حول سراب "المناطق الآمنة" في غزة

لا مكان آمنا في غزة

Majalla
Majalla

حول سراب "المناطق الآمنة" في غزة

"لا مكان آمنا في غزة"، هكذا عنونت صحيفة "واشنطن بوست" خبرها الرئيس يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول، وهي تصف حملة القصف التي تنفذها إسرائيل ردا على هجوم "حماس" قبل 10 أيام. وجاء العنوان بعدما تناقلت الأخبار أن المناطق الواقعة جنوب نهر غزة تعرضت مرارا للقذائف الإسرائيلية على الرغم من إشارة السلطات إلى أنها ستكون آمنة من الهجوم، حين أمرت إسرائيل عشية القصف بإخلاء مدينة غزة، وأصر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على أن يغادر السكان- الذين يزيد عددهم على مليون نسمة- بيوتهم، ويتوجهوا "جنوبا إلى مناطق آمنة". ولكن من بين أكثر من 5000 شخص قتلوا في غزة منذ بداية الحرب، فإن مئات القتلى سقطوا في تلك "المناطق الآمنة" جنوبي غزة، على الرغم من التأكيدات الإسرائيلية.

لقد ضغط وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على إسرائيل، خلال جولته الأخيرة في المنطقة لإنشاء مناطق آمنة في غزة واحترامها، ولكن الهجمات المستمرة على الجنوب تشير إلى أن مناشداته المتكررة لم تلقَ أذنا صاغية في إسرائيل. ومع ذلك، لم تتوانَ الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض علنا ضد قرار لمجلس الأمن الدولي يدعو إلى هدنة إنسانية وإنشاء ممرات آمنة في غزة، على الرغم من هذه الجهود الخاصة.

ومن بين صعوبات إقامة منطقة آمنة أنه مفهوم يسهل اختراقه. فقد ترى إسرائيل أن الجنوب "آمن" نسبيا، لأن معظم القواعد الإسرائيلية سقطت شمال نهر غزة، مع أن من الواضح أن بعض المناطق الجنوبية قصفت وكانت النتائج مميتة. وعلى الطرف الآخر من المقياس، فمن يطالبون في الأمم المتحدة وغيرها بإنشاء "منطقة آمنة" أو "ممر إنساني" يريدون شيئا أكثر صرامة يجبر إسرائيل على ضمان عدم قصف أي منطقة داخلها. إلا أن التجارب في أماكن أخرى من الشرق الأوسط وغيره أظهرت الصعوبات والتحديات التي تواجه إنشاء مثل هذه المناطق، إذ لا بد أن تكون الظروف الإقليمية والدولية مناسبة، ومع ذلك، فإن نجاحها أمر ملتبس، حتى لو حدث ذلك.

"المنطقة الآمنة" في التاريخ

ليست المناطق الآمنة في الصراع أمرا جديدا؛ فخلال الحرب الفرنسية البروسية عام 1870م، حث هنري دونان، مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، المقاتلين على تحديد مدن معينة في منطقة الحرب بوصفها "أماكن آمنة" أو "محايدة". وعلى الرغم من تجاهل المتحاربين في أوروبا الغربية وقتها لطلب دونان، فإن فكرة المناطق التي يعترف بها الجانبان كملجأ لغير المقاتلين أو للجرحى الذين يتماثلون للشفاء بدأت تلاقي قبولا متزايدا؛ فعلى سبيل المثال، عرفت الحرب الأهلية الإسبانية مناطق آمنة كملجأ أواخر الثلاثينات.

وبعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يوضع فيها أي تقليد بشأن إقامة مناطق آمنة، أعدت الأمم المتحدة الجديدة معاهدة جنيف الرابعة، المصممة لحماية المدنيين أثناء الحرب. وتنص المادة 14 منها على أنه يمكن للمقاتلين إنشاء "مستشفيات ومناطق آمنة" معدة لحماية المستضعفين المعرضين للخطر، وتضيف أنه "يجوز للأطراف المعنية أن تعقد عند نشوب نزاع وخلاله اتفاقات فيما بينها للاعتراف المتبادل بالمناطق والمواقع التي تكون قد أنشأتها. جوهر الأمر أن كلا من طرفي القتال ملزم بالموافقة على احترام المناطق الآمنة لكل منهما لكي تكون مجدية. وقد أصاب إنشاء مثل هذه المناطق بعض النجاح من خلال الاعتراف المتبادل في الصراعات أثناء الحرب الباردة، كما هو الحال في فيتنام وقبرص، ولكن في حالات أخرى مثل كمبوديا، سرعان ما انهارت المناطق المحايدة المتفق عليها.

لقد شهدت فترة التسعينات تطورا في فكرة "المنطقة الآمنة"، حيث بدأت قوى خارجية- وليس المتحاربون أنفسهم- تعمل على نحو متزايد من أجل فرض احترام اللاجئين الفارين من النزاع. ومن أشهر تلك الأحداث ما حدث في شمال العراق عام 1991. فبعد هزيمة صدام حسين في حرب الخليج، انتفض العراقيون، بتحريض من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، على الديكتاتور العراقي، ولكنهم عندما انتفضوا، لم يجدوا الدعم الغربي الذي وعدوا به، بل وجدوا، عوضا عن ذلك، نظام البعث يشن عليهم حملة قمع انتقامية، وتخلى الرئيس بوش عن المتمردين، ومعظمهم من الشيعة وتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، أما في الشمال فاتخذت إدارته إجراءات لحماية الأكراد. وبعد أن استخدم صدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين الأكراد عام 1988، شعر القادة الغربيون بالقلق من أن المصير نفسه ينتظر البقية من دون الحماية. ونتيجة لذلك، أنشأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا "منطقة حظر للطيران" شمالي خط العرض 36، وهو ما منع القوات العسكرية العراقية من قصفها أو حتى دخولها في نهاية المطاف.

رغم أن المنطقة الآمنة في شمال العراق لم تكن بتفويض من الأمم المتحدة، إلا أن مجلس الأمن وافق على منطقة حظر جوي مماثلة، فرضها الناتو، فوق البوسنة

v

ورغم أن المنطقة الآمنة في شمال العراق لم تكن بتفويض من الأمم المتحدة، إلا أن مجلس الأمن وافق على منطقة حظر جوي مماثلة، فرضها الناتو، فوق البوسنة في الفترة الممتدة من 1993 إلى 1995، لمنع الأطراف المتحاربة هناك من شن غارات جوية عليها. وأنشأت أيضا ستا من "المناطق الآمنة" في جميع أنحاء البوسنة، قصد منها أن تكون ملاجئ، على الرغم من أن المسلحين الصرب والبوسنيين انتهكوها مرارا. والواقع أن وضع سربرنيتسا كمنطقة "آمنة" منزوعة السلاح لم يُجْدِ نفعا في منع مذبحة الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها 8000 من الرجال والأطفال المسلمين البوسنيين هناك عام 1995.

ديناميات القوة العالمية

أظهر سجل المناطق الآمنة الملتبس في الصراع البوسني أنه حتى عندما كان المجتمع الدولي قادرا على الإجماع على إجبار أطراف القتال على احترام المناطق المحايدة، فإن ذلك لم يكن ضمانا لنجاحها. لكن حتى هذا الإجماع الخارجي كان نادرا. لقد نشأت المناطق الآمنة في شمال العراق والبوسنة في حقبة فريدة من التاريخ الحديث كانت فيها الولايات المتحدة قوة عالمية لا ند لها شكلت "لحظة القطب الواحد". ومع اختفاء الاتحاد السوفياتي من المشهد وعدم بلوغ الصين وروسيا مرحلة تحدي الهيمنة الأميركية، تمكنت واشنطن من التأثير الى حد كبير على "المجتمع الدولي" كما تريد. وهذا يعني أن الولايات المتحدة وحلفاءها الرئيسين، بريطانيا وفرنسا، استطاعوا أن يفرضوا منطقة حظر للطيران في العراق على الرغم من غياب تفويض الأمم المتحدة وغياب أي اعتراض كبير، مع أن الأمين العام آنذاك بطرس بطرس غالي أعلن أنها "غير قانونية". وبعد مرور عام، حققت الولايات المتحدة وحلفاؤها نجاحا أكبر في الأمم المتحدة في الضغط من أجل إنشاء مناطق آمنة في البوسنة، واجهت اعتراضات أقل من المنافسين الدوليين.

الولايات المتحدة التي استخدمت حق النقض في الأمم المتحدة كما رأينا مؤخرا، لا تبدو راغبة في إنشاء منطقة آمنة

ولكن التراجع النسبي في قوة الولايات المتحدة وظهور منافسين لها في بكين وموسكو منذ ذلك الحين أديا إلى تحول في الجغرافيا السياسية إلى نظام متعدد الأقطاب، فتأثر بذلك احتمال أن تفرض القوى الخارجية مناطق آمنة.

يمكن القول إن تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عام 2011 كان لحظة مهمة، ولكنه كان أيضا لحظة تحول في هذه الممارسة؛ فما مثله معمر القذافي، كصدام حسين من قبله، من تهديد قد يلحق الدمار بشعبه المتمرد عليه، دفع الدول الغربية والعربية إلى توحيد جهودهما للتصويت على قرار الأمم المتحدة رقم 1973 الذي قضى بفرض منطقة حظر للطيران فوق ليبيا. ومع أن الصين وروسيا أيدتا هذه الجهود، إلا أنهما شعرتا فيما بعد بأن تحالف الناتو تجاوز صلاحياته بكثير، حيث تدخل في الحرب الأهلية للإطاحة بالقذافي بدلا من الاكتفاء بحماية المدنيين. وبعد ذلك، أصبحت روسيا والصين أكثر حزما في الشؤون الدولية، واعترضتا بشكل متزايد على "المناطق الآمنة" المقترحة، خاصة عندما بدا أن هذه المناطق تعزز الأجندة الغربية.

وقد ظهر ذلك على نحو واضح في الصراع السوري، عندما استخدمت بكين، وخاصة موسكو، حق النقض ضد قرارات الأمم المتحدة التي تنتقد حليفهما الرئيس بشار الأسد خوفا من إنشاء "منطقة آمنة" أخرى على غرار ليبيا. وما يثير السخرية أن ينتهي الأمر بروسيا إلى الاستيلاء على مفهوم "المنطقة الآمنة" لتحقيق أهدافها الخاصة؛ ففي عام 2017، في اجتماعات آستانه التي شاركت فيها موسكو مع تركيا وإيران في سوريا، اقترحت روسيا كجزء من "عملية السلام" في سوريا "مناطق خفض التصعيد" في أربعة أجزاء يسيطر عليها المتمردون في سوريا.

وقد شهدت هذه الاتفاقات، التي وافقت عليها أنقرة وطهران، انتهاء القتال العنيف وانخفاض عدد الضحايا في البداية. إلا أن روسيا وإيران والأسد استغلوا ببساطة توقف القتال لإعادة تجميع صفوفهم ثم شنوا هجمات عسكرية للسيطرة على اثنتين من المناطق الأربع، بينما اشترت المتمردين في منطقة ثالثة بوعود بالمصالحة. وبقيت منطقة إدلب الوحيدة في أيدي المتمردين، وحتى ذلك الحين، استولى الأسد بالعنف على أكثر من ثلث الأراضي التي صنفت بالأساس على أنها "منخفضة التصعيد". ولم يتخذ المجتمع الدولي، على الرغم من كلمات الإدانة، أي إجراء آخر لمعاقبة موسكو أو دمشق لانتهاكهما كلمتهما. وأظهرت روسيا والأسد حقيقة المناطق الآمنة في عالم متعدد الأقطاب؛ فمن يرغب- دون ضامن خارجي- في الدفاع عنها، حيث إن سلامتها تعتمد على مصداقية وحسن نية الأطراف المنخرطة في النزاع.

غزة تحت النار

 هذا السياق الذي عرضناه مهم لفهم أي حديث عن "المناطق الآمنة" في غزة اليوم، ولإدراك أن فرصة أن تفرض قوى خارجية مثل هذه المناطق ضئيلة للغاية؛ فلسنا نعيش في عصر تستطيع فيه الولايات المتحدة، أو أي قوة عالمية أخرى بالطبع، أن تحشد المجتمع الدولي لصالح أجندتها، أو تفرض نفسها بدلا من ذلك من جانب واحد على الصراع دون أن تواجهها أي مقاومة كبيرة.

علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة التي استخدمت حق النقض في الأمم المتحدة كما رأينا مؤخرا، لا تبدو راغبة في إنشاء منطقة آمنة، أو على الأقل لا تريدها بما يكفي لفرضها ضد مشيئة حليفتها إسرائيل. وعلى الرغم من ضغوطها الخاصة التي تمارسها إدارة بايدن على إسرائيل للنظر في إمكانية وصول المساعدات الإنسانية والمناطق الآمنة، إلا أنها اختارت في نهاية المطاف أن تدافع عن حليفتها ضد محاولات الدول الأخرى للضغط على إسرائيل بشأن المناطق الآمنة في الأمم المتحدة. وقد أظهرت الصراعات الماضية أن هذه الممارسة هي الممارسة المعتادة للولايات المتحدة، مما يزيد من احتمال عجز الأمم المتحدة على دفع إسرائيل بخلاف إرادتها.

 لذا يبدو أن نجاح المنطقة الآمنة في غزة يعتمد في المقام الأول على استعداد إسرائيل لإنشائها هي واحترامها بنفسها، كما اقترحت هي في البداية. وقد تجادل إسرائيل بأن "حماس"، وهي منظمة إرهابية من وجهة نظرها، لم تحترم المدنيين الإسرائيليين أو "المناطق المحايدة" عندما هاجمتها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فما من ترتيبات متبادلة يمكن اتخاذها حسب معاهدة جنيف الرابعة. ويمكن أن تضيف أيضا أن اتفاقية جنيف معدة لتنظيم الصراعات بين الدول، وبما أنها تحارب الإرهابيين، فهي لا تخضع للقوانين نفسها. وقد طرح بعض الساسة الأميركيين حججا مماثلة دفاعا عن بعض أنشطة واشنطن خلال الحرب على الإرهاب. علاوة على ذلك، ومع تقديم الولايات المتحدة لإسرائيل ولاء وحماية لا يرقى لهما أي شك، فليس مرجحا كما يبدو أن تسمح إسرائيل لتفسيرات معينة للقانون الدولي بأن تملي عليها نهجها في التعامل مع غزة.

AFP
عمود من الدخان يتصاعد في سماء مدينة غزة خلال غارة جوية إسرائيلية في 9 أكتوبر، 2023

في الوضع الحالي، يبدو من غير المرجح أن يتم إنشاء مناطق آمنة ثابتة ويمكن الاعتماد عليها، حيث لا يبدو أن أحدا يميل إلى إجبار إسرائيل على القيام بذلك. والقانون الدولي إما غامض للغاية وإما غير كاف لدفع رئيس الوزراء نتنياهو إلى إعادة النظر في هذه المسألة. لكن هذا الوضع قد يتغير إذا تغيرت حسابات إسرائيل.

وإذا استمرت الخسائر البشرية في صفوف الفلسطينيين في الارتفاع. قد يؤدي ذلك إلى تحول في الرأي العام العالمي. على الرغم من أن الحكومات الإسرائيلية كانت تاريخيا مقاومة للرأي العام العالمي أثناء النزاعات، إلا أن الاحتجاجات الدولية أثرت، في بعض الأحيان، على الرأي العام في إسرائيل، مما أدى بدوره إلى الضغط على السلطات لتغيير موقفها. وفي الوقت الحالي، ومع استمرار تصاعد المشاعر في أعقاب الهجمات التي شنتها "حماس"، فإن مثل هذا التحول في الرأي العام الداخلي في إسرائيل قد يبدو غير مرجح، على الرغم من أن بعض الأصوات المعارضة بدأت في الظهور. وأخيرا، قد تنشأ مناطق آمنة قوية وآمنة حقا، غير أن الآفاق لا تبدو واعدة في الوقت الحالي.

font change

مقالات ذات صلة