حرب غزة... تلاشي دور "معسكر السلام" في إسرائيل

تنامي صعود اليمين في الذكرى الـ 26 لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين على وقع الحرب في قطاع غزة

Péter Csuth
Péter Csuth

حرب غزة... تلاشي دور "معسكر السلام" في إسرائيل

تحاول إسرائيل الرسمية والشعبية والأكاديمية، وفي خط متواصل، الادعاء بأن ما حدث صباح السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو حدث استثنائي ومنقطع عما سبقه من أحداث، بحيث يتم تسويق ما قامت به "حماس" بوصفه خارجا عن سياق الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ إذ يتم تناول النجاح العسكري لـ"حماس" في تخطي حدود وقف إطلاق النار منذ عام 1949 وفشل الجيش والمخابرات في رصد التحضيرات والعبور، إلى محاصرة واحتلال مؤقت لمعسكرات تدريب ونقاط مراقبة إسرائيلية وبعض المستوطنات في غلاف غزة، كحدث مفصلي مقطوع عما سبقه من احتلال من جانب إسرائيل، ومقاومة من الطرف الفلسطيني.

ويزيد على ذلك هول الصدمة من أعداد الضحايا المدنيين في الجانب الإسرائيلي، وترافق ذلك مع عمليات تقتيل وخطف للمدنيين بشكل مؤثر جدا في الوعي الإسرائيلي، وحتى الوجدان اليهودي؛ فقد بات واضحا أن هنالك جهدا إسرائيليا لوصف عملية "حماس" من الناحية العسكرية كأكبر إخفاق عسكري في تاريخ إسرائيل، كما يتم تشبيه التعرض للمواطنين المدنيين بأنه "أكبر مذبحة ليهود في يوم واحد منذ الهولوكوست"، وتأكيد بأن ما قامت به "حماس" هو "الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإسرائيلي"، في إشارة إلى ضربات "القاعدة" ضد أهداف مدنية أميركية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وبالتالي القيام بدعاية متواصلة تصف "حماس" بأنها داعش، وتحاول بذلك تبرير التطهير العرقي والتهجير والحرب المرعبة التي تخوضها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول ضد المدنيين في قطاع غزة، وفي محاولة للوصول لما تسميه "القضاء على حماس"، وهذا طبعا بحاجة إلى معالجة منفصلة وموسعة.

اقرأ أيضا: حرب غزة... ستة تطورات تجب متابعتها

تحدي الفكرة الإسرائيلية حول قطع أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عما سبقها، هي مهمة جدية لمواجهة الدعاية الإسرائيلية 

تحدي الفكرة الإسرائيلية حول قطع أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عما سبقها، هي مهمة جدية لمواجهة الدعاية الإسرائيلية والتي تهدف إلى تبرير الحرب والجرائم المرتكبة ضد المدنيين. لكنها مسألة مهمة للتاريخ ولدراسة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. فالأحداث التي يمر بها الصراع، بما في ذلك هجوم "حماس" وتجاوزاتها ضد مدنيين إسرائيليين وقيام إسرائيل بجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين والمواجهة العسكرية مع "القسام"، و"سرايا القدس"، لا يمكن أن تفهم كحدث مقطوع عن السياق، والسياق هنا هو الأداة المهمة لفهم التصعيد من قبل "حماس" والرد الإسرائيلي غير المسبوق في استهداف المدنيين الفلسطينيين. كل هذا ونحن لا زلنا في خضم الحدث الذي يتفاقم يوميا.

معسكر السلام الإسرائيلي

هنا أود التعريج على سياق إسرائيلي مهم لفهم التصعيد الأخير والرد الشعبي الإسرائيلي على الحرب في غزة وغلافها. سوف أتناول ضمورا متواصلا منذ سنوات لما اعتيد على تسميته "معسكر السلام الإسرائيلي"، وأهمية ذلك في فهم التطورات التي أدت إلى أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومن ثم في فهم الدعم الإسرائيلي الشعبي والسياسي للانتقام من "حماس" أولا ومن أهل غزة ثانيا، بصفتهم من "وفروا حاضنة" لـ"حماس" ونشاطها خلال السنوات الأخيرة.

اصطلح على تسمية معسكر السلام لكل من دعا في إسرائيل للوصول إلى "حل سلمي" مع الفلسطينيين، وعلى الغالب تم التعبير عينيا عن هذا الموقف بالدعوة إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ودعم حل الدولتين، وتأييد "أوسلو" والدعوة لوقف الاستيطان الذي يعطل التسوية وطبعا الدعوة إلى وسيلة المفاوضات السلمية لأجل ذلك.

وعينيا يتم الحديث عن مجموعة من الحركات الشعبية مثل "السلام الآن" التي أقيمت في سياق الحرب على لبنان عام 1978، وحركة "توجد حدود" (يش غبول)، وجمعيات أهلية مثل "بتسيلم"، و"بمكوم"، وغيرهما. كما لعموم الأحزاب التي مالت إلى تبني مسألة الحل السلمي، وأعني بالأساس وإجمالا حزب العمل الإسرائيلي وحزب ميرتس، وحتى أحزاب وسط الخريطة السياسية مثل حزب الطريق الثالث، وحزب "أزرق- أبيض"، وحتى حزب "يش عاتيد" وغيرها. وكلها توجهات أو تيار غير متجانس في كثير من مواقفه، إلا أن ما يجمعها كلها هو حالة الضمور المتواصل منذ سنوات في نشاطها ووجودها إلى درجة اختفائها عن العمل على الصعيد الشعبي، حتى وصولها في غالبيتها إلى حالة الصمت التام وفقدان أي صوت يعارض ما قامت به إسرائيل منذ نهاية "أوسلو" في أعقاب قمة كامب ديفيد بين عرفات وباراك عام 2000، وما تلا ذلك من تصعيد متواتر، والذي يشكل أرضية مهمة لفهم التطورات الأخيرة.

Reuters
وقفة في تل أبيب تضامنا مع الرهائن من المدنيين والأسرى من الجنود الإسرائيليين الذي اختطفتهم "حماس"، 2 نوفمبر 2023

إن حركة "السلام الآن" وهي الأكثر شعبية بين الحركات خارج البرلمان ونشطت في ثمانينات القرن الماضي، اختفت تماما من المشهد، بعض الجمعيات والحركات الصغيرة اختفت، وبعضها ينشط بشكل محدود، لكنه مهم للغاية، وأعني مثلا "بتسيلم" التي ترفع صوتا واضحا ضد التصعيد الأخير وهي التي نشرت قبل ثلاث سنوات تقريرا يفيد بتحول إسرائيل إلى نظام آبرتهايد، داخل وخارج الخط الأخضر أو نشاط حركة "نقف معا" (عومديم ياحد) اليهودية- العربية ضد الاحتلال والتضيييق وملاحقة الفلسطينيين. لكن التعبير الأقوى لضمور معسكر السلام الإسرائيلي هو تراجع الدعم الشعبي لأحزاب كانت تشكل حتى قبل سنوات عمودا فقريا مركزيا لمعسكر السلام، وأعني تحديدا حزب العمل الذي مثل قطاعا واسعا من "مؤيدي التسوية" منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، وحزب ميرتس اليساري الذي شكل رافدا مهما وصوتا مهما في دعم مساعي التسوية مع الفلسطينيين.

اقرأ أيضا: حول سراب "المناطق الآمنة" في غزة

حزب العمل الذي حصل في انتخابات عام 1992، وبقيادة إسحاق رابين، على 43 مقعدا في الكنيست، ومكنه ذلك بالاتفاق مع حزب ميرتس الذي حصل على 13 مقعدا آنذاك من تشكيل حكومة أيدتها من الخارج الأحزاب العربية– الجبهة الديمقراطية، والحزب العربي- ومكنتها من تشكيل حكومة يسار تمثل معسكر السلام، ومن ثم إجراء مفاوضات مع منظمة التحرير والاعتراف بها وإقامة السلطة الوطنية وانتقال مركز القيادة الفلسطينية من تونس إلى غزة ورام الله.

بعد تلك الانتخابات، وخصوصا في أعقاب وصول شارون لرئاسة الوزراء في إسرائيل عام 2001، تراجع التأييد لحزب العمل ولحزب ميرتس، وظهرت أحزاب وسط منافسة لهما في إسرائيل، مثل حزب كاديما، وحزب يش عاتيد، وحزب أزرق- أبيض، وحزب الوحدة الوطنية، الذي يقوده الجنرال بيني غانتس. فقد واصل الحزبان (العمل وميرتس) الضمور تدريجيا في العقدين الأخيرين، حتى وصلا إلى الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. بحيث اختفى تمثيل حزب ميرتس في الكنيست، وحصل حزب العمل بعد جهد كبير على أربعة مقاعد، تمثلها مجموعة مغمورة وغير مؤثرة من أعضاء الكنيست. فما الذي أدى إلى هذا التراجع والضمور؟

من المهم القول إجمالا إن حالة تراجع معسكر السلام في إسرائيل هي الوجه الآخر لصعود اليمين في إسرائيل

من المهم القول إجمالا إن حالة تراجع معسكر السلام في إسرائيل هي الوجه الآخر لصعود اليمين في إسرائيل، وبالتالي فلا يمكن تحليل هذا التراجع بغير الإشارة إلى عوامل ازدياد قوة اليمين، وفي الحالتين فإننا نتحدث عن أسباب ديموغرافية، واجتماعية في جوهرها تقع تغييرات ديموغرافية حسبها تراجع في نسبة اليهود الغربيين والأشكناز في المجتمع الإسرائيلي، وهم كانوا عمادة دعم أحزاب "معسكر السلام"، ولكن الأمر يرتبط بعدم وضوح الرؤيا لمستقبل إسرائيل والصراع مع الفلسطينيين لدى هذه الأحزاب، وعدم وجود قيادات فعالة لديها، وكما تراجعت العملية السلمية برمتها وتعميق عدم ثقة الإسرائيلي المتوسط بأية تسوية ممكنة مع الفلسطينيين.

وهي نقاط القوة نفسها لدى اليمين الإسرائيلي، المستفيد من التغييرات الديموغرافية وزيادة نسبة الشرقيين والروس والمتدينين في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك وجود تصور واضح لحل القضية الفلسطينية من خلال التسليم بوجود سلطة فلسطينية محدودة القوة والحكم في مدن الضفة الغربية وضم فعلي لمناطق "ج" إلى السلطة الإسرائيلية، ووجود قيادة كريزماتية يقف على رأسها بنيامين نتنياهو، وخطاب يشكك بالفلسطينيين ويلصق بهم تطلعا دائما لـ"محو إسرائيل"، وحتى "إبادة اليهود"، خطاب يزرع عدم الثقة بهم وبقياداتهم، وكل ذلك في أجواء عالمية وتغييرات اقتصادية وثقافية تشجع الميول القومية وتعتبرها مقدسة وأهم من أي تطلع نحو السلام أو تعزيز القيم الإنسانية المبنية على الانفتاح والحوار.

تراجع شعبية معسكر السلام

وعودة إلى سياق الصراع إجمالا والمواجهة الحالية في غزة تحديدا. بعكس الخط الدعائي الإسرائيلي في فصل أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول عما سبقها، وهذا لتضليل الرأي العام وتبرير الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين عموما وأهل غزة بشكل خاص، وهذا صحيح لكل الجوانب ذات الصلة بالصراع المتفجر، وهو كذلك صحيح لسياق تداعي معسكر السلام الإسرائيلي والذي يفيد فهمه لكي نفهم ما حصل في صبيحة السبت، السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ إن تراجع هذا المعسكر شعبيا ومؤسساتيا ورمزيا، هو ما مكن اليمين من التمادي أكثر وأكثر في الاعتداء على الفلسطينيين، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك اعتداءات قبل تراجع هذا المعسكر أو عندما كان في الحكم.

اقرأ أيضا: الحكومات الغربية ومقابر الأطفال في غزة

وفي حيثيات الحرب على غزة، فإن "حماس" وباقي الفصائل، ومن خلال كل المتحدثين باسمها، وخلال السنوات الأخيرة، ساقت تفاقم سياسات حكومات اليمين الإسرائيلي وانسداد أي أفق لأية تسوية منطقية عموما، وتحديدا زيادة الاعتداء على الأقصى والتنكيل بالأسرى وجرائم المستوطنين واعتداءاتهم في الضفة ومحاصرة غزة وتقنين دخول المواد التموينية الأساسية، وغيرها الكثير، كأسباب لتفجر الوضع وخروج قوات مسلحة فلسطينية.

Reuters
فلسطينيون في منطقة سكنية دمرتها غارة إسرائيلية في خان يونس بجنوب قطاع غزة، 4 نوفمبر 2023

والأمر صحيح للرد الإسرائيلي الشعبي تجاه استهداف المدنيين في غزة والضفة الغربية وحتى التضييق على حرية التعبير عند الفلسطينيين داخل الخط الأخضر؛ فمراقبة ما يحصل تفيد بأن الصدمة أصابت كل الإسرائيليين، وبأن التطلع للانتقام من "حماس" والغزيين وعموم الفلسطينيين أخذ مسار الإجماع الكامل تقريبا، عدا أصوات هنا وهناك.

وحتى بعض النشطاء المركزيين من اليسار غير الصهيوني أو يسار الصهيونية والذين كنت شخصيا على تواصل معهم لسنوات، يعتبرون الآن القضاء على "حماس" هدفا سابقا لأية هدنة أو إيقاف لإطلاق النار، وبالتالي يسكت عن القتل والتنكيل والمضايقات بحق الفلسطينيين عموما، وأهل غزة المدنيين بشكل خاص.

حتى بعض النشطاء المركزيين من اليسار غير الصهيوني أو يسار الصهيونية يعتبرون الآن القضاء على "حماس" هدفا سابقا لأية هدنة أو إيقاف لإطلاق النار 

كما أن معسكر السلام غير قادر فكريا في ظل هذه الأزمة على أن يبرر توجهه ويعتبر توجهات اليمين هي من قادت لهذه الحالة، بل يقوم بجلد نفسه بدلا من نقد اليمين وفكره وطريقه.

أستطيع الجزم بأن هذه الحالة غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، وتفيد بأن ما تبقى من هوامش "معسكر السلام" حتى مساء السادس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحول إلى جزء من إجماع وطني شامل يتطلع إلى الانتقام، مهما كان الثمن الإنساني الذي يدفعه الغزيون خصوصا، وعموم الفلسطينيين إجمالا. وهذه حالة تستحق التمعن، خلال المواجهة الحالية في غزة وتفاقم الوضع الإنساني والقتل والتدمير في غزة، وبالتأكيد فإن الأمر سيمتد لسنوات قادمة، من الصعب توقع تغييرها، والعودة ولو تدريجيا إلى وضع إسرائيلي يسمح بإعادة نقاش جدي حول إنهاء الاحتلال والتسوية السياسية، مما يتطلب تفكيرا فلسطينيا جديا في هذا الواقع الذي تطور خلال عقود وتفاقم في الأسابيع الأخيرة.

font change

مقالات ذات صلة