إسرائيل تناقش استمرار الحرب في غزة

تعذر الحسم العسكري كما يرى غالبية الإسرائيليين من تجربة المئة يوم

DPA
DPA
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الثالث على اليمين) مع أعضاء حكومة الحرب

إسرائيل تناقش استمرار الحرب في غزة

حيفا- بعد مرور أكثر من مئة يوم على الحرب في غزة، تبدو نقاشات الإسرائيليين حول جدوى استمرار الحرب أكثر وضوحا من أية فترة سابقة؛ وكما هو معلوم فإن مشاهد القتل والدمار الذي حل في غلاف غزة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، على أثر هجوم "كتائب القسام" و"سرايا القدس"، وما ترافق مع ذلك من شعور بالهزيمة وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الدفاع عن مواطنيه في غلاف غزة، أدت هذه المشاهد إلى ارتفاع جدي في مستويات التجنّد والشعور بالحاجة إلى رد الاعتبار من قبل عموم الإسرائيليين، بشكل قد لا نجد له مثيلا في كل سنوات الصراع.

وقد تشكل شعور المهانة والحاجة إلى رد الاعتبار والانتقام من "حماس" و"الجهاد" وعموم الغزيين في موجة غير مسبوقة من العداء للفلسطينيين وتبرير قتلهم ومطاردتهم واعتقالهم في غزة وفي عموم فلسطين التاريخية. وكتب عن ذلك الكثير منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتم تلخيصه جوهريا في تسابق علني لرفع سقف أهداف الحرب من جهة، وفي تصريحات "جينوسايدية" غير مسبوقة في فظاعتها وتغولها ضد الفلسطينيين، وجزء كبير منها وثق في الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل متهمة إياها بارتكاب جريمة الإبادة (الجينوسايد) في غزة.

العداء للفلسطينيين وتبرير القتل العشوائي والقصف البربري للمدنيين في غزة تمثل سياسيا في المستوى الإسرائيلي الداخلي من تشكل دعم قبلي جارف للحرب وما تضمنته من جرائم حرب موثقة في عدة مستويات.

لم يسمح تقريبا بأي صوت ناقد للحرب ولأهدافها وتكتيكاتها، بما في ذلك منع من أفرجت عنهم "حماس" من المختطفين والرهائن من إسماع صوتهم حول تجربتهم في الأسر

أولا: من خلال اصطفاف ووعي شعبي جارف مؤيد للحرب وللخطوات التي رافقتها في غزة تحديدا وفي عموم فلسطين التاريخية عموما. وأشارت استطلاعات الرأي الموثوقة إلى أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين تشارك الحكومة وقوى الأمن في تطلعها للانتقام بما في ذلك استعمال أدوات قتل وتهجير وثق منها الكثير في الإعلام عموما وفي دعوى جنوب أفريقيا المذكورة أعلاه تحديدا.

ثانيا: من خلال تجند إعلامي كاسح إلى جانب الترويج لفكرة الحرب واستهداف الغزيين، ولم يشذ عن القاعدة سوى قلائل من الصحافيين والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يسمح تقريبا بأي صوت ناقد للحرب ولأهدافها وتكتيكاتها، بما في ذلك منع من أفرجت عنهم "حماس" من المختطفين والرهائن من إسماع صوتهم حول تجربتهم في الأسر، وخصوصا بعدما قامت سيدة أفرج عنها في الجولة الأولى من الإفراج المتبادل بين إسرائيل و"حماس" بالتطرق إيجابيا إلى تجربتها في أسر "حماس".

وثالثا: من خلال اصطفاف سياسي مع الحرب والانتقام، تمثل عينيا في دخول بيني غانتس، وغادي أيزنكوت من حزب "همحنيه همملختي" إلى حكومة الحرب المصغرة (الكابينيت)، وعمليا إقامة حكومة تحالف وطني خلال الحرب، ومن أجل رص الصفوف في سبيل تحقيق أهداف الحرب التي حددها نتنياهو بسقف القضاء على "حماس" وإرجاع المختطفين الإسرائيليين من أسرها.

DPA
تظاهرة في تل أبيب لأسر المحتجزين في غزة

وكما هو معروف، بعد أكثر من مئة يوم على انطلاق العمليات الحربية ضد غزة، لم تحقق إسرائيل أيا من أهدافها التي أعلنتها، وهذا تحديدا العامل الذي يفسر اندلاع خلافات إسرائيلية غير مسبوقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حول الحرب واستمرارها، على الأقل بالشكل الذي سارت عليه حتى الآن.

ولعل أهم تجليات هذه الخلافات هو ما رجح عن نقاشات "كابينيت الحرب". حيث أشارت تقارير صحافية إلى ما أدلى به غادي أيزنكوت، وهو قائد أركان سابق ويتمتع بمصداقية عسكرية عالية المستوى في إسرائيل، حيث قال خلال النقاش حول استمرار الحرب أو الحاجة إلى تفكير جديد فيها وفي مسارها: "يجب أن نتوقف عن الكذب على أنفسنا، وأن نبدي جرأة والذهاب إلى مبادلة كبيرة تعيد المخطوفين إلى البيت. وقتهم ينفد بسرعة وكل يوم يمر يضع حياتهم في خطر. لا حاجة للاستمرار في النهج نفسه الذي نسير به كالعميان، بينما المخطوفون هناك (في غزة)، هذا وقت حرج لاتخاذ قرارات جريئة، عدا ذلك لا يوجد ما نعمله هنا (في اجتماعات الكابينيت)".

النقاش في أعلى هيئة إسرائيلية تدير الحرب في غزة من ثمار التعثر الإسرائيلي في الوصول إلى الأهداف المعلنة، كما أنه متأثر جدا بالحملة الشعواء التي أطلقها أهالي الرهائن والأسرى الإسرائيليين

وجاءت تصريحات أيزنكوت تأييدا لموقف زعيم حزبه غانتس، وهو كذلك قائد أركان سابق ومرشح جدي لمنصب رئاسة الوزراء في حال إجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل، حيث أشار غانتس إلى "ضرورة التفتيش عن طرق وأفكار جديدة من شأنها أن تدفع حماس إلى الأمام (في موضوع المختطفين)". في إشارة إلى أفكار يطرحها الوسطاء المصريون والقطريون في سبيل الوصول إلى وقف لإطلاق النار وإجراء تبادل شامل لكل الأسرى الإسرائيليين مقابل كل الأسرى الفلسطينيين.

وقد قوبلت أفكار غانتس وأيزنكوت بمعارضة شديدة من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، ممثلي الليكود في كابينيت الحرب، واللذين شددا على رفض مطلق لوقف العمليات العسكرية أو القبول بصفقة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.

وقد وصل الأمر إلى تقييمات لمراقبين ومعلقين إسرائيليين بأن كابينيت الحرب بشكله الحالي في طريقه إلى التفكك، وأن غانتس وأيزنكوت قد ينسحبان منه، في إشارة إلى أن نتنياهو يمهد لذلك من خلال التواصل مع أفيغدور ليبرمان زعيم حزب "يسرائيل بيتنو" ليحل محلهم في كابينيت الحرب.

النقاش في أعلى هيئة إسرائيلية تدير الحرب في غزة من ثمار التعثر الإسرائيلي في الوصول إلى الأهداف المعلنة، كما أنه متأثر جدا بالحملة الشعواء التي أطلقها أهالي الرهائن والأسرى الإسرائيليين في شوارع البلاد دعما لصفقة تؤدي إلى عودة أقاربهم من أسر "حماس"، حيث قوبلت كلمة رئيس الدولة، إسحق هرتسوغ، في اليوم نفسه لاجتماع الكابينيت المذكور آنفا، بجملة من المقاطعة والتشويش، حيث صرخ المتظاهرون خلال الكلمة بضرورة التوصل "حالا" إلى صفقة تؤدي إلى عودة أحبائهم إلى بيوتهم. وتتخلل مظاهرات أهالي المخطوفين شعارات ونداءات تدعو إلى استقالة الحكومة عموما ونتنياهو تحديدا، كما أن الدعوة إلى انتخابات مبكرة تفرز حكومة مختلفة وقادرة على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية المترتبة على الحرب.

هناك حالة لافتة من التراجع في الترويج للحرب بدأت في الظهور بوضوح وقوة، وفي دعوة إلى التفكير في بدائل قد تقود إلى الإفراج عن المختطفين الإسرائيليين، والوصول إلى اتفاق وصفقة شاملة

يأتي هذا على خلفية ارتفاع التأييد الشعبي لغانتس ولحزبه، مقابل تراجع الدعم الشعبي لنتنياهو وحزبه؛ فقد أشار استطلاع أخير- بمناسبة مرور مئة يوم على الحرب- لصحيفة "معاريف" إلى أنه في حال إجراء الانتخابات اليوم فإن غانتس يعتبر المرشح الأفضل لقيادة الحكومة (51 في المئة) بفارق كبير عن نتنياهو (28 في المئة)، كما أن ائتلاف نتنياهو سيتراجع من 64 إلى 44 مقعدا في الكنيست من أصل 120 مقعدا. في حين سيحصل الائتلاف المعارض– الذي شكل الائتلاف السابق في إسرائيل- على 71 مقعدا من أصل 120. هذه الأجواء التي تخيم على الإسرائيليين وتقودهم إلى الابتعاد عن نتنياهو والبحث عن بديل، هي بالتأكيد من نتائج الإخفاق الأمني في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنها كذلك نتيجة مباشرة للإخفاق المتواصل في الوصول إلى الأهداف التي وعد نتنياهو الإسرائيليين بتحقيقها في غزة مع اندلاع الأعمال الحربية قبل أكثر من مئة يوم.

على المستوى الإعلامي، والذي كان في حالة تجند كامل دعما للحرب والانتقام بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن حالة لافتة من التراجع في الترويج للحرب بشكلها الحالي بدأت في الظهور بوضوح وقوة، وفي دعوة إلى مراجعة ذلك والتفكير في بدائل قد تقود إلى الإفراج عن المختطفين الإسرائيليين، بما في ذلك من خلال التجاوب مع مطلب الوصول إلى اتفاق وصفقة شاملة تؤدي كذلك للإفراج عن أسرى فلسطينيين، وربما تبييض السجون الإسرائيلية.

DPA
فلسطينيون يسيرون عبر أنقاض حي الشيخ رضوان المدمر في مدينة غزة

ففي تعليق حديث (15 يناير/كانون الثاني 2024) أشار رافيف دروكر المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس"، ويعتبر من أكثر الصحافيين تأثيرا في الحيز العام في إسرائيل، إلى ما يلي: "في بداية الحرب كنت أعتقد أن القضاء على حكم حماس في قطاع غزة هدف أهم من عودة المختطفين. وكان السؤال إذن هو ما إذا كان هذا هدفا عمليا. لم يكن لدي الأدوات اللازمة لاتخاذ القرار في ذلك الوقت. والآن أصبح من الواضح أن هذا ليس هدفا يمكن تحقيقه في المستقبل المنظور. وفي ظل هذه الظروف، من الأفضل اتباع الخطة المعاكسة: عودة المختطفين بالكامل في الوقت الحالي، وإنهاء القتال. من الصعب للغاية ابتلاع هذه الحبوب، لأن حماس ستعلن النصر".

وكتبت زميلته نيتسا بن ديفيد مقالا ("هآرتس" 25 ديسمبر/كانون الأول 2023) تعليقا أكثر جرأة بقولها: "علينا القيام بعمل بطولي، انهض واخرج من غزة. إذا كان صحيحا أن بنيامين نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب لاحتياجاته الخاصة، وخاصة لكي نخرج من عش الدبابير، وأكوام الحجارة المتراكمة، والمدن التي أصبحت مدن السيوف، والأنفاق المحاصرة. من المؤسف أن علينا التخلي عن الحلم المزدوج: إطلاق سراح المختطفين والقضاء على يحيى السنوار في عملية مفاجئة على غرار عملية عنتيبي. المختطفون ليسوا في مكان واحد، والسنوار لا يجلس على مدخل النفق بفارغ الصبر وينتظر القضاء عليه. هناك الكثير من قتلى الحرب والأسرى والمفقودين، فكيف تبحثون عن فلان ابن فلان؟ ذرة غبار في عاصفة الحرب. لذلك يجب أن يكون الخروج من غزة ووقف الأعمال العدائية ضمن صفقة إطلاق سراح المختطفين، وتأجيل القضاء على السنوار إلى وقت ملائم، الذي سيحدث عاجلا أم آجلا".

تفقد قطاعات واسعة في إسرائيل، وبمستويات عدة ثقتها في قدرة الجيش والأجهزة الأمنية في ما أوكله نتنياهو وغالانت لهم

هذه عينة مقتضبة من نقاشات الصحافة الإسرائيلية التي تتبدل هذه الأيام بوتيرة عالية، وهي جزء من مزاج إسرائيلي يتنامى يوميا، وملخصه إقرار بأن القضاء على "حماس"، وحتى القضاء على حكمها هو أمر بعيد المنال أو حتى غير ممكن، وأن استمرار إسرائيل كما يقودها نتنياهو وغالانت، قد يؤدي إلى استمرار الوجود والنزيف الإسرائيليين في غزة، عدا عن استمرار تورطها في القتل والتهجير والتجويع للغزيين بغير أفق سياسي، مما قد يفضي إلى استمرار تدهور مكانتها الدولية، بالإضافة إلى ازدياد التقاطب الداخلي والدخول في صدامات، وكل ذلك في ظل ازدياد الشعور العام بأن كل ذلك يأتي بإصرار من نتنياهو في سياق تعنته للحفاظ على كرسي رئاسة الوزراء والاستمرار في الحكم لتلافي الوقوف في المحكمة في قضايا الفساد، ولأجل تأجيل إمكانية قيام لجنة تحقيق في الحرب بإدانته كمسؤول مركزي عن الإخفاق الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

في المحصلة تفقد قطاعات واسعة في إسرائيل، وبمستويات عدة ثقتها في قدرة الجيش والأجهزة الأمنية في ما أوكله نتنياهو وغالانت لهم، هذا يتفاقم طبعا بسبب استمرار الحرب، وضغوط أهالي المختطفين والتآكل المستمر في مكانة إسرائيل، بما في ذلك التلويح بضغوط من قبل حليفتها الرئيسة في هذه الحرب (الولايات المتحدة). وكل ذلك يكون قبيل إعلان محكمة العدل الدولية عن قراراتها والتي قد تؤدي إلى انهيار مكانة إسرائيل، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات الداخلية لأسباب تتعلق بالمختطفين أو من تم إجلاؤهم من بيوتهم في شمال وجنوب إسرائيل، وكذلك لأسباب تتعلق بتكلفة الحرب الباهظة جدا والتي ستكون لها تداعيات بعيدة المدى على إسرائيل، وبالطبع استمرار الخسائر البشرية بالقتلى والجرحى من الجنود، وكل ذلك مع تعذر أو استحالة الحسم العسكري كما يرى غالبية الإسرائيليين من تجربة مئة يوم ونيف.

font change

مقالات ذات صلة