مصر ترفض خطة ترحيل سكان غزة... وأسبابها وجيهة

أسباب أمنية وضغوط اقتصادية

مصر ترفض خطة ترحيل سكان غزة... وأسبابها وجيهة

هنالك من يأمل أن تقبل مصر أموالا في مقابل السماح بنقل سكان قطاع غزة إلى سيناء، سوى أن هذه التوقعات بعيدة جدا عن الواقع.

صحيح أن مصر تمر بأزمة مالية طاحنة. وهي تكافح من أجل سداد ديونها وجمع العملات الأجنبية اللازمة لاستيراد المواد الغذائية، وخاصة الحبوب، لشعبها، وصحيح أيضا أن تضخم أسعار المستهلكين وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، مما يلقي بظلاله على القوة الشرائية لعشرات الملايين من الأشخاص في بلد يعاني ما يقرب من ثلث سكانه البالغ عددهم 105 ملايين نسمة من الفقر، ولكن المطلعين على طريقة التفكير داخل دوائر صنع القرار في القاهرة يمكنهم بسهولة أن يستنتجوا لماذا تعارض مصر تحويل سيناء إلى مخيم للاجئين لسكان غزة معارضة مطلقة.

والقرارات التي اتخذها مجلس الأمن القومي المصري، الذي يضم كبار ضباط الجيش وكبار المسؤولين الأمنيين في البلاد برئاسة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول، تقدم نظرة ثاقبة لرد فعل القاهرة على المقترحات بأن يُسمح للفلسطينيين بالانتقال من غزة إلى سيناء بشكل دائم أو مؤقت مقابل شطب بعض ديون مصر أو كلها.

وندد المجلس بما وصفه بـ"سياسة الترانسفير" المتبعة ضد الفلسطينيين في غزة، وأدان محاولات التهرب من القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، مؤكدا أن القضية الفلسطينية لا يمكن حلها إلا في ضوء صيغة الدولتين. وشدد المجلس على استعداد مصر لبذل الجهود من أجل وقف التصعيد في غزة وفتح الباب أمام صنع سلام حقيقي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وجاء اجتماع المجلس قبل ساعات فقط من زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى القاهرة، المحطة الأخيرة من جولة إقليمية شملت ست دول قادته سوى مصر إلى تل أبيب وعمان والدوحة والرياض وأبوظبي.

وسمع كبير الدبلوماسيين الأميركيين من السيسي أن رد الفعل الإسرائيلي على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول التي شنتها حماس تجاوز الدفاع عن النفس وبلغ حد العقاب الجماعي لسكان قطاع غزة.

خلال اجتماع عقد يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول، شدد مجلس الأمن القومي المصري على أن الأمن القومي المصري "خط أحمر"، وتعهد باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحمايته

وجدد الرئيس المصري الأربعاء رفضه للتهجير القسري للفلسطينيين، مؤكدا خلال مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتز  في القاهرة أن "نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء يعني، نقل فكرة المقاومة والقطاع من غزة إلى سيناء". وأشار السيسي إلى منع دخول المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة وقال إن مصر لم تغلق معبر رفح الحدودي منذ بداية الحرب بين حركة حماس وإسرائيل، محملا مسؤولية ذلك إلى "القصف الإسرائيلي".

وقال السيسي خلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز في القاهرة "فكرة تهجير الفلسطينيين من القطاع (غزة) إلى مصر، يعني حدوث أمر مماثل وهو تهجير للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وبالتالي فكرة الدولة الفلسطينية التي نتحدث عنها غير قابلة للتنفيذ".

وأوضح السيسي أن "نقل المواطنين الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء يعني (..) نقل فكرة المقاومة والقطاع من غزة إلى سيناء"، مشيرا إلى أن شبه الجزيرة المصرية "ستصبح بالتالي قاعدة لانطلاق عمليات ضد إسرائيل التي من حقها الدفاع عن نفسها".

EPA
متطوعو المنظمات الإنسانية ينتظرون خارج بوابة رفح الحدودية، 17 أكتوبر 2023

وكان السيسي قد أرسل رسالة واضحة حول رفض بلاده لخطة نقل غزة قبل ثلاثة أيام من لقائه بلينكن؛ ففي ختام حفل تخرج الكليات العسكرية بالقاهرة، طلب الزعيم المصري من سكان غزة عدم مغادرة منازلهم أبدا. وقال إن مصر تستضيف ما يقرب من 9 ملايين لاجئ فروا إلى الأمان والسلام فيها من الحروب في وطنهم. لكن الوضع في غزة مختلف، كما رأى.

وقال السيسي: "هذه [القضية الفلسطينية] هي قضية كل القضايا والهم الأول للعرب جميعا ومن المهم أن يظل شعبها (الفلسطينيون) صامدين وأن يبقوا على أرضهم".

وقال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، الشيء نفسه تقريبا، عقب اجتماعه في القاهرة مع وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، حيث قال إن مصر ترفض تصفية القضية الفلسطينية. ودعا إلى تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل شامل من خلال إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

وتأتي هذه التأكيدات المصرية في أعقاب مطالبة الجيش الإسرائيلي سكان شمال غزة بالمغادرة إلى الجزء الجنوبي من القطاع المحاصر بالقرب من الحدود مع سيناء. وتحاول مصر منع نزوح سكان غزة إلى سيناء من خلال ضمان إيصال المساعدات الإنسانية والضروريات الأساسية إلى جنوب غزة.

ولكنها واجهت حتى الآن معارضة إسرائيلية لدخول المساعدات فجعلت خروج سكان غزة من حاملي الجنسية المزدوجة خارج المنطقة مشروطا بدخول هذه المساعدات.

دروس التاريخ

لقد كانت مصر أول دولة عربية توقع السلام مع إسرائيل عام 1979. ويقول مراقبون مصريون إن مصر، برفضها دخول سكان غزة إلى سيناء، تتعلم درسا من التاريخ في ما يتعلق بنقل الفلسطينيين من أراضيهم في الماضي، خاصة بعد عام 1948، فقد فر آلاف الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة، خاصة سوريا ولبنان والأردن، بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1948 وقيام إسرائيل، مما فتح الباب أمام تهجيرهم الدائم.

وقال حسن سلامة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن سكان غزة يواجهون الاحتمال نفسه الآن.

وأضاف المحلل السياسي، حسن سلامة، لـ"المجلة" إن "الفلسطينيين سيفقدون أحلامهم في الدولة بمجرد أن يفقدوا أرضهم"، مذكرا بأن "الفلسطينيين الذين فروا إلى دول عربية أخرى بقوا طيلة حياتهم نازحين ولم يسمح لهم أبدا بالعودة إلى بلادهم".

ووصف النقل المحتمل لسكان غزة إلى سيناء بأنه "نكبة جديدة" في طور التكوين.

ويتخذ أكثر من 100 ألف فلسطيني حاليا من مصر مقرا لهم، حيث عاش الكثير منهم هناك لعدة عقود.

وربما تشعر إسرائيل بالندم على قرارها بفك الارتباط وسحب قواتها من غزة عام 2005، فقد سمحت هذه الخطوة لحماس بفرض سيطرتها على الأراضي الفلسطينية والنمو، الأمر الذي يشكل تهديدا كبيرا لإسرائيل.

Reuters
شاحنات تحمل مساعدات إنسانية من المنظمات غير الحكومية المصرية للفلسطينيين، تنتظر إعادة فتح معبر رفح على الجانب المصري لدخول غزة

وربما يعتقد القادة العسكريون الإسرائيليون أن استعادة السيطرة على غزة يمكن أن تحمي المدن الإسرائيلية من هجمات حماس. ولكن الحقيقة أن إسرائيل ستواجه تحديات هائلة في حكم غزة، حتى لو نجحت في القضاء على حماس وبنيتها التحتية، بالنظر إلى عدد سكانها الذي يزيد على 2.3 مليون نسمة.

ولهذا السبب، ربما تفكر إسرائيل في إعادة توطين سكان غزة قسرا في شبه جزيرة سيناء لتسهيل سيطرتها على المنطقة. وقد تكون هناك أيضا خطط لنقل ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، ربما إلى الأردن المجاور، مما ينهي فعليا أحلامهم في إقامة دولة فلسطينية.

لكن مصر تعارض بشدة مثل هذه السيناريوهات، وهي في ذلك لا تهدف إلى حماية تطلعات الدولة الفلسطينية فحسب، بل تعتبر أيضا سلامة أراضيها أمرا مقدسا.

وخلال اجتماع عقد يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول، شدد مجلس الأمن القومي المصري على أن الأمن القومي المصري "خط أحمر"، وتعهد باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحمايته.

وقال اللواء المتقاعد في الجيش المصري، نصر سالم، إن مصر لا تسمح بأدنى العبث بأراضيها. وأوضح اللواء سالم، الذي كان ضابطا شابا في حرب الاستنزاف التي مهدت الطريق لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، لـ"المجلة": "عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي، لا تتقبل مصر أي تدخل من أي كان"، مضيفا أن "أحدا لا يستطيع الحصول على حبة من رمل سيناء".

ولم تتعامل مصر قط مع وحدة أراضيها باستخفاف، معتبرة أن هذه الوحدة عقيدة مقدسة في حد ذاتها كدولة. وعندما احتلت إسرائيل سيناء عام 1967، كان المصريون على استعداد للقتال لمدة مائة عام لاستعادة أرضهم.

كما حاربت مصر التشدد الإسلامي في سيناء على مدى السنوات العشر الماضية، ولم تستطع أن تهدأ حتى يتم سحق فرع من تنظيم داعش في سيناء بالكامل.

الميزة الخاصة

والأكيد أن مصر محاور مهم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتتمتع باتصالات جيدة مع تل أبيب ورام الله وغزة. ولكن القاهرة فقدت في السنوات القليلة الماضية جزءا من جاذبيتها كقوة إقليمية في ظل ظروفها الاقتصادية الصعبة وانشغالها بإطفاء الحرائق في جوارها المباشر، خاصة في السودان وليبيا، وكفاحها لحماية حصتها في مياه نهر النيل، حيث قامت إثيوبيا ببناء سد ضخم لتوليد الطاقة الكهرومائية فوق النهر.

واليوم تأتي أزمة غزة لتعيد بريق القاهرة الباهت، وتثبت مرة أخرى أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام في المنطقة دون مصر.

موقف مصر القيادي في أزمة غزة لا جدال فيه. فإلى جانب رفض نقل سكان غزة إلى سيناء، ترفض أيضا خروج الأجانب دون إيصال المساعدات إلى غزة

وقد عبرت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا عن ذلك بإيجاز، عقب اجتماعها مع نظيرها المصري يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، بقولها إن القاهرة لديها "دليل عمل" لحل الأزمة. وكانت الوزيرة تعلق على السيطرة المصرية على معبر رفح الحدودي وقدرة مصر على السماح للأجانب والمواطنين ذوي الجنسيات المزدوجة بالخروج من غزة إلى سيناء استعدادا لعودتهم إلى بلدانهم الثانية.

ومع ذلك، فإن موقف مصر القيادي في أزمة غزة لا جدال فيه. فإلى جانب رفض نقل سكان غزة إلى سيناء، ترفض أيضا خروج الأجانب دون إيصال المساعدات إلى غزة.

ولعل هذا الموقع القيادي هو السبب وراء عودة مصر مرة أخرى إلى مركز الأحداث في المنطقة وإعادة التواصل مع العالم. حيث يتوافد الدبلوماسيون الأجانب للقاء الرئيس المصري. ولهذا السبب أيضا يسخر المصريون، بما في ذلك صناع القرار، على الأرجح، عندما يظن البعض أن القاهرة يمكن أن تقبل رشوة مقابل إعطاء الفلسطينيين قطعة من صحراء سيناء الشاسعة وتخليص إسرائيل من غزة كحِمْل أمني ثقيل.

font change