اليوم التالي في غزة... وجهة النظر الإسرائيلية

Getty
Getty
جنود إسرائيليون على متن دبابتهم قرب الحدود مع قطاع غزة في 9 أكتوبر

اليوم التالي في غزة... وجهة النظر الإسرائيلية

شهدت الفترة بين 2008 وأكتوبر/تشرين الأول 2023 نمطا محددا للعلاقة بين إسرائيل وأعدائها في قطاع غزة، وعلى رأسهم "حماس"، و"الجهاد الإسلامي"... في عام 2005، انسحبت إسرائيل بقيادة رئيس الوزراء آرييل شارون من قطاع غزة وفككت المستوطنات الإسرائيلية الموجودة هناك. ثم أجريت، في عام 2006، انتخابات تحت ضغط إدارة بوش على السلطة الفلسطينية، وأسفرت في النهاية عن فوز حركة "حماس". وفي عام 2007، سيطرت "حماس" بالقوة على قطاع غزة، طاردة السلطة الفلسطينية منه.

وردا على إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على جنوب غربي إسرائيل عام 2008، شنت إسرائيل أول عملية عسكرية انتقامية ضد "حماس" تحت عنوان "الرصاص المصبوب". وأعقب ذلك فترة هدوء قُطعت مرة أخرى بسبب إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وهو ما ردت عليه إسرائيل عام 2012 بشن حملة عسكرية أخرى تحت عنوان "عمود السحاب". وهكذا نشأت دائرة من العنف، حيث قامت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بدعم من إيران، ببناء قدراتهما العسكرية وزيادة مدى صواريخهما، في حين قامت إسرائيل بتوسيع ردودها العسكرية.

ودار نقاش في إسرائيل حول مدى كفاية الرد الإسرائيلي وما إذا كان من الضروري إطلاق حملة عسكرية واسعة النطاق ضد "حماس". وبحلول ذلك الوقت، كان بنيامين نتنياهو عاد إلى السلطة في إسرائيل، وكان يميل حينها، مدعوما من غالبية أفراد الجيش، إلى الامتناع عن شن حرب واسعة النطاق ضد حركة "حماس". وارتكزت هذه السياسة على ثلاثة أسس: إدراك أن حربا واسعة النطاق من شأنها أن تؤدي إلى خسائر إسرائيلية باهظة، فضلا عن الخسائر في صفوف الفلسطينيين وتدمير واسع النطاق في غزة، وفهم أن الإطاحة بحكومة "حماس" ستجبر إسرائيل على الاستمرار في فرض سيطرتها على قطاع غزة وتحملها مسؤولية مليوني فلسطينيّ يعيشون هناك.

تواجه إسرائيل والمنطقة والمجتمع الدولي اليوم سؤالين على قدر كبير من الأهمية، هما: كيف يمكن إنهاء هذه الحرب؟ وكيف سيتم التعامل مع قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب؟

إلا أن الهجوم الإرهابي الضخم والبشع الذي نفذته حركة "حماس" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كسر هذا النمط. وتسبب هذا الهجوم في خسارة أكثر من ألف جندي ومدني إسرائيلي، واختطاف أكثر من 240 إسرائيليا ونقلهم إلى قطاع غزة، إضافة إلى تدمير هائل على طول الحدود بين إسرائيل وغزة، ما استدعى شن حرب واسعة النطاق من قبل إسرائيل. 

AFP


وحددت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، علنا، أهدافا للحرب، وهي تدمير حركة "حماس" كقوة عسكرية وحاكمة. وبعد ذلك بوقت قصير، حُدد الهدف الثاني للحرب، وهو إطلاق سراح الرهائن. وبدأت إسرائيل الحرب بقصف جوي مكثف تمهيدا للتحرك البري الذي خطط من أجله لتحقيق أهداف الحرب. لكن المشهد تعقد بعد ذلك بوقت قصير بسبب انضمام كثير من وكلاء إيران إلى الحرب؛ حيث قام حزب الله بشن حرب استنزاف على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وحاول الحوثيون في اليمن فرض حصار بحري على الشحن إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وإطلاق الصواريخ الباليستية نحو إسرائيل، كما انضمت الميليشيات الأخرى الموالية لإيران في العراق وسوريا إلى المعركة بطريقة محدودة.

Majalla
مقاتل من "كتائب القسام" والقصف على غزة

الآن، وبعد مرور ثلاثة أشهر، تمكنت إسرائيل عمليا من السيطرة على مدينة غزة والجزء الشمالي من القطاع، وهي تركز حاليا جهودها العسكرية على الجزء الجنوبي منه. لقد دمّر قطاع غزة بشكل كبير، وانتقل أكثر من مليون مواطن من الشمال إلى الجنوب، وتكبدت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" خسائر فادحة، وأُلحِقَت أضرار جسيمة ببنيتيهما التحتية العسكرية فوق الأرض وتحتها. كما تكبدت إسرائيل نفسها أكثر من مئة قتيل عسكري (بالإضافة إلى الخسائر الأصلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول)، وعدد كبير من الجنود الجرحى، وعليها أن تتعامل مع نزوح نحو 120 ألف ساكن من المناطق الواقعة على الحدود مع قطاع غزة ولبنان، وكذلك مع انتقادات واسعة النطاق دوليا وموجة غير مسبوقة من معاداة السامية في أجزاء واسعة من العالم.
وتواجه إسرائيل والمنطقة والمجتمع الدولي اليوم سؤالين على قدر كبير من الأهمية، هما: كيف يمكن إنهاء هذه الحرب؟ وكيف سيتم التعامل مع قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب؟

عدلت إسرائيل من أهداف الحرب الطموحة الأصلية؛ فالقيادة الإسرائيلية تدرك أن التدمير الكامل لـ"حماس" كقوة عسكرية وحاكمة في غزة سيستغرق وقتا طويلا وسيستمر في فرض تكلفة باهظة

لا توجد إجابات سهلة أو بسيطة على أي من السؤالين؛ ففيما يتعلق بإنهاء الحرب، لا يُظهر أي من الطرفين الرئيسين المتحاربين، أي إسرائيل والقيادة العسكرية لحركة "حماس"، أي نية لإنهاء الحرب في وقت قريب. ويعتقد القائد العسكري لـ"حماس"، يحيى السنوار، والذي ربما يوجد تحت الأرض في الجزء الجنوبي من قطاع غزة، أنه قادر على الاستمرار متوقعا شعور إسرائيل بالتعب، أو نشوب صراع داخلي في إسرائيل، أو تعرضها لضغوط دولية كبيرة. أما نتنياهو، فلأسباب واضحة، يحتاج هو وقيادته العسكرية إلى تحقيق إنجازات كافية تمكّنهم من الإعلان عن أن أهداف الحرب، أو على الأقل الكثير منها، تحققت.

AFP
صاروخ ينتطلق من غزة في السابع من أكتوبر

وفي الواقع، عدلت إسرائيل من أهداف الحرب الطموحة الأصلية؛ فالقيادة الإسرائيلية تدرك أن التدمير الكامل لـ"حماس" كقوة عسكرية وحاكمة في غزة سيستغرق وقتا طويلا وسيستمر في فرض تكلفة باهظة، وأنه قد يكون هناك تناقض بين الوقت الذي تتطلبه العملية العسكرية والوقت الذي تحتاجه الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية. وبحسب سياسة إسرائيل المعلنة فهي الآن تستكمل المرحلة الثانية من الحرب، وبعد تدميرها لـ"حماس" في الأجزاء الشمالية والوسطى من القطاع، فإنها تركز الآن جهودها على الجزء الجنوبي، وأنها في مرحلة ما، ربما بحلول نهاية شهر يناير/كانون الثاني الحالي، ستبدأ مرحلة ثالثة تنتهي فيها العملية البرية الواسعة النطاق، حيث سيستقر جيش الدفاع الإسرائيلي في الجزء الجنوبي من غزة ويطوقه ويشن غارات لتحقيق أهداف الحرب.
ويطرح هذا الإجراء مسألة "اليوم التالي"، التي تعتبر موضوع نقاش واسع بين صناع السياسات والمحللين في المنطقة وعلى الساحة الدولية. ويبدو أن هناك توجها، عبرت عنه بشكل واضح نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، بأنه في نهاية الحرب يجب أن تتولى قوة دولية يوفرها المجتمع الدولي، إضافة إلى بعض الدول العربية، مسؤولية قطاع غزة، بحيث يتم بناء إدارة محلية بشكل تدريجي، وفي مرحلة ما، تقوم السلطة الفلسطينية– المعدلة– بتسلم مسؤولية القطاع. 

Shutterstock

ووفقا للتوجه ذاته، من المتوقع أن تستأنف إسرائيل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية المعدلة بشأن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مع إعادة طرح حل الدولتين على الطاولة. وسيكون هذا العنصر شرطا أساسيا لدول عربية مثل الأردن ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للمشاركة في إعادة إعمار قطاع غزة وتعزيز الإدارة الجديدة.
 

من الصعب في هذه المرحلة أن نرى نهاية واضحة للحرب في غزة، وسيكون من الصعب على جميع المعنيين التوصل إلى خطة فعالة لليوم التالي

وحتى الآن، ترفض حكومة نتنياهو مناقشة مسألة "اليوم التالي" بسبب العناصر المحددة المذكورة أعلاه. ومن المهم أن نفهم بنية وديناميكيات السياسة الإسرائيلية في هذا الوقت؛ إذ شكل نتنياهو بعد فوزه في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022 الائتلاف الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. وتشكل قائمة الصهيونية الدينية برئاسة بتسلئيل سموتريش، و"القوة اليهودية" برئاسة إيتمار بن غفير، الشريكين الأكثر تطرفا في الائتلاف اليميني؛ إذ يعارض هؤلاء الرجال وأحزابهم وحركاتهم، التي تمثل الهامش المسياني في السياسة الإسرائيلية، يعارضون تماما حل الدولتين ويتصورون، بطريقة أو بأخرى، سيطرة إسرائيلية مستمرة على "أرض إسرائيل" بأكملها. كما أنهم يعارضون أي ذكر لإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ناهيك عن استئناف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي تنتهي بحل الدولتين. ونتنياهو مصمم على البقاء في السلطة من خلال الحفاظ على ائتلافه المكون من 64 مقعدا. لكن صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول دفعته إلى الموافقة على تشكيل حكومة حرب انضم إليها بيني غانتس، وغادي آيزنكوت، وجدعون ساعر، في مشاركة مؤقتة. وبالتالي، هناك ثلاثة منتديات تدير الحرب نيابة عن إسرائيل: مجلس الحرب (الذي يتم فيه تقاسم السلطة مع ممثلي المعارضة)، والمجلس الوزاري السياسي الأمني الذي يمثل حكومة نتنياهو الأصلية والائتلاف، ومجلس الوزراء بكامل أعضائه.

AFP
محتجون يرفعون ايديهم الملطخة بدهان احمر اثناء ادلاء وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد اوستن بشهادتهما امام لجنة في مجلس الشيوخ من اجل اقرار مساعدة بقيمة 104 مليارات دولار لاسرائيل في 31 اكتوبر

وخلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول، طالب غانتس ورفاقه بمناقشة مسألة "اليوم التالي" في مجلس الحرب. وتحت ضغط من سموتريش وبن غفير، غير الممثلين في هذا المجلس، قرر نتنياهو تجنب الدخول في ذلك النقاش وأعلن أنه لن يكون هناك نقاش حول مسألة "اليوم التالي." ولكن بعد ذلك، وتحت ضغط متكرر، من قبل الولايات المتحدة أيضا، وافق على إجراء مثل هذه النقاش في مجلس الحرب، على أن تستمر في مجلس الوزراء الأمني السياسي. إلا أن نتنياهو أدلى في أوقات مختلفة بتصريحات تتعلق بمستقبل قطاع غزة، لا تتماشى مع معظم السيناريوهات المطروحة دوليا بخصوص "اليوم التالي".
وبالإضافة إلى القيود الداخلية في إسرائيل، هناك عقبات حقيقية تقف في طريق إنهاء الحرب والتخطيط ليوم تالٍ دائم. وبالتالي، فإن عدم تدمير قدرات "حماس" العسكرية بالكامل، واحتفاظها بوجودها في الجزء الجنوبي من قطاع غزة، سيؤدي غالبا إلى تعطيل عمل أي سلطة بديلة. ومن الواضح أيضا أن "حماس" تحاول ترجمة الشعبية التي اكتسبتها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى مكاسب سياسية، مثل الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية وربما الاستيلاء عليها. وغني عن القول إنه من غير المعقول أن تتفاوض إسرائيل مع كيان فلسطيني تشكل "حماس" جزءا منه، ومن الصعب أيضا أن نتصور وضعا تكون فيه "حماس" خارج الصورة تماما.
خلاصة القول، من الصعب في هذه المرحلة أن نرى نهاية واضحة للحرب في غزة، وسيكون من الصعب على جميع المعنيين التوصل إلى خطة فعالة لليوم التالي. ومع ذلك، فإنه يتعين على جميع الأطراف التغلب على هذه العقبات وإنهاء الأزمة. وعند حدوث ذلك، يصبح بناء بنية إقليمية جديدة ضرورة وإمكانية في وقت واحد.

font change

مقالات ذات صلة