدي لتهديداتها من دون وضع خطة ملموسة وقابلة للتحقيق لمستقبل الشعب الفلسطيني من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى سجن صنعته بنفسها.

وقد يوقع هذا الوضع إسرائيل في دائرة من الإدارة المستمرة لاحتلال ممتد للأراضي الفلسطينية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يؤثر على ملايين الفلسطينيين. ويؤكد هذا السيناريو أهمية وجود رؤية واضحة وواقعية لحل مثل هذه الصراعات.

إن الانخراط في صراع مع "حماس" والتصدي لتهديداتها من دون وضع خطة ملموسة وقابلة للتحقيق لمستقبل الشعب الفلسطيني من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى سجن صنعته بنفسها

المكونات المفقودة

في هذا المنعطف الحرج في الشرق الأوسط، هناك عنصر واحد أساسي لتحديد الوضع النهائي القابل للحياة، وعنصر داعم ثان. إن العنصر الأساسي في تحديد الدولة النهائية الغائب عن المشهد هو صوت الشعب الفلسطيني، والملايين الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وأصوات الشتات التي تريد مستقبلاً أكثر أملا، بدلا من الأجندة العدمية أو أجندة الوضع الراهن التي تريد ببساطة التمسك بالسلطة. لقد وجد الشعب الفلسطيني، على مدى أعوام، في مرتبة دنيا على الأجندات السياسية ليس فقط في واشنطن العاصمة، ولكن أيضا في العديد من الحكومات في الشرق الأوسط.

من الضروري أن ندرك أن العنصر الداعم الثاني في تحديد نهاية اللعبة يمكن أن يأتي من الدول العربية نفسها، تلك الدول التي قامت مؤخرا بحملة نشطة من أجل وقف فوري لإطلاق النار في جميع أنحاء العالم وأنفقت الكثير من الوقت والطاقة في الأمم المتحدة في المناقشات حول القرارات المختلفة التي لم تفعل الكثير من الناحية الاستراتيجية على المدى القصير.

Reuters
خلفت الحرب الإسرائيلية على غزة دمارا كبيرا

وبدلا من ذلك، يتعين على الزعماء الرئيسيين في العالم العربي أن يفكروا في طرح خطة جريئة تحدد الوضع النهائي للصراع وتقدمها إلى العالم وإسرائيل. ومن خلال القيام بذلك، من المرجح أن تجد هذه الدول أن إدارة بايدن ستكون متعاطفة مع أفكارها، خاصة إذا تقاطعت هذه الأفكار مع النموذج الذي قدمته مبادرة السلام العربية، التي يبلغ عمرها الآن أكثر من عقدين من الزمن.

لا توجد حلول بسيطة لهذا الصراع المعقد الحالي، والعمليات العسكرية وحدها لن تؤدي إلى سلام دائم. والمطلوب: قادة سياسيون لديهم رؤية لتحديد المستقبل بطرق تستجيب لمخاوف الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.

إن الصراع الحالي معقد ومتعدد الأوجه، يستعصي على الحلول المباشرة، ولا ريب في أن الاعتماد فقط على الاستراتيجيات العسكرية لن يؤدي إلى تحقيق السلام الدائم. والمطلوب حقيقةً هو وجود القادة السياسيين الذين يمتلكون البصيرة والرؤية لتشكيل المستقبل وخلق نهج متوازن يأخذ في الاعتبار احتياجات وحقوق كلا المجتمعين.

font change

مقالات ذات صلة