الشرق الأوسط في فخ "العوْد الأبدي"

تصعيد في غزة في محاولة لتغيير الأولويات

Nathalie Lees
Nathalie Lees

الشرق الأوسط في فخ "العوْد الأبدي"

لندن - أصعب الصراعات تلك التي تمتد في الزمن وتنبت لها أجنحة تحلق بها في سماء الخرافات والأساطير وتتحول إلى عناصر مؤسسة للوعي السياسي في المجتمعات والدول المتحاربة. ومن الصراعات شديدة التعقيد هذه، يحتل النزاع العربي- الإسرائيلي، مكانه في الصفوف الأولى. حتى ليبدو أن المنطقة قد وقعت في حلقة مفرغة من «العود الأبدي» بحيث لا تكاد الأمور تصل إلى نقطة من التوازن والاستقرار حتى ترجع إلى نقطة الانطلاق، على ما تدل الحرب في غزة.

وضع مئة سنة من الحروب على منصة التشريح والنظر العقلاني، ليس بالأمر السهل. وطرح سؤال عن إمكانية انتهاء العداء ليس أمرا سلسا. تطورات كثيرة حصلت في المنطقة وفي إسرائيل وكل بلد عربي في العقود الأخيرة، يفرض جرأة في طرح هذا السؤال: هل ينتهي العداء المتبادل، العربي لإسرائيل، والإسرائيلي للعرب؟

كمية المواقف المسبقة والاتهامات الجاهزة لكل من يقترب من الشك، من زاوية تنبذ الانتماء المسبق إلى جماعته الأهلية والأصلية، قد تردع محاولات البحث الجاد عن الخروج من المأزق الذي يشكله العداء المتبادل بين العرب والإسرائيليين، والتفكير في الفرص التي أضاعها على المنطقة، ليس من ناحية الازدهار الاقتصادي المفقود فحسب، بل أيضا وربما خصوصا بتقييدها بأنماط من السياسة والثقافة لا زالت حتى اليوم تجذب العرب إلى الماضي والوراء والتخلف. واندلعت الجولة الأخيرة من القتال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لتؤكد أن المفاجأة و»توقع غير المتوقع» يجب أن يكونا عنصرا حاضرا في كل مقاربة للوضع في الشرق الأوسط.

AP
مصافحة بين رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحم بيغن والرئيس الاميركي جيمي كارتر والرئيس المصري انور السادات في البيت الابيض في 17 سبتمبر 1978

هناك من يطرح بعض النقاط التي ينبغي التقدم صوبها لوضع حد للعداء المستفحل والمتبادل بين العرب والإسرائيليين، وهي، بطبيعة الحال، ليست بالترتيب حسب الأهمية:

- الخروج من الأسطورة: في الصراعات المديدة، عادة ما تُنبش كل الخرافات والروايات بغض النظر عن درجة تطابقها مع الواقع والتاريخ، لتُحشد في ساحة القتال. ثمة عدد لا يُحصى من الروايات المتداولة عن مدى الشر الذي يتسم العدو به. بداهة إسقاط الطابع البشري عن الخصم لا مفر منه كمقدمة لتبرير رفض كل ما يأتي به وصولا إلى رفض وجوده المادي وإلغائه وتدميره.

كمية المواقف المسبقة والاتهامات الجاهزة لكل من يقترب من الشك، من زاوية تنبذ الانتماء المسبق إلى جماعته الأهلية والأصلية، قد تردع محاولات البحث الجاد عن الخروج من المأزق الذي يشكله العداء المتبادل بين العرب والإسرائيليين

من «فطير صهيون»، إلى «بروتوكولات حكماء صهيون»، وصولا إلى أحاديث مستلة من الكتب الدينية، تهدف كلها إلى وضع الإسرائيليين واليهود في حيز دموي وحشي راسخ في الشر.
 والحل هو الحرب التي لا هوادة فيها ليس لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل للقضاء على هذا «الجنس البغيض».
المشكلة الكبيرة في هذا النوع من المقاربات أنه ينفي تماما السياسة بما أنها بحث عن حلول وسط وإدارة للاختلاف بين بشر عاديين. وهكذا يصبح وسم أبناء قومية أو دين بسمات غير إنسانية، يجعل من السلام معهم خيانة للقيم الأولية التي تميز البشر عن البهائم.
غني عن البيان أن هناك قوى عديدة تنفخ في أوار هذا النوع من المقاربة أولها الحركات الدينية– السياسية التي ورثت ما أسسه القوميون العرب من كراهية جاء أكثر مكوناتها من الحركة الأوروبية المعادية للسامية ويمكن العثور على آثارها في مؤلفات مؤسسي «البعث» على سبيل المثال. العداء الجوهري لليهود سواء صدر من تأويل للنصوص الدينية أو من استعارة للإرث الأوروبي النازي والفاشي، ينهي عمليا أي تفكير واقعي ويؤبد الصراع إلى اللانهاية. وهذا ما ترغب فيه قوى تستفيد من هذا الجمود لتأكيد دورها وموقعها على الرغم من عجزها الواضح والفاضح عن الوصول إلى مستوى شعاراتها.
في المقابل، لا تختفي الأحكام المسبقة من الخطاب الإسرائيلي إلا لتعود. وزير الدفاع الإسرائيلي لم يجد غضاضة- بعد هجوم غزة- في وصف سكان غزة «بالحيوانات» مؤكدا أنه سيتعامل معهم بصفتهم هذه، مستعيرا- من دون أن يلقى تنديدا من أي دولة- العبارة النازية التي كانت تطلق على اليهود أنفسهم. 
- الاستغلال: على اعتبار أن الأسطورة، باتت متوارثة وموضوعة في مكان عميق، وعلى اعتبار أن هناك ظلما كبيرا لحق بأهل القضية، فإن استغلال عدد من أنظمة وجهات ودول لها بات ملحوظا سواء لتعميم حالة قمعية لمعارضين أو لإحداث انقلاب عسكري ضد «مدنيين فشلوا في الدفاع عن القضية» وكانوا «وراء خسائر المعركة»، إضافة إلى مصادرة هذه القضية لتثبيت دور إقليمي وتمدد النفوذ في منطقة الشرق الأوسط و»دول الطوق» الأولى والثانية. وهناك كثير من الأمثلة، لصواريخ سقطت أو عمليات انتحارية نفذت، لأسباب تفاوضية أو صرف النظر عن مأزق في عاصمة هنا أو هناك.
لا مفر من الاعتراف بأن الوضع القائم يعيق ازدهار المنطقة. وهو مرشح للتدهور إلى مجاهل غير محمودة العواقب ويترك المجال مفتوحا أمام تحكم وتدخل قوى تمتلك تصوراتها غير المتطابقة لا مع مصالح الفلسطينيين ولا العرب في التوصل إلى تسوية عادلة للصراع. خصوصا أن القوى الأكثر راديكالية، سواء كانت قومية أو دينية أخذت فرصتها كاملة لتطبيق برامجها وفشلت على مدى أكثر من ثمانية عقود.
ومقابل الخروج من العنصر الخرافي المؤسس للعداء المتبادل، يتعين عدم السقوط في الخرافة المقابلة عن التسامح والتعايش بين اليهود والعرب أثناء العصر الذهبي للحضارة العربية- الإسلامية. حكايات الأندلس متعددة الانتماءات العرقية والدينية، والإشعاع الذي تحلت به قرطبة في ظل الحكم الإسلامي، والوزراء والمفكرون اليهود، تصح للقراء الساعين إلى التسلية وإزجاء الوقت. الواقع أن العلاقات داخل المجتمعات العربية والمسلمة مع الأقليات كانت دائما ولا زالت، علاقات معقدة لا ينقصها التوتر والعنف.
المهم، أن شعوب المنطقة العربية في حاجة إلى طرق جديدة للتنمية بعد فشل المشاريع التي وعدت بها أنظمة الانقلابات العسكرية والأحزاب الشمولية. وقبل ذلك، في حاجة إلى الخروج من المصير السيزيفي (نسبة إلى سيزيف في الأسطورة اليونانية والذي حُكم عليه بدفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل لتتدحرج الصخرة إلى أسفل الوادي كلما اقترب الرجل المنكود من القمة) الذي يتلخص بالبحث عن الاستقرار والتنمية والازدهار فيما لا ينال الفلسطينيون العدالة التي يستحقون. 

اتفاقات... وممارسات


اتفاقات السلام التي مضى على توقيع بعضها أكثر من أربعين عاما، كانت تحرض على التأمل، حسب البعض؛ فالمزاج المصري العام، على سبيل المثال، لا يميل إلى التعامل مع إسرائيل وعلى مختلف الصعد. ولا يزال «التطبيع» لدى البعض في مصر، سبّة تلاحق كل من يدافع عن السلام مع إسرائيل ولا يزال عدد من النقابات يفصل الأعضاء الذين يبوحون بتأييدهم للعلاقة مع إسرائيل أو الرغبة في زيارتها. وليس من التجاوز سحب الموقف المصري العام، على رأي عربي يؤيد الحق الفلسطيني والعمل من أجل تحقيقه، على أي شكل كان، حتى لو جاء كصاروخ يُطلق على أراضي ال48 من دون أن يصيب أي هدف. ينسحب الأمر ذاته على هتافات جماهير «الألتراس» في مباريات كرة القدم من المغرب إلى الأردن. ولا داعي لإنكار هذه الحقائق.

اتفاقات السلام التي مضى على توقيع بعضها أكثر من أربعين عاما، كانت تحرض على التأمل، حسب البعض؛ فالمزاج المصري العام، على سبيل المثال، لا يميل إلى التعامل مع إسرائيل وعلى مختلف الصعد

يصدر الموقف هذا عن ديمومة الظلم اللاحق بالفلسطينيين، وبالتالي عن إصرار إسرائيل على عدم رفعه عنهم. ويعرف العرب، حتى الأكثر واقعية وبرغماتية من بينهم أن مستقبل العلاقات العربية– الإسرائيلية، لا ينحصر بتغير في الخطاب أو باللجوء إلى المبادرات واللقاءات الرسمية. بل بتغير ملموس في الممارسات الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، وفي السير من دون مراوغة مشابهة للطريقة التي سارت بها الحكومات الإسرائيلية بعد اتفاق أوسلو عام 1993، إلى هدف واضح: إعطاء الفلسطينيين أملا قابلا للتحقق أنهم سيقيمون كيانهم السياسي المستقل وسيحصلون هم أيضا على «مكانهم تحت الشمس»، كما جاء في عنوان كتاب بنيامين نتنياهو؛ فليس العرب وحدهم هم المطالبون بالتخلي عن الأساطير، بل إن على الإسرائيليين الإقرار بأنهم لن يتخلصوا من الفلسطينيين، وبأن مفكرين يهودا تعرضوا للتهميش مثل مارتن بوبر، وأحاد هعام (آشر غينسبرغ) وغيرهما ممن اقترحوا حلولا تأخذ في الاعتبار حقيقة الوجود الفلسطيني وعمقه وأصالته في أرض فلسطين، جديرون بأن يُعاد الاعتبار إلى طروحاتهم، عوضا عن المزيد من الانجراف نحو تيارات اليمين الطفولي المتطرف الذي لا يرى أبعد من أنف إيتمار بن غفير.

AFP
توقيع "اتفاقات ابراهام" في 20 سبتمبر 202


وأمام تراجع الحل السياسي العميق بعد انهيار اتفاق كامب ديفيد ورحيل رئيس السلطة ياسر عرفات، هناك من يطرح «الحل الاقتصادي» الذي اقترحه بنيامين نتنياهو قبل سنوات. لكن هناك من يقول، إنه إذا أرادت إسرائيل حلا يحسن أوضاع الفلسطينيين اقتصاديا، فذلك يعني أنها يجب أن تتعامل مع شعب ذي مستوى علمي مرتفع وقادر على الانخراط في دورة اقتصادية حديثة. وهذا يختلف عن تصورات «البانتوستان» التي يتبناها اليمين الإسرائيلي.
الارتباط بين الداخل الفلسطيني والعالم العربي، ممر إجباري. مرت فيه الكثير من التطورات والسنوات والاتفاقات؛ فمنذ اتفاقات الهدنة بعد حرب عام 1948 واتفاقات فك الاشتباك بين كل من مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة ثانية بعد «حرب أكتوبر» 1973، وقعت اتفاقات سلام كثيرة شملت مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، كما أن سوريا كتبت مسودات اتفاقات السلام مع إسرائيل تضمنت التطبيع والعلاقات الدبلوماسية.
وفي السنتين الأخيرتين، شملت الاتفاقات الإبراهيمية الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، في وقت تجري فيه مفاوضات جدية بين أميركا والسعودية حول صفقة كبيرة تقدم فيها أميركا اتفاقا أمنيا ودعما لبرنامج نووي سلمي وتتعهد بتحقيق تقدم في المسار الفلسطيني- الإسرائيلي، مقابل طلبات من واشنطن تخص التطبيع مع إسرائيل وتخفيف العلاقات العسكرية مع الصين والتنسيق إزاء ملف النفط مع روسيا.
أما إيران، فباتت تضع الملف الفلسطيني ودخولها فيه عبر فصائل موالية، في إطار مفاوضاتها لدورها في الإقليم وما وراءه. وهناك كثير من الحالات، خلال العقدين الماضيين وبعد انطلاق مؤتمر مدريد للسلام العام 1991، التي تدل على تدخل طهران بلحظات حاسمة لمنع وصول المفاوضات السلمية إلى اتفاقات ملموسة، تطلق مسارا مختلفا في الشرق الأوسط.
دول عربية كثيرة وضعت أولويات وطنية تتعلق بالرخاء والاستقرار في الداخل، لتلبية تغييرات الداخل وأولويات شعوبها التي بات جيل الشباب يمثل غالبية فيها، بهموم مختلفة ومزاج مختلف، في وقت يشهد فيه العالم مخاضا كبيرا يتعلق بالوصول إلى هيكلية إقليمية ودولية جديدة.

font change

مقالات ذات صلة