"حل الدولتين"...الذي دفنه نتنياهو في سبيل إعادة الانتخاب

سيعود إلى الظهور كقضية إسرائيلية تقسيمية

Ewan White
Ewan White

"حل الدولتين"...الذي دفنه نتنياهو في سبيل إعادة الانتخاب

بات أمرا شائعا ومقبولا على نطاق واسع اليوم وصف حل الدولتين بأنه "ميت". وقد فقدت فكرة أن دولة فلسطينية ودولة إسرائيلية يمكن أن تتعايشا جنبا إلى جنب، وكذلك مجرد التفكير بإمكانية إنشاء دولة فلسطينية في المستقبل، فقدت مصداقيتها، بسبب سنوات من تكريس الأمر الواقع واليأس والعنف- ناهيك عما تقوم به مختلف الجهات الفاعلة التي تعمل بنشاط على دفن هذا الحل الذي لا يزال أكثر حلول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قبولا. وقد كان الحال كذلك حتى قبل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول التي شنتها "حماس" وما تلاها من هجوم إسرائيلي على غزة.

AFP
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الاميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي إسحق رابين أثناء توقيع "اتفاق أوسلو" في سبتمبر 1993 في البيت الابيض

ولكن عند قراءة ما بين السطور في إسرائيل، يستطيع المرء أن يستشعر أن مسألة الحل الثنائي التي ظلت خامدة فترة طويلة بدأت تعود إلى السطح. كما أن هناك جهات فاعلة عديدة شرعت في تحديد مواقفها من حل الدولتين أو تنشط بشأنه.

"فرصة تاريخية" للمستوطنين

في الضفة الغربية، بلغ العنف مستويات غير مسبوقة. ومن الواضح أن الجناح الأكثر تطرفا في حركة الاستيطان الإسرائيلية رأى في هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول فرصة تاريخية لممارسة الضغط على الفلسطينيين، والتأكد من موت حل الدولتين مرة وإلى الأبد. فحل الدولتين برأيهم ليس "ميتا بما فيه الكفاية". وفي أحدث تقرير صدر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أشارت الأمم المتحدة إلى أن وتيرة الهجمات (بدءا من الحوادث المحدودة إلى الهجمات الأكثر خطورة) تضاعفت من ثلاث حوادث في اليوم السابق على 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى سبع حوادث في اليوم بعد هذا التاريخ. ثم استقر على هذا الارتفاع منذ ذلك، لكنه لا يزال أعلى من المتوسطات السابقة.

حل الدولتين ولو أنه قد يموت مرات كثيرة، فإن إزالته بالكامل من عالم الممكن تتطلب جهدا أكثر جدية وإرادة أكبر لتغيير الوقائع في الضفة الغربية أكثر فأكثر

لعل هذا مجرد قمة جبل الجليد، لأن معظم تلك الهجمات قد لا تسجل. وليست هذه الهجمات "عنيفة" أو عالية الشدة كما قد يتصور المرء، فهدف المستوطنين الإسرائيليين الرئيس ليس القتل، بل تخويف الفلسطينيين وطردهم. فهم يستخدمون العنف بطريقة أقل من أن ترى بغية طرد المجتمعات الفلسطينية الصغيرة بعيدا عن المناطق الرئيسة في الضفة الغربية.
 وما كان لمثل هذا الارتفاع في أعمال العنف أي معنى لو كان حل الدولتين قد مات، كما يزعم بحماسة كثير من الأكاديميين الذين يجلسون على بعد آلاف الكيلومترات من المنطقة. وحركة المستوطنين اليمينية المتطرفة تعي الحقيقة، فحل الدولتين ولو أنه قد يموت مرات كثيرة، فإن إزالته بالكامل من عالم الممكن تتطلب جهدا  أكثر جدية وإرادة أكبر لتغيير الوقائع في الضفة الغربية أكثر فأكثر.
ألمع هذه الشخصيات اليمينية المتطرفة ليس إلا بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، الذي صعد إلى السلطة عقب انتخابات العام الماضي، إلى جانب تابعه إيتمار بن غفير الملوح بالبندقية. وفيما خطاب بن غفير اللاذع حوله إلى رجل سهل يتصدر الصفحة الأولى إعلاميا، فإن سموتريتش هو الرأس المفكر. وكان سموتريتش قد تفاوض مع نتنياهو، كجزء من محادثات الائتلاف- على "التلاعب" في وظائف الحكومة الإسرائيلية؛ فبينما يُعرف عنه أنه وزير المالية، مُنح أيضا المسؤولية الفعلية عن "الأنشطة المدنية" الإسرائيلية في الضفة الغربية. وأحد مقترحاته الرئيسة تهدف إلى الضغط من أجل إضفاء الشرعية على عشرات "البؤر الاستيطانية"- أي تلك المستوطنات الصغيرة غير القانونية حتى بموجب القانون الإسرائيلي.

قاتل الدولة الفلسطينية الحقيقي

ليس من قبيل الصدفة، كما يعلم سموتريتش، أن تكون هذه "البؤر الاستيطانية" هي القاتل الحقيقي لحل الدولتين. غالبا ما يُنظر إلى المستوطنات في الضفة الغربية و"حركة" المستوطنين على أنها كتلة واحدة، لكن الأمر ليس كذلك؛ فاعتمادا على التركيبة السكانية والتوزع الجغرافي للمستوطنات، يمكن تقسيمها عموما إلى قسمين: كتل استيطانية كبيرة ومستوطنات أبعد، تقع على العموم بالقرب من المدن الفلسطينية الكبرى. كما أن هذا التقسيم الجغرافي غالبا ما يكون تقسيما أيديولوجيا أيضا؛ فالإسرائيليون الذين يعيشون في الكتل الاستيطانية الكبيرة، مثل غوش عتسيون ، أو "ضواحي" القدس (بسغات زئيف أو معاليه أدوميم) أميل إلى أن يكونوا أقل أيديولوجية؛ فهم مهتمون بالأسعار المنخفضة، عندما يتجاوزون الخط الأخضر، أكثر من اهتمامهم بالأيديولوجيا الدينية التي تتشابه مع ما يراه معظم المراقبين الخارجيين على أنه "حركة المستوطنين". ويعيش هؤلاء بالقرب من الخط الأخضر ويعملون غالبا في المدن الإسرائيلية الكبرى، بما في ذلك القدس أو حتى تل أبيب- فهذه دولة صغيرة على كل حال.

AFP
مخيم نور شمس في الضفة الغربية بعد غارة اسرائيلية

والأمر الهام هنا أنه بينما زاد عدد المستوطنين الإسرائيليين إلى حد كبير خلال العقود الماضية، فإن غالبية من يعيشون في الضفة الغربية ما زالوا يعيشون على مقربة شديدة من الخط الأخضر. ويقدر أن 80 في المئة من الإسرائيليين الذين يعيشون في الضفة الغربية يعيشون في مستوطنات قريبة من الحدود. وهذا أمر مهم، لأن خطط السلام السابقة كانت قد ناقشت إمكانية تبادل الأراضي؛ معظم هذه المستوطنات القريبة من الحدود تعني أنه يمكن لإسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية الاتفاق على تبادل الأراضي على طول الخط الأخضر، أي مبادلة بعض الأراضي الإسرائيلية ببعض الأراضي التي تقع حاليا داخل الضفة الغربية. وبمبادلة أقل من 5 في المئة من منطقة الضفة الغربية، ونقلها إلى إسرائيل- مقابل مساحة مماثلة من الأراضي التي يسكنها عرب إسرائيليون على طول الخط الأخضر- تستطيع إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية أن تحلا واحدة من العقبات الرئيسة أمام السلام.
وبدءا من الجزء الأكثر أيديولوجية من حركة المستوطنين، متمثلا في سموتريتش وبن غفير، اللذين يدركان أن حل الدولتين ليس "ميتا بما فيه الكفاية". ويدركان أن "القاتل الحقيقي للدولة الفلسطينية" ليس الكتل الاستيطانية، بل تلك المستوطنات الواقعة في عمق الضفة الغربية، قريبا من المدن الفلسطينية الكبرى. وكلما تزايدت هذه المستوطنات، غدا من الصعب على أي دولة إسرائيلية مستقبلية أن توافق على تفكيكها. يعيش قرابة 100 ألف مستوطن في مستوطنات في عمق الضفة الغربية، داخل حوالي 100 إلى 150 بؤرة استيطانية تعد غير قانونية حتى بموجب القانون الإسرائيلي. وقد دفع سموتريتش مرارا بخطط لإضفاء الشرعية على تلك المستوطنات، الأمر الذي سيسمح لها بالتوسع أكثر.
وعلى سبيل المقارنة، كان عدد الإسرائيليين الذين يعيشون في مستوطنات داخل غزة 8000 نسمة بين عامي 2005-2006، أي في الوقت الذي قرر فيه آرييل شارون "فك الارتباط" وسحب هؤلاء المستوطنين من غزة. ومع ذلك، أدى فك الارتباط هذا إلى حدوث انقسام عميق في المجتمع الإسرائيلي. وكان هذا الانقسام واضحا للعيان، فقد ارتدى مؤيدو الانسحاب من غزة اللون الأزرق، بينما ارتدى معارضوه اللون البرتقالي. وبالتالي فإن انسحاب ما يقرب من 100 ألف مستوطن، وهو ما يتطلبه نجاح تسوية تبادل الأراضي، سوف يكون أكثر إثارة للانقسام. وكلما توسعت المستوطنات في عمق الضفة الغربية، تضاءلت فرص الانسحاب.

قد يقول قائل إن السلام سيوفر أفضل الأمن لإسرائيل، وهذه حجة صحيحة بلا شك، لكنها لا تتفق في كثير من الأحيان مع وجهة نظر كثير من الإسرائيليين، وليس فقط تلك المجموعة الصغيرة من المتطرفين

حتى الإسرائيليون غير المتطرفين باتوا يرون في الدولة الفلسطينية تهديدا وجوديا. وغني عن الذكر أن "تجربة" غزة، التي أدت إلى سيطرة "حماس" على السلطة، ثم في نهاية المطاف إلى هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، يراها كثير من الإسرائيليين علامة على أنه من غير الممكن ترك الفلسطينيين لحالهم، ولا يمكن أن يحصلوا على دولة. لقد عززت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول التصور السائد لدى جزء من السكان الإسرائيليين على الأقل، بأن إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية سيؤدي إلى النتيجة نفسها بالضبط، سوى أن الصواريخ لن تسقط هذه المرة على جنوب إسرائيل، بل على قلبها.
غالبا ما يتم التغاضي عن الفروق الجغرافية الدقيقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من قبل أولئك الذين تقتصر معرفتهم على الكتب ووسائل الإعلام. على سبيل المثال، لا تفصل مدينة طولكرم، وهي مدينة فلسطينية مهمة، عن مدينة نتانيا الساحلية الإسرائيلية، سوى 14 كيلومترا. وأصبح هذا القرب واضحا بشكل صارخ عام 2002 عندما نفذ مسلح من الضفة الغربية واحدة من أسوأ العمليات الانتحارية في أحد فنادق نتانيا. وتغطي الصواريخ قصيرة المدى التي تستخدمها "حماس" عادة مسافات تتراوح بين 10 و20 كيلومترا. وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، توغل مقاتلو "حماس" إلى عمق يصل إلى 20 كيلومترا داخل إسرائيل، عندما وصلوا إلى مدينة أوفاكيم.
هذه هي الصورة التي تدور في أذهان بعض الإسرائيليين الآن عندما يفكرون في الدولة الفلسطينية، وهي تفسر سبب إصرار إسرائيل على ضمانات أمنية صارمة. وقد يقول قائل عن بعد إن السلام سيوفر أفضل الأمن لإسرائيل– وهذه حجة صحيحة بلا شك، إلا أنها لا تتفق في كثير من الأحيان مع وجهة نظر كثير من الإسرائيليين، وليس فقط تلك المجموعة الصغيرة من المتطرفين. علاوة على ذلك، فإن انخفاض التعامل مع السلطة الفلسطينية وجهود التهميش المتعمدة، التي بذلها شارون في البداية ثم واصلها نتنياهو فيما بعد، ساهمت أيضا في غياب السلام وما تلا ذلك من تمكين "حماس" في أعقاب فك الارتباط عن غزة.

أظهر الرئيس بايدن التزاما قويا بأمن إسرائيل، حتى على حساب مكانته السياسية الداخلية، كما رأينا في تراجع شعبيته بسبب إدارته لأزمة غزة

في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، من المتوقع أن يعود حل الدولتين إلى الظهور كقضية مثيرة للجدل. قبل الحرب، أشارت استطلاعات الرأي إلى تراجع التأييد لحل الدولتين. وفي الانتخابات الأخيرة الكثيرة التي جرت في إسرائيل، نادرا ما ظهر هذا الحل كقضية مهمة في الحملة الانتخابية، وكثيرا ما تم تجاهله بالكامل.
ولكن الحال سيختلف في الانتخابات المقبلة، التي ستكون متركزة حول قضية حل الدولتين، ولكن ليس بالطريقة التي قد يرغب فيها المراقبون الخارجيون، فبعد أن أمضى بنيامين نتنياهو سنوات وهو يتظاهر بأنه مؤيد لحل الدولتين، خرج أخيرا من دغله (ولم يكن ذلك مفاجئا لأحد) كمعارض متحمس لما سماه "خطأ أوسلو". وها هو الآن يسعى إلى حشد كثير من الإسرائيليين الذين أصبحوا أكثر تشككا في فكرة أن إسرائيل يمكن أن تعيش جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية، في الوقت الذي يضغط فيه كثير من شركاء إسرائيل، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، للمساعدة في إعادة الشباب إلى السلطة الفلسطينية وإحياء محادثات السلام المتعثرة. 
وليس موقف نتنياهو بالجديد أبدا، ولكنه مع ذلك يفسر إلى حد كبير استراتيجيته للبقاء السياسي. ومع تراجع شعبيته، فإنه يأمل أن يتمكن من التعافي من خلال تصوير نفسه على أنه الشخصية الوحيدة القادرة على التصدي للضغوط الأميركية المتزايدة للعودة إلى مسار السلام. ولكي نكون واضحين، فهو لن يكون الزعيم الوحيد في إسرائيل الذي يعبر عن شكوكه أو معارضته الصريحة لقيام دولة فلسطينية– الأمر الذي يجعل تصريح يائير لابيد في مقابلته مع "المجلة" أكثر وضوحا. لكن نتنياهو سيقدم نفسه كزعيم عالمي صارم، لن يستسلم للضغوط الأميركية. وهذا يفسر جزئيا اللعبة التي يلعبها بالفعل، من خلال قول شيء ما للرئيس بايدن على انفراد، ثم قول العكس تماما في وقت لاحق علنا. ومن المؤكد أيضا أنه سينشر التوترات الكامنة بين إسرائيل والولايات المتحدة، بل وسيحاول الاستفادة منها، حيث يواصل وزراؤه تقديم خطط غير واقعية وغريبة لليوم التالي في غزة، بما في ذلك خطة لإعادة توطين جزء من سكان غزة على أرض مصطنعة (جزيرة)، أو تهجيرهم بشكل كامل. فهل يعتقد بيبي حقا أن ما يقوله يمكن تطبيقه أو ينبغي القيام به؟ لا يهم. فالهدف ليس إقناع الأميركيين والأوروبيين بأن إسرائيل لديها بديل قابل للتطبيق، أو أن تكون جدية في محاولة تصور الشكل الذي قد يبدو عليه "اليوم التالي" في غزة. الهدف هو التأكد من أن الجمهور الإسرائيلي يعرف أن هذه الحكومة لا تتنازل عن شبر واحد، ولا تستسلم للضغوط الأميركية.

من الطبيعي أن نتساءل عن الحكمة من انخراط إسرائيل في صراع مع أهم حليف لها. لقد أظهر الرئيس بايدن التزاما قويا بأمن إسرائيل، حتى على حساب مكانته السياسية الداخلية، كما رأينا في تراجع شعبيته بسبب إدارته لأزمة غزة. لكن الجواب واضح ومباشر: مصالح بيبي ليست مصالح إسرائيل، ولم تكن كذلك منذ فترة. ما يهم بيبي هو إظهار نفسه كخصم قوي لحل الدولتين، للتأكد من أن الحل الأكثر قبولا على نطاق واسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، سيظل بعيد المنال.

font change

مقالات ذات صلة