وسط القاهرة للبيع... "سوليدير" جديدة؟

بين استعادة "باريس الشرق" ومخاوف الاستثمار العشوائي وطمس الهوية التاريخية

نسمة محرم
نسمة محرم

وسط القاهرة للبيع... "سوليدير" جديدة؟

تعتزم الحكومة المصرية طرح منطقة وسط العاصمة القاهرة للاستثمار، بهدف جذب مستثمرين عرب وأجانب لاستعادة رونق القاهرة التاريخي، من خلال إنعاش الأصول غير المستغلة أو المهملة، التي لا تدر عوائد حاليا. ظلت هذه المنطقة، لعقود طويلة، مركزا للحكم والوزارات، مما تسبب في تكدس عمراني وبشري غير مسبوقين وسط المدينة. وتسعى الدولة إلى تحويل هذه الأصول إلى مصادر دخل يمكن توجيهها مباشرة لدعم الموازنة العامة، ولا سيما عبر تنويع مصادر الدخل من العملات الأجنبية، مع تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث التاريخي وتوفير فرص استثمارية حديثة تلبي احتياجات السوق المحلية والدولية، لتصبح المنطقة إحدى أبرز الوجهات للمستثمرين.

تتضمن الخطة استثمارات في بناء الأبراج السكنية والفنادق والمرافق الخدمية، وتطوير وسائل النقل لتسهيل الوصول إلى هذه المناطق، إلى جانب استعادة رونق القاهرة الفاطمية التاريخي. وتهدف الدولة إلى الإفادة من تنوع القاهرة القديمة باعتبارها منطقة أثرية يمكن إقامة فنادق عالمية ومناطق ترفيهية فيها، مما يساهم في زيادة إيرادات السياحة بالدولار، من خلال الشراكة مع القطاع الخاص أو من خلال إسناد عملية التطوير إلى مستثمرين محليين أو أجانب.

يشمل المشروع تطوير المركز التجاري التاريخي لمدينة القاهرة، الذي أنشأه الخديوي إسماعيل عند افتتاح قناة السويس، بتخطيط من المصمم الفرنسي الشهير جورج هوسمان، الذي صمم باريس الحديثة، في محاولة لبناء "باريس على النيل". وتضم المنطقة مسارح ومباني مشيدة وفقا لأحدث الطرازات الأوروبية آنذاك، مما منحها طابعا عمرانيا فريدا. وتُعّد منطقة القاهرة التاريخية نسيجا معماريا متنوعا، فالسير في شوارعها يوازي التنقل عبر العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، وصولا إلى القاهرة الخديوية أو "باريس الشرق"، كما كانت تُعرف أحيانا. وعلى الرغم من انتشار المراكز التجارية أو "المولات" الحديثة على أطراف العاصمة، لا يزال التسوق في وسط البلد يحتفظ بجاذبيته الخاصة وطابعه المختلف.

يرى البعض أن المشروع حيوي، ويُعَد نقلة نوعية في إدارة الأصول غير المستغلة والإفادة منها

وسط القاهرة ليس مجرد حيّ في قلب العاصمة، بل هو ذاكرة نابضة لمصر الحديثة. هناك، تمتزج الأرصفة العتيقة بأصوات السيارات، ويعلو وقع الخطى على إسفلت يعرف وجوه العابرين منذ عقود. في شوارع مثل طلعت حرب وشريف والبستان، تلتقي واجهات المباني الأوروبية بلمسات مصرية خالصة، وتحكي الشرفات الحديدية والمقاهي القديمة حكايات عن زمن الخديوية والملكية، وعن مثقفين وساسة وفنانين مرّوا من هناك.

تهدف خطة الحكومة، التي أعلنها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، إلى تعزيز الإفادة من الأصول غير المستغلة والتحول نحو اقتصاد أكثر تنوعا واستدامة.

مشروع حيوي يصطدم باعتبارات ثقافية

وقد أسند مدبولي إلى مكتب استشاري مهمة وضع رؤية متكاملة لتطوير المنطقة، بعد انتقال معظم الوزارات إلى الحي الحكومي في العاصمة الإدارية الجديدة، على أن تُطرَح المنشآت الحكومية السابقة، التي كانت عبارة عن قصور ومبانٍ ضخمة، للاستثمار. وتحوي خطة التطوير الشاملة، المنطقة الممتدة من ميدان التحرير وشارع طلعت حرب حتى شارع رمسيس، بهدف تحويلها إلى كيانات اقتصادية مجزية، تشمل فنادق، ومساحات إدارية، ومراكز ثقافية وتجارية. ويُنظَر إلى هذا المشروع باعتباره فرصة لرفع مساهمة أصول الدولة في الناتج المحلي الإجمالي، كما يبدي عدد من المستثمرين اهتماما كبيرا باستغلال أكثر من 500 مبنى وقصر في المنطقة.

تباينت آراء الاقتصاديين الذين استطلعت "المجلة" آراءهم، بين مؤيد يرى في المشروع فرصة لإنشاء مقصد حضاري وسياحي واستثماري متكامل، ومن يخشى أن يؤدي التوسع الاستثماري إلى تغيير الطابع العمراني والإنساني والتاريخي الفريد للمنطقة. ويرى البعض أن المشروع حيوي، ويُعَد نقلة نوعية في إدارة الأصول غير المستغلة والإفادة منها، وللمرة الأولى تتحرك الدولة في شكل فاعل للإفادة من تلك الأصول لتحقيق عوائد قادرة على إنعاش الاقتصاد المصري، واستعادة بريق الحضارة العمرانية الفريدة التي تتميز بها المباني القديمة ذات الطراز الإيطالي والبريطاني والفرنسي.

"داون تاون دبي" في القاهرة

وقد ألمح بعض المستثمرين إلى تفاوضهم مع الحكومة لتطوير مباني وسط القاهرة. وتهدف الخطة إلى تحويل المنطقة إلى مشروع مشابه لـ"داون تاون دبي" الذي يستقطب أكثر من 100 مليون زائر سنويا، مما أثار مخاوف لدى البعض من فقدان هوية المنطقة التاريخية.

قد يغير المشروع طبيعة المنطقة الأثرية، نظرا إلى محاولة بعض المستثمرين فرض طابعهم الخاص لتحقيق المنفعة المادية على حساب الاعتبارات التاريخية

خبيرة الاقتصاد الدكتورة حنان رمسيس

وفي السياق نفسه، يعتبر الدكتور محمد فؤاد، خبير الاقتصاد والتخطيط، في حديثه إلى "المجلة"، أن المشروع "يعكس توجها استراتيجيا واعدا، لكنه بحاجة إلى توازن دقيق بين الجدوى الاقتصادية والاعتبارات الحضرية والثقافية، ونجاحه مرهون بضمانات الحوكمة والتخطيط الحضري، وتحديد آليات تصنيف صارمة للمباني التراثية، مع فصل واضح بين المناطق المؤهلة للاستثمار الحديث وتلك التي يجب الحفاظ عليها".

ويلفت محمد فؤاد إلى دروس مستفادة من تجارب دولية، مثل منطقة لوماريه في باريس التي أُعيد إحياؤها من دون المساس بنسيجها العمراني، أو تجربة بيروت في "سوليدير" التي- على الرغم من نجاحها في تطوير البنية التحتية- واجهت انتقادات بسبب عدم تمكين السكان الأصليين من العودة إليها، بعدما هجرتهم الحرب اللبنانية منها. ويشير أيضا إلى نجاح تجربة حي كراكوي في إسطنبول من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص في توظيف الأصول التراثية من دون الإخلال بهويتها.

ويضيف: "يتطلب ضمان الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية تنويع الاستخدامات، وعدم الاعتماد فقط على السياحة أو المكاتب، مع إشراك المجتمع المحلي في التخطيط والتنفيذ"، لافتا إلى أن السياحة تعد قطاعا أساسيا تسعى الدولة إلى دعمه كمصدر رئيس للنقد الأجنبي، إذ وصلت إيرادات السياحة إلى 15.3 مليار دولار عام 2024، بعدد زوار بلغ 15.7 مليون سائح، وقوى عاملة تتخطى ثلاثة ملايين شخص.

.أ.ف.ب
ميدان طلعت حرب الذي يحتوي على مباني وأبراج تارخية، 5 مارس 2019

من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي بلال شعيب في حديثه إلى "المجلة" أن المشروع "سيساهم في الإفادة من الأصول غير المستغلة لدعم الاحتياطي النقدي وتنويع مصادر الدخل"، مشيرا إلى أن الدولة تستهدف جذب 50 مليون سائح وتحقيق إيرادات سياحية تصل إلى 50 مليار دولار، وهو ما يتطلب توسعا في الطاقة الفندقية. ويقول: "تُعَد منطقة وسط القاهرة من أقدم الضواحي التاريخية، وتسعى الحكومة إلى إحيائها بالتعاون مع القطاع الخاص عبر إنشاء مراكز ثقافية، مما يساهم في إنعاش السياحة وتقديم صورة حضارية لمصر، على الرغم مما يتطلبه ذلك من إنفاق استثماري ضخم".

الهوية التاريخية أولا؟

في المقابل، ترى خبيرة الاقتصاد الدكتورة حنان رمسيس أن المشروع قد يغير طبيعة المنطقة الأثرية، "نظرا إلى محاولة بعض المستثمرين فرض طابعهم الخاص لتحقيق المنفعة المادية على حساب الاعتبارات التاريخية"، معتبرة أن "الحفاظ على الهوية سيكون في المرحلة الثانية وليس الأولى التي تغلب عليها الرغبة في الربح". وتكشف أن أحد المستثمرين الإماراتيين طرح مشروعا لتطوير ميدان التحرير ليكون على غرار ميادين دبي، "على الرغم من أن الميدان يضم المتحف المصري ويجذب سياحا من مختلف الجنسيات، ويوفر فنادق تناسب مختلف الميزانيات".

العائد الاستثماري من المشروع واعد، لكن ليس بالحجم المروّج له

محمد رضا، خبير مالي

وتنهي رمسيس بإبداء قلقها من اتجاه بعض المستثمرين إلى توسيع شوارع وسط البلد الضيقة عبر إزالة بعض المباني التاريخية، مما يهدد بفقدان سمات القاهرة الفاطمية، خصوصا في ظل تنفيذ مشاريع تبليط وتعزيز تناسق واجهات المحلات في محاولة لجعل الشوارع شبيهة بالشانزليزيه.

.أ.ف.ب
باب النصر الأثري الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1087، في القاهرة القديمة 15 أكتوبر 2022

أما الخبير المالي محمد رضا، فيقول لـ"المجلة": "إن العائد الاستثماري من المشروع واعد، لكن ليس بالحجم المروّج له"، مرجحا أن "تكون الاستفادة الكبرى غير مباشرة من خلال زيادة السياحة".

ويوضح رضا أن تحويل المنطقة إلى ممشى خالٍ من السيارات "قد يصطدم بصعوبات تتعلق بالتكلفة الضخمة والهوية المعمارية"، مرجحا أن تتركز الاستثمارات على إقامة فنادق جديدة لا على إعادة بناء البنية التحتية كاملة.

font change