كيف ينظر الأردن إلى "اليوم التالي" في غزة؟

تدأول أفكار لعقد مؤتمر دولي وتشكيل حكومة تكنوقراط

AFP
AFP
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الاردني عبد الله الثاني اثناء قمتهما في القاهرة في 27 ديسمبر

كيف ينظر الأردن إلى "اليوم التالي" في غزة؟

مع قرب دخول الحرب على غزة شهرها الرابع، بكل ما حملته من عدوان واجتياح وحشي وتململ غاضب في الضفة الغربية، فإن الإقليم- كما العالم- صار أمام استحقاق متأخر بوضع حل نهائي للأزمة التاريخية في الشرق الأوسط، المكلوم بأزماته العنقودية المتوالية.

ومنذ الساعات الأولى لأحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، تحولت غزة إلى بؤرة الاهتمام في المنطقة والعالم. ومن تلك النقطة بدأت عواصم عربية محددة في استقطاب الانتباه بصورة مكثفة، ليس لأنها مرتبطة بالأحداث وتفاعلاتها وحسب، ولكن لارتباطها بالمرحلة اللاحقة التي ستتبع وقف إطلاق النار وأي ترتيبات مرتبطة به، في إقليم لا تزال فيه حروب باتت منسية لكنها حاضرة والقتل اليومي فيها مستمر ويفضي إلى مآلات مؤجلة من استحقاقات لا يرغب فيها أحد، وتشابكات تطل برأسها من زاوية التدخل والهيمنة عبر وكلاء حروب وميليشيات متحركة للقتل والتدمير.

ومن بين كل العواصم المعنية تبرز العاصمة الأردنية عمّان بوصفها الأكثر تعرضا للتهديد مما يحدث على المستوى الاستراتيجي، ولأنها كانت قد توقعت أوضاعا متفجرة في الضفة وحذرت طويلا من ذلك، فكانت العاصمة الأعلى صوتا والأكثر كثافة في الحضور.

مؤتمر دولي

آخر الأوراق المطروحة على تلك الطاولات الخلفية في الإقليم، فكرة مؤتمر دولي يبدأ الآن، متواصل وموصول بثلاثة انعقادات متتالية متفق عليها مسبقا بالتواريخ وبالتراتب، وهو آخر الحلول المطروحة من تيار فلسطيني ثالث خارج عن نسق السلطة الفلسطينية الحالية وليس من طرف "حماس" و"الجهاد الإسلامي".

المشروع الذي لا يزال في مرحلة التبلور للطرح الجدي، يأتي بعد ما تم تسميته "الورقة المصرية"، والتي كانت من مشاريع قليلة تحمل "حشوة حقيقية" يمكن البناء عليها

المشروع السياسي المكثف في هذا المؤتمر طرحه السياسي الفلسطيني ناصر القدوة على جهات أوروبية مؤخرا، وربما يحمله إلى عواصم عربية بدءا من القاهرة، مرورا بعمّان، والرياض، والدوحة، حسب تسريبات من مصادر مطلعة وقريبة من هذا التيار.
ملخص الفكرة قائم على البدء الفوري والمباشر في التحضير لمؤتمر دولي برعاية دولية واسعة تتجاوز الولايات المتحدة وتشملها بالضرورة مع حضور دول أوروبية فاعلة مثل إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والدول العربية الخمس (السعودية- الأردن- مصر- الإمارات- قطر)، مع حضور لدول خارج الطوق السياسي المباشر مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وتمثيل منظمات دولية وبرعاية أممية.
وحسب قول مصادر لنا، فإن المؤتمر قائم على ثلاثة انعقادات متتالية بالترتيب، ومحسوبة زمنيا ضمن إطار خطة واضحة يكون أول انعقاداتها سريعا وقبل وقف إطلاق النار، ووظيفة هذا الاجتماع الأول إيقاف الحرب ووضع خطة واضحة لكيفية وقفها، وخارطة طريق تحدد شروط وقف إطلاق النار متوازية مع مخطط دولي لإدخال المساعدات الإنسانية وفك الحصار عن سكان قطاع غزة.
ثاني الانعقادات، حسب المشروع الذي يتم تسويقه حاليا، مشروط بحضور حكومة إسرائيلية غير حكومة بنيامين نتنياهو، "وهو شرط مبني على مجهول وشيك في القراءات السياسية الحالية"، ويكون موضوعه الأساس وضع إطار سياسي وتحديد الشكل النهائي للحل في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة "تحديدا".
الاجتماع الثالث– حسب المشروع- في انعقاد مؤتمر مراجعة وبناء المشاركة من خلال الدول المشاركة والحاضرة للمؤتمر "بسياقاته الثلاثة" للخروج من قيد الرعاية الاحتكارية لواشنطن وتدويل المسؤولية في تنفيذ قرارات الحلول النهائية.

Reuters
مظاهرة مساندة لغزة في العاصمة الاردنية عمان في 31 ديسمبر

المشروع الذي لا يزال في مرحلة التبلور للطرح الجدي، يأتي بعد ما تم تسميته "الورقة المصرية"، والتي كانت من مشاريع قليلة تحمل "حشوة حقيقية" يمكن البناء عليها سياسيا، خصوصا في موضوع إعادة تأهيل السلطة الوطنية الفلسطينية وتشكيل إدارة محلية (حكومة) قائمة على تكنوقراطيين من خارج كل الفصائل الفلسطينية بما فيها الخصمان التاريخيان ("فتح"، و"حماس")، تطبيق هذه المسار التكنوقراطي يتعرض لأسئلة مشروعة لعل أبرزها يتعلق بإمكانية العثور على شخصيات فلسطينية تكنوقراطية من الداخل في الضفة وقطاع غزة، تكون قادرة على ممارسة العمل السياسي، شخصيات فلسطينية وازنة أكدت وجود مثل تلك الشخصيات "غير المسيسة بالتنظيمات"، لكنها قادرة على إدارة الحكم المحلي كما يجب أن يكون. ولفتت إلى أن شخصية غزاوية مثل يحيى سراج رئيس بلدية غزة من تلك الشخصيات التي يمكن التعويل عليها، وقد نشرت له صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا عشية ليلة الميلاد قبل أيام، كان عنوانه بسيطا ولافتا: "أنا رئيس بلدية مدينة غزة. حياتنا وثقافتنا تحت الأنقاض". وهو مقال أثار شهية اليمين الصهيوني للهجوم على الصحيفة الأقرب لليهود في تاريخ المدينة الأكثر احتضانا لهم في العالم الجديد.


أسماء مطروحة


أسماء فلسطينية ثقيلة تم طرحها بين الشد والجذب مثل رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض. وحسب مصادر فإن الدعوات من عواصم عربية بدأت تصله لزيارتها، كان آخرها من أبوظبي، بالإضافة إلى حضور متصاعد للخبير الدبلوماسي ناصر القدوة، وقد صارت تحركاته منذ عامين تثير حساسية سلطة رام الله لأسباب شخصية وموضوعية.

التقدم مشروط بعملية معقدة من تغيير جذري في المزاج العام الإسرائيلي المنزاح بقوة إلى اليمين الديني وهو ما أنتج حكومة متطرفة يتربع على قيادتها بنيامين نتنياهو

تلك التحركات التي لا تزال بحاجة إلى "إنعاش إقليمي" متوافق عليه، هي أكثر ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم للبدء في عملية التغيير الحقيقي، وهو تغيير لا يتحمل مسؤوليته الفلسطينيون وحدهم، لكنه مشروط بعملية معقدة من تغيير جذري في المزاج العام الإسرائيلي المنزاح بقوة إلى اليمين الديني وهو ما أنتج حكومة متطرفة يتربع على قيادتها بنيامين نتنياهو.

 

الموقف الأردني

 

الموقف الرسمي التصعيدي، لم يكن مفاجئا لمن يفهم حساسية الأردن تجاه موضوع "التهجير"، وهي حساسية تاريخية متراكمة تجاوزت الفلسطينيين، لكنها عصب حساس في الموضوع الفلسطيني، من هنا كانت أولى شرارات التنبيه الأردني شديد اللهجة متزامنة مع الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي بدأت فيه أصوات تنادي بـ"ترحيل مؤقت" خارج غزة كان جواب الحسم فيه أردنيا في برلين وعلى منصة المؤتمر الصحافي بين العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، والمستشار الألماني أولاف شولتس، الذي طرح فكرة "التهجير المؤقت" ليجد ردا من القيادة الأردنية حاسما بلهجة شديدة اعتبرت أي عملية تهجير بمثابة "إعلان حرب".

الموقف تبلور أكثر في كلمة العاهل الأردني في مؤتمر القاهرة للسلام بعد أيام من "منصة برلين" وبلغة إنجليزية تعمد فيها الملك عبدالله الثاني أن يخاطب العالم الغربي تحديدا، أشار فيها إلى خطورة التهجير، وأعاد عبارات "الحرب وإعلانها" في لغة غاضبة غير مسبوقة، بل وأشار للمرة الأولى إلى المساءلة الدولية "القانونية" على ممارسات إسرائيل في عدوانها على غزة.

التصعيد الذي دشنه العاهل الأردني باسم الأردن، تمدد إلى زوجته الملكة رانيا، والتي ظهرت على شاشة "سي إن إن" بلغة اتهامية ضد إسرائيل أثارت غضب تل أبيب إلى حد تطاول رئيس وزراء سابق في تل أبيب على الملكة، وباقي الصحافة الإسرائيلية التي لم تجد ردودا موضوعية واكتفت بالاتهامات الوصفية والشتائم!

تلك الدبلوماسية الأردنية التصعيدية عبّر عنها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي والذي حمل مشروعا أردنيا لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن منذ الأسابيع الأولى، وهو المطلب الأردني الأساسي والمدمج بإدخال فوري للمساعدات مع رفض قاطع لأي فكرة ترحيل أو تهجير قد تمتد عدواها إلى الضفة الغربية، وهو ما يخشاه الأردن من قبل حكومة يمين متطرف لا تخفي سياساتها التهجيرية المعلنة كبرنامج حكومي واضح لها.

مصادر أردنية مطلعة أكدت لنا أن الأردن لا يرى في أنصاف الحلول أو الحلول الجزئية أي فائدة، وأن الحل إقليميا ودوليا يحتاج إطارا شاملا للقضية الفلسطينية وحلولها النهائية، ضمن عملية شاملة متكاملة تضمن حقوق الفلسطينيين كاملة والمصلحة الإسرائيلية في الأمن.

المصدر المطلع غمز من جهة "المبادرات التمويلية" غير السياسية المطروحة، بقوله إن من "يفكر في خلق دبي في غزة عبر إغراقها بالأموال يتجاهل حقيقة فشل تلك الرؤية لأنه لا جدوى من عزل الضفة عن القطاع في أي حلول نهائية مطروحة".

أخطر ما يواجهه العالم- الغربي خصوصا- طرح سيناريوهات التهجير والترحيل التي يتبناها الإسرائيليون لنقل كتل سكانية كاملة من غزة إلى أي مكان في العالم

وتابعت المصادر أن العقل السياسي الأردني صار يؤمن بضرورة التغيير الداخلي الفلسطيني، بدءا من السلطة الفلسطينية نفسها، على أساس أن السلطة هي عنوان الوحدة الفلسطينية، وأن التغيير فيها يجب أن يكون بكفاءات تكنوقراطية قادرة على إدارة "اليوم التالي" لما بعد الحرب، وهو ما يتقاطع مع رؤية الورقة المصرية المطروحة أخيرا، والتي تدعمها قطر.

AFP
رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري عبد الرحمن آل ثاني اثناء لقائه وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن في عمّان في 4 نوفمبر

حضور مفهوم التكنوقراط في مرحلة إدارة ما بعد الحرب، أو "اليوم التالي"، فيه تساؤلات ملغومة كثيرة، ومما رشح إلينا أن هناك بوادر توافق إقليمي على أن تكون حكومة التكنوقراط غير خالية من السياسيين، لكن بشرط عدم تمثيل الفصائل الفلسطينية التقليدية جميعها، ونجاح تلك الحكومة التكنوقراطية مبني على شرط أساسي يقوم على تحرك رئيس السلطة الحالي محمود عباس بإصدار مراسيم تفويض كاملة ينزعها من مكتبه الرئاسي ويمنحها لتلك الحكومة بالمطلق، على أن تكون تركيبة تلك الحكومة "غير الفصائلية" قائمة على ثلاثة عناصر: التوافقية والقبول الفلسطيني العام، والفعالية في اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات، وأخيرا مصداقية حقيقية عند الممولين للمشروع السياسي وإعادة الإعمار بعد الحرب.

في الملخص، بات وقف إطلاق النار ضرورة إنسانية بلا شك، وسياسية من ناحية وقف إنتاج القنابل البشرية المؤقتة على الغضب والقهر الكامنين، وهذا لا يمكن دون حضور ملموس وإحساس حقيقي بالحقوق الإنسانية ثم السياسية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، تلك الضفة التي تقف على حافة انفجار يسعى إليه متطرفو حكومة تل أبيب، مما قد يفضي إلى انفجار إقليمي يتجاوز حتما حدود الإقليم نفسه، وأخطر ما يواجهه العالم- الغربي خصوصا- طرح سيناريوهات التهجير والترحيل التي يتبناها الإسرائيليون لنقل كتل سكانية كاملة من غزة إلى أي مكان في العالم، متناسين أن أي عملية ترحيل لن تكون أكثر من نقل عبوات ناسفة بشرية محملة بالغضب على ضفاف أوروبا أو أي مكان في العالم.

font change

مقالات ذات صلة