التحرك الأميركي الحاسم بشأن سوريا يرسّخ الهزيمة الإقليمية لإيران

الخطوة أغلقت الباب أمام طموحات طهران في استغلال هشاشة المشهد السوري

واس
واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض في 14 مايو

التحرك الأميركي الحاسم بشأن سوريا يرسّخ الهزيمة الإقليمية لإيران

أعلن الرئيس دونالد ترمب، خلال زيارته إلى الرياض في 13 مايو/أيار، رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وتبع ذلك، في اليوم التالي، لقاء جمعه بالرئيس السوري الشرع. وعلى الرغم من غياب التفاصيل الدقيقة في تصريحاته، فقد أكد ترمب عزمه على منح سوريا فرصة جديدة للنهوض والازدهار.

غير أن ما لم يحظ بالقدر نفسه من الاهتمام، رغم ثقله الاستراتيجي، هو أن هذه الخطوة وضعت حدا لصراع داخلي محتدم داخل الإدارة الأميركية، وأعادت رسم الاصطفافات بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وشركائها العرب والأتراك والأوروبيين من جهة أخرى. والأهم من ذلك، أنها أغلقت فعليا الباب أمام طموحات طهران في استغلال هشاشة المشهد السوري لإحياء مشروعها التوسعي المتمثل في "الهلال الشيعي".

يحمل هذا القرار في طياته أثرا تاريخيا بالغا، إذ جاء تتويجا لسلسلة من الانتكاسات التي لحقت بإيران ووكلائها، وأسهم في توحيد المجتمع الدولي حول قضايا الشرق الأوسط.

ورغم أن إسرائيل بدت في حالة من العزلة نتيجة نهجها العدواني تجاه حكومة الشرع وحليفتها التركية، فقد بدأت في الآونة الأخيرة تظهر مؤشرات على تغيّر في موقفها، تجسدت في نقاشات هدفت إلى خفض التصعيد مع أنقرة حول الملف السوري، خاصة في أذربيجان، إضافة إلى تصريحات أكثر إيجابية صدرت حديثا عن وزير خارجيتها المتشدد. لكن التحول الأهم تمثل في خطوة ترمب لتضييق الخناق على النفوذ الإيراني في سوريا، والسماح للجيش الإسرائيلي بتقليص وجوده العسكري على إحدى الجبهات، الأمر الذي عزز الشعور بالأمن في إسرائيل، وأسهم في استقرار أوسع على مستوى الإقليم.

ومع ذلك، لا يزال طريق التسوية طويلا وشاقا، بدءا بالاجتماع المقرر هذا الأسبوع في تركيا بين وزير الخارجية الأميركي ونظيره السوري. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات واضحة على موعد رفع العقوبات رسميا من قبل الكونغرس، إذ يختلف هذا المسار عن الاستثناء الرئاسي الذي استطاع ترمب إقراره بسرعة، بينما يتطلب قرار الكونغرس مسارا تشريعيا أطول. وعلى الرغم من أن ردود الفعل الأولية من الكونغرس جاءت إيجابية، فإن التفاصيل الدقيقة تبقى مهمة.

وفي هذه الأثناء، لا تزال واشنطن تُدرج "هيئة تحرير الشام"، التابعة للشرع، على لائحة المنظمات الإرهابية، ولا تزال تعتبر سوريا دولة راعية للإرهاب، كما أنها لم تعترف رسميا بالحكومة الجديدة التي يترأسها الشرع. وإضافة إلى ذلك فإن قائمة المطالب الأميركية، التي نُقلت إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال لقائه في بروكسل، ما زالت محل نقاش ومتابعة. ومن المتوقع أن يركز اجتماع الشيباني مع وزير الخارجية ماركو روبيو على هذه المطالب الجوهرية.

لا تزال إسرائيل تحتفظ بأوراق ضغط فعالة في مواجهة غريمتها تركيا، سواء عبر نفوذها في الجنوب السوري من خلال الطائفة الدرزية، أو ربما عبر قنوات تواصل ناشئة مع الشرع نفسه

وتتضمن قائمة المطالب الأميركية طيفا واسعا من القضايا الأمنية، تبدأ بدعوة دمشق إلى التعاون في استعادة المواطنين الأميركيين المفقودين، وتسوية الملفات العالقة المرتبطة بالأسلحة الكيماوية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل التي كان نظام الأسد يحتفظ بها.

كما تشمل المطالب التنسيق في مواجهة تنظيم "داعش"، سواء من الناحية العملياتية أو فيما يتعلق بالمعتقلين المحتجزين في مخيم الهول وغيره من المخيمات الواقعة في الشمال الشرقي. وتطالب واشنطن كذلك بمنح القوات الأميركية حرية تنفيذ عمليات لمكافحة الإرهاب في مختلف أنحاء سوريا، والتصدي لمجموعة كبيرة من التنظيمات المصنفة إرهابية، بدءا بـ"الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله"، وصولا إلى فصائل فلسطينية مقيمة منذ عقود في سوريا.

واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض في 14 مايو

وتشدد الولايات المتحدة أيضا على ضرورة الالتزام بتجنّب أي ممارسات قمعية ضد الأقليات، وتشكيل حكومة شاملة ومتنوعة، إلى جانب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لتطهيرها من العناصر الجهادية الأجنبية التي تتولى مواقع قيادية. كما حضّ الرئيس ترمب الرئيس الشرع على الانضمام إلى اتفاقات إبراهيم، والاعتراف بإسرائيل.

وبحسب مختلف المصادر، فقد جاء رد دمشق على هذه القائمة الطويلة من المطالب متباينا حتى الآن؛ إذ باشرت بتنفيذ بعض الخطوات بالفعل، فيما لا تزال مطالب أخرى، مثل منح تفويض رسمي للعمليات العسكرية الأميركية أو إقصاء قيادات عسكرية أجنبية بارزة، تواجه تعقيدات أمنية ودبلوماسية تتطلب تنسيقا محكما مع واشنطن. أما فيما يتعلق باتفاقات إبراهيم، فقد تبدو في الوقت الراهن بعيدة المنال، إلا أن الرئيس الشرع يُبدي اهتماما واضحا باتفاقات عام 1974 بين سوريا وإسرائيل.

وعلى الرغم من جرأة القرار الرئاسي، فلا تزال الكثير من التفاصيل الجوهرية بحاجة إلى حسم، كما أن الشكوك داخل إدارة ترمب بشأن الرئيس الشرع و"هيئة تحرير الشام" لم تتبدد بعد، وهو ما يفرض قدرا من الحذر قبل إعلان أي انتصار سياسي. ومع انقشاع الغبار عن هذا الإعلان، سيبدأ المحللون في التساؤل عن الجهة التي ستكون أكثر تأثيرا على الحكومة السورية الجديدة. هل ستكون تركيا، الحليف الأبرز، أم السعودية، أم الولايات المتحدة؟

رويترز
فتيات كشافة المهدي التابعة لـ"حزب الله" في لبنان يحملن صور علي فياض، أحد قادة "حزب الله" الذي قُتل أثناء القتال إلى جانب النظام السوري السابق، جنوب لبنان في 6 مارس 2016

في المقابل، لا تزال إسرائيل تحتفظ بأوراق ضغط فعالة في مواجهة غريمتها تركيا، سواء عبر نفوذها في الجنوب من خلال الطائفة الدرزية، أو ربما عبر قنوات تواصل ناشئة مع الشرع نفسه.

وأخيرا، تبرز مسألة روسيا كعامل لا يمكن تجاهله في المعادلة السورية. فقد شكّل سقوط نظام الأسد ضربة جيواستراتيجية موجعة لموسكو، خاصة بعد أن رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في عام 2019 خلال زيارة الوزير بومبيو إلى روسيا، مقترحا لحل وسط كان من شأنه إنهاء المستنقع السوري. ومنذ ذلك الحين، انخرطت روسيا في محادثات مع دمشق بهدف الحفاظ على قواعدها العسكرية قرب اللاذقية. ورغم العداء الذي نشأ خلال الحرب بين موسكو والحكومة السورية الجديدة، فإن الطرفين يتحليان بقدر من البرغماتية، ويُعتقد أن هذه المحادثات قد تؤدي إلى تفاهمات عملية.

الإعفاءات الرئاسية، رغم ما تتيحه من تسهيلات مؤقتة لتقديم المساعدات أو تمويل مشاريع تنموية محدودة، لا توفر الإطار القانوني المستقر الذي يحتاجه مجتمع الأعمال الدولي لتقديم استثمارات طويلة الأجل

اللافت في هذا السياق أن كلا من أنقرة وتل أبيب لا تبديان رغبة حقيقية في خروج الروس من سوريا، إذ تعتبران أن لموسكو دورا محتملا في توازنات الملف السوري، إلى جانب مصالح أخرى، لا سيما بالنسبة لتركيا، تتعلق بالأمن والدبلوماسية والاقتصاد، لا يبدو أن الرئيس أردوغان مستعد للتفريط بها من أجل مسألة ثانوية كوجود القواعد الروسية. أما الآن، ومع تبنّي ترمب لما يُعرف بـ"سوريا الجديدة"، فإن موقفه تجاه روسيا يكتسب أهمية خاصة، وقد يُستثمر كورقة مؤثرة في المفاوضات الجارية حول أوكرانيا، والتي تحظى بدعم أميركي واسع.

وبصرف النظر عن الخلفيات الجيوسياسية التي أحاطت بقرار ترمب، فإن رفع العقوبات يُعد مكسبا كبيرا للشعب السوري، إذ يفتح نافذة أمل حقيقية أمام جهود إعادة الإعمار، وهو التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد بعد تفادي الانزلاق مجددا إلى الفوضى والحرب الأهلية. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الحرب، التي استمرت أربعة عشر عاما، خلّفت دمارا يتجاوز 400 مليار دولار في البنية التحتية والاقتصاد. كما أدى النزاع إلى تهجير نحو نصف السكان، بينهم أكثر من ستة ملايين لاجئ في دول الجوار وأوروبا. وفي ظل استمرار العقوبات الأميركية الصارمة، والمعروفة باسم "قانون قيصر"، تصبح إمكانية إيصال المساعدات محدودة بسبب المخاوف من الملاحقة القانونية، سواء من الإدارة الحالية أو من إدارات مستقبلية.

رويترز
صناديق وحاويات تحتوي على مواد كيميائية داخل مصنع للكبتاغون على مشارف دمشق، سوريا في 12 ديسمبر 2024

علاوة على ذلك، فإن الإعفاءات الرئاسية، رغم ما تتيحه من تسهيلات مؤقتة لتقديم المساعدات أو تمويل مشاريع تنموية محدودة، لا توفر الإطار القانوني المستقر الذي يحتاجه مجتمع الأعمال الدولي لتقديم استثمارات طويلة الأجل، وهو المسار الأهم والأكثر فاعلية لإعادة إعمار البلاد. فالشركات تتطلب بيئة مستقرة وآمنة، وهو ما لا يمكن تحقيقه من خلال إعفاءات ظرفية أو مؤقتة.

وفي الختام، ومع تسارع التطورات الإقليمية الدراماتيكية في الآونة الأخيرة، من الهزيمة الإقليمية التي مُنيت بها إيران، مرورا بالتفكيك شبه الكامل لتنظيم الدولة الإسلامية، ووصولا إلى الإعلان عن حل جماعة "حزب العمال الكردستاني" الكردية المصنفة إرهابية في تركيا، تبدو إعادة دمج سوريا في محيطها فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة، قد تمهد لشرق أوسط أكثر ازدهارا واستقرارا وسلاما.

font change

مقالات ذات صلة