حرب غزة... الولايات المتحدة بلا استراتيجية تجاه إيران

خطر التصعيد الإقليمي وفتح إيران جبهة أخرى ضد إسرائيل

حرب غزة... الولايات المتحدة بلا استراتيجية تجاه إيران

لعل مصدر القلق الرئيس لواشنطن فيما يتعلق بالهجوم البري الإسرائيلي ضد "حماس" في غزة هو خطر التصعيد الإقليمي وفتح إيران جبهة أخرى ضد إسرائيل، الأمر الذي قد يجر الولايات المتحدة إلى الحرب.

صحيح أن الولايات المتحدة أبلغت طهران بعواقب المزيد من التدخل الإيراني في الصراع، كما قامت بنقل أصول عسكرية إضافية إلى المنطقة لتعزيز مصداقية تهديداتها، ولكن هذا لم يمنع إيران من التنسيق مع كثير من وكلائها الإقليميين– في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن– فيما يتعلق بهجمات ضد إسرائيل والمنشآت العسكرية الأميركية في المنطقة.

وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول، قال مسؤولو البنتاغون إن أهدافا أميركية في سوريا والعراق تعرضت لهجوم بطائرات دون طيار وصواريخ 23 مرة على الأقل في نحو أسبوعين. وقتل مقاول أميركي وأصيب 24 جنديا نتيجة لذلك. وفي اليوم التالي، قال الحوثيون في اليمن إنهم أطلقوا طائرات دون طيار وصواريخ باليستية باتجاه إسرائيل، غير أن إسرائيل قالت إنها أصابت "هدفا جويا" قبالة مدينة إيلات المطلة على البحر الأحمر. وفي هذه الأثناء، يتبادل "حزب الله" والجيش الإسرائيلي إطلاق النار القاتل عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

ولمحاولة إجبار إيران على احتواء الصراع، أمر الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي بضربتين جويتين ضد أهداف في شرق سوريا. وفي الأسبوع الذي سبق ذلك، اعترضت سفينة بحرية أميركية في البحر الأحمر صاروخا بعيد المدى أطلقه الحوثيون باتجاه إسرائيل.

وبات من الواضح الآن أن الولايات المتحدة لم تنجح في منع إيران من تفاقم الوضع في غزة واستخدام الأزمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ومن الواضح أيضا أن الاعتماد على الردع فقط ليس استراتيجية قابلة للتطبيق، ولكن كذلك في يوم من الأيام. ولا يرجع فشل الردع الأميركي ضد إيران إلى ضعفه المتأصل، بل لأن واشنطن لم تدمج الردع بشكل فعال في استراتيجية أكثر شمولا فيما يتعلق بإيران. وتشكل أزمة غزة الأخيرة أحدث مثال على هذا القصور.

لمحاولة إجبار إيران على احتواء الصراع، أمر الرئيس الأميركي جو بايدن بضربتين جويتين ضد أهداف في شرق سوريا

وطبيعي أن لا يكون التوصل إلى استراتيجية بشأن إيران سهلا عندما تكون الولايات المتحدة عازمة العقد على تخفيف تركيزها على المنطقة بأكملها وإيلاء اهتمام أكبر لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع تخصيص موارد أكبر لتلك المنطقة. ويزيد من صعوبة ذلك أن القائد الأعلى للقوات المسلحة في خضم حملة إعادة انتخابه. وأخيرا، من الصعب التوصل إلى استراتيجية إيرانية بينما يجري إطلاق النار في إسرائيل وفلسطين ويلوح في الأفق شبح حرب أكبر.

ولكن الواقع يحتم على أميركا أن يكون لها مثل هذه الاستراتيجية، أو على الأقل أن تبدأ في التفكير في التعامل مع التحدي الإيراني بما يتجاوز الضربات الأميركية التي لا تفعل شيئا سوى تشجيع طهران ومحورها الإقليمي. واسمحوا لي أن أكون واضحا تماما: أنا لا أدعو إلى حرب أميركية ضد إيران، ولكنني أقترح نهجا يعتمد أكثر على الاستراتيجية ويعالج التحدي الإيراني بمجمله وليس بتفصيلاته.

AFP
صورة تم التقاطها من جنوب إسرائيل تظهر مروحية عسكرية إسرائيلية تطلق قنابل مضيئة فوق قطاع غزة في 1 نوفمبر، 2023

تدرك الولايات المتحدة الحجم الهائل للمشكلة التي تشكلها شبكة الوكلاء الإقليمية لإيران على المنطقة ككل، وعلى شركاء الولايات المتحدة ومصالحها أيضا. ومع ذلك، فقد اختارت أن لا تفعل الكثير حيال ذلك خوفا من الاضطرار إلى خوض حرب ضد إيران. وقد يكون خوف الولايات المتحدة من التصعيد مفهوما من وجهة نظر سياسية، إلا أنه على وجه التحديد السبب وراء نجاح إيران في بناء قوس مبهر من النفوذ على مر السنين والذي أدى إلى تخريب كل المحاولات الأميركية لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

لا تستطيع المنطقة الانتظار حتى ينتهي موسم الانتخابات الأميركية، بل ينبغي أن تكون عناصر الاستراتيجية الجديدة تجاه إيران واضحة الآن. ويجب على البيروقراطية الأميركية أن تبدأ العمل على هذا الأمر الآن. ولا شك في أن ذلك سوف يستغرق بعض الوقت للتوصل إلى إجماع سياسي بشأن الاستراتيجية وتطويرها وضبطها بشكل كامل، ولكن هذا بالضبط هو ما يجعل من الضروري عدم التأخر في ذلك.

لكي تنجح أي استراتيجية، يجب أن تكون مبنية على هدف استراتيجي واضح أو مجموعة من الأهداف. الهدف النهائي للولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران هو إحداث تغيير ملحوظ ودائم في السلوك الإيراني مع تجنب صراع عسكري واسع النطاق. إنه توازن صعب، على أقل تقدير، ولكن يجب على واشنطن أن تفعل كل ما في وسعها لتحقيقه.

قد يكون خوف الولايات المتحدة من التصعيد مفهوما من وجهة نظر سياسية، إلا أنه على وجه التحديد السبب وراء نجاح إيران في بناء قوس مبهر من النفوذ على مر السنين 

يمكن للولايات المتحدة أن تختار استراتيجية الاحتواء، على غرار الطريقة التي تعاملت بها مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن واشنطن- كما يجادل البعض- قد حاولت تغيير هذا النهج في الماضي دون نجاح كبير. ونظرا للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، فقد يكون من الأنسب النظر في استراتيجية الرد، وقد ناقشت إدارة ترمب ذات يوم مفهوم الرد على إيران وفرضت عقوبات على النظام الإيراني، لكنها فشلت في وضع استراتيجية متماسكة لذلك.

والرد الحقيقي يجب أن يبنى على نهج أكثر حزما لتحدي إيران، ولا سيما في المناطق التي تحاول طهران توسيع نفوذها، وحيث تتعرض المصالح الأميركية للخطر. وينبغي لهذا النهج أن يأخذ في الاعتبار مشاركة مباشرة أكبر للولايات المتحدة في مواجهة إيران. وكي أوضح الفكرة؛ لا يعني هذا بالضرورة أن الولايات المتحدة ستتصرف من جانب واحد أو ستصعد إلى حرب برية في الشرق الأوسط من خلال نشر عدد كبير من الجنود الأميركيين للتعامل مع قوات الحرس الثوري الإسلامي المنتشرة إقليميا والميليشيات الشيعية، بل يجب، عوضا عن ذلك، أن تكون مصحوبة بزيادة الاستثمار في القدرات التي تمكن الجيش الأميركي من العمل في المناطق الرمادية والتصدي بفعالية لأسلوب الحرب المفضل لدى إيران.

علاوة على ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تفكر في تخفيف قواعد الاشتباك الخاصة بها في الخليج، وتشجيع السفن البحرية الأميركية على عدم التراجع أمام الاستفزازات الإيرانية، وإنفاذ قانون البحار وحرية الملاحة بقوة أكبر، والوقوف بحزم عندما تشارك السفن البحرية الإيرانية في أي سلوك غير مهني وخطير.

ويمكن أن يتضمن الرد فوق ذلك إجراءات أكثر حزما لتقويض حلفاء إيران في المنطقة، مثل نظام الأسد و"حزب الله" و"حماس"، بل يمكن أن يستلزم الأمر خلق سبل مبتكرة لفرض عقوبات على إيران أو فرض تكاليف مالية إضافية على البلاد.

ومن المرجح أن يتطلب ذلك الرد دعم شركاء الولايات المتحدة الإقليميين الذين يتعرضون لضغوط من إيران، مع التركيز على تمكين الإصلاح الدفاعي، ومن شأن ذلك أن يعزز علاقات الولايات المتحدة مع الشركاء الإقليميين الذين ينتابهم القلق من سلوك إيران ويشجعهم على زيادة التعاون في مختلف القضايا، ناهيك عن التزامات أكثر جوهرية.

يمكن للولايات المتحدة أن تفكر في تخفيف قواعد الاشتباك الخاصة بها في الخليج، وتشجيع السفن البحرية الأميركية على عدم التراجع أمام الاستفزازات الإيرانية

وفي النهاية، فإن هذا الرد قد يعزز قدرة الجيش الأميركي لمواجهة التحديات العسكرية المعاصرة والمستقبلية، والتي يمكن أن تشمل على الأغلب حربا معقدة وهجينة، ولعل ذلك قادر على أن يوفر للمخططين الاستراتيجيين ومسؤولي السياسة الدفاعية في البنتاغون الفرصة للتكيف مع مختلف المواقف العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم، مما يجعلها أكثر ديناميكية ومرونة وقدرة على التصدي بفعالية لتحديات الحرب الهجين.

من المهم أن نلحظ طبعا أن الرد لن يكون بالمجان ولن تكون المقاومة نزهة، بل ستأتي مصحوبة بتكاليف مالية ومخاطر عسكرية، قد تنطوي على عشرات المليارات من الدولارات على مدى عدة سنوات لحرب غير متكافئة، وعمل سري، وعقوبات أشد صرامة، إذا نسينا توسيع المساعدات العسكرية للشركاء الإقليميين وعمليات تحقيق الاستقرار. وقد تدفع مثل هذه السياسة القوية طهران أيضا إلى تحدي بعض جوانبها؛ وبخاصة في المرحلة الأولى من تنفيذها. ويمكن لهذا أن يؤدي إلى تصعيد التوترات بسرعة كبيرة، فيشجع إيران على تصعيد حملتها لزعزعة الاستقرار، بل ويؤذي الولايات المتحدة في الأماكن التي لديها فيها مصالح حيوية، مثل العراق والخليج.

Reuters
أشخاص يحملون جثة فلسطيني بالقرب من موقع الغارات الإسرائيلية على المنازل في مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة، 1 نوفمبر 2023

لكن هذه التكاليف المالية والمخاطر العسكرية تستحق أن نخوضها لأن البديل– أي السماح لإيران بنشر نفوذها المزعزع للاستقرار والسيطرة على المنطقة– سيكون أسوأ بكثير.

ستنتهي حرب إسرائيل الحالية في غزة ذات يوم، ولكن ما دامت إيران موجودة هناك، وتوفر المال والأسلحة والتدريب لوكلائها، وما دامت واشنطن خالية من استراتيجية لمواجهة أسلوب إيران، فسوف تبرز "حماس" أخرى أكثر قوة، وسوف ينشأ صراع جديد وربما أكثر دموية.

font change

مقالات ذات صلة