جولة ترمب الخليجية بعيون صينية... الرهانات تتقدم على المخاوف

بين واشنطن الضامنة وبكين الشريكة الخليج محصن من لعبة الاصطفاف

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الأعلام السعودية والأميركية على الطريق الرئيسي في الرياض في 12 مايو قبيل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمملكة

جولة ترمب الخليجية بعيون صينية... الرهانات تتقدم على المخاوف

تغير الكثير في الولايات المتحدة والشرق الأوسط والصين والعالم منذ زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى السعودية في 17 مايو 2017. وبعد سبع سنوات هزها وباء عالمي شل حركة العالم، أعقبته "أوبئة سياسية" تهدد ما تبقى من ركائز النظام الدولي، يترقب الشرق الأوسط عودة ترمب إلى المملكة هذا الأسبوع، وما ستحمله جولته الخليجية - التي تشمل كذلك الإمارات وقطر- إلى منطقة تعيش فوق بحر متلاطم من الأزمات.

بعد مشاركته السريعة في جنازة البابا فرانسيس في الفاتيكان، ستكون منطقة الخليج أولى محطات الرئيس الأميركي الخارجية، في مشهد يكتسب رمزية خاصة في ظل الانهيار المتسارع لمفهوم "الغرب الجماعي" واتساع الفجوة في الرؤى بين ضفتي الأطلسي، وتصاعد التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، ناهيك بتزايد الانقسامات بين القوى الدولية الكبرى، لكن أيضا وسط غموض متزايد لا سيما خلال العقدين الأخيرين حول تعريف طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة ودول الخليج.

من ناحية أخرى، تأتي هذه الجولة في وقت يسعى فيه ترمب إلى استقطاب استثمارات وأسواق جديدة، وسط حرب تجارية شاملة أطلقها بفرضه رسوما جمركية على واردات من نحو 70 دولة، ما أدى إلى انكماش الاقتصاد الأميركي بنسبة 0.3 في المئة خلال الربع الأول من العام الجاري.

وفي حساباته، فإن السعودية والإمارات وقطر لا تملك فقط صناديق سيادية تتجاوز قيمتها الإجمالية تريليوني دولار، بل تتمتع أيضا بمرونة استثمارية عالية وقدرة على ضخ رؤوس الأموال في قطاعات حيوية داخل الولايات المتحدة، من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلى الطاقة والبنية التحتية. وهي حسابات تتقاطع في مواضع وتتنافر في مواضع أخرى مع تطلعات دول الخليج إلى تنويع اقتصاداتها ومواردها المالية بعيدا عن الاعتماد على النفط.

يتفق الخبراء الصينيون على أن ملف الصين قد لا يحتل أولوية في جدول أعمال زيارة ترمب إلى المنطقة، وأن تنامي النفوذ الإقليمي لدول الخليج وسعيها إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية، سيمكنها من الحفاظ على علاقاتها مع واشنطن وبكين

في الوقت نفسه، تضفي المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة بين الولايات المتحدة بصفتها الضامن الأمني التقليدي في المنطقة، والصين باعتبارها الشريك الاقتصادي الأكبر، تضفي على جولة ترمب أبعادا تتجاوز الاقتصاد، لتلامس إعادة رسم موازين النفوذ في الخليج. ففي ظل تمدد بكين المتسارع والهادئ، تسعى واشنطن إلى ترسيخ حضورها الاستراتيجي، وتأكيد أن تحالفاتها التقليدية لا تزال قادرة على إنتاج شراكات فعالة في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة.

وفي ظل إعادة توجيهه حرب التعريفات الجمركية بشكل أساسي نحو الصين، وتخفيف حدة خطابه العدائي تجاه كبار الشركاء التجاريين الآخرين، مثل كندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، يطرح مراقبون تساؤلات حول موقع العلاقات الصينية-الخليجية على أجندة ترمب خلال جولته الخليجية. وتستند هذه التساؤلات إلى مرتكزين: الأول، يتعلق بتطورات الحرب التجارية وإمكانية لجوء واشنطن في مرحلة ما إلى الاستعانة بحلفائها وشركائها التقليديين لعزل الصين، بهدف دفعها إلى التفاوض أو لخفض سقف مطالبها وهو احتمال تراجع بعد الاتفاق المبدئي الذي توصلت إليه بكين وواشنطن في سويسرا حول خفض ملحوظ للتعريفات المتبادلة. أما المرتكز الثاني، فيتعلق بالدينامية الناتجة عن تفاعل عاملين: اشتداد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، وموقع الخليج المركزي في الاقتصاد العالمي، وهي دينامية تجعل من الصعب تصور تحييد المنطقة بالكامل عن هذا التنافس المتصاعد.

واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال لقائهما في قمة مجموعة العشرين في اوساكا، اليابان في 29 يونيو/حزيران 2019

وفي بكين، تسود مشاعر متضاربة حيال جولة ترمب. ويرى كثير من المسؤولين الصينيين أن الزيارة تمثل اختبارا دوريا لا مفر منه للعلاقات الخليجية-الصينية المتنامية، في ظل إدراك بكين لطبيعة العلاقة الاستراتيجية التي تربط واشنطن بدول الخليج، وعدم سعيها إلى أن تكون بديلا مباشرا للولايات المتحدة في المنطقة، دون أن يعني ذلك أنها غير معنية بملء أي فراغ قد تتركه واشنطن، أو أنها مستعدة للتغاضي عن أي فرصة متاحة، أو الالتزام بحصة محددة سلفا في الهندسة الإقليمية من دون سعي لتعزيز موقعها وتأثيرها.

ويتفق الخبراء الصينيون على أن ملف الصين قد لا يحتل أولوية في جدول أعمال زيارة ترمب إلى المنطقة، وأن تنامي النفوذ الإقليمي لدول الخليج وسعيها في السنوات الماضية إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية، سيمكنها من المضي في نهجها المتوازن والحفاظ على علاقاتها مع واشنطن وبكين.

تشير بيانات الاستثمارات الصينية إلى ضخ مبالغ ضخمة في مشاريع المدن الذكية، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، ما يتماشى مع أهداف التحول الرقمي والاقتصادي لدول الخليج

ويعتبر هؤلاء أن التنافس غير المتماثل بين أكبر اقتصادين في العالم، يحد من خطر تحويل منطقة الخليج إلى ساحة لحربهما التجارية، وبالتالي فإن توقعاتهم تبقى منخفضة بشأن احتمال أن يفرض ترمب ضغوطا لها علاقة بالحرب التجارية خلال زيارته إلى المنطقة.

ولطالما أكدت واشنطن علنا أنها لا تسعى إلى إجبار أي دولة على الاختيار بينها وبين الصين، لكنها في الوقت نفسه أبدت بوضوح معارضتها لتعزيز التعاون الصيني-الخليجي في قطاعات بعينها، لا سيما في المجالات العسكرية والنووية وتقنيات الاتصالات، إلى جانب المجالات المدنية ذات الاستخدام المزدوج، مبررة ذلك بمخاوف أمنية.

وباستثناء التحذيرات المتكررة التي أطلقها مسؤولون أميركيون بشأن خطورة بعض أوجه التعاون مع الصين، فإن واشنطن امتنعت عن ممارسة ضغوط مباشرة، خصوصا بعدما أدت محاولة مماثلة إلى نتيجة عكسية تمثلت في انسحاب الإمارات من برنامج مقاتلات"F-35" عقب تشديد الشروط الأميركية بذريعة تقارير عن بناء منشأة صينية يُشتبه في طابعها العسكري داخل ميناء خليفة بأبوظبي.

وكان أبرز تحرك أميركي لموازنة النفوذ الصيني في المنطقة هو مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" (IMEC)، الذي رُوج له غربيا كمنافس لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية، غير أن العواصم الخليجية كما الصين نفسها تعاملت معه كمبادرة مكملة تعزز موقع المنطقة كمحور لوجستي عالمي.

تطور نوعي للعلاقات التجارية

يلفت الخبراء الصينيون إلى أن العلاقات التجارية بين الصين ودول الخليج شهدت تطورا ملحوظا على المستويين الكمي والنوعي خلال السنوات الأخيرة، حيث انتقلت من شراكات تقليدية إلى تعاون متعدد الأبعاد في قطاعات استراتيجية. ويشير هؤلاء إلى أن التنافس بين بكين وواشنطن لا يظهر بوضوح في المجال التجاري البحت، إذ أصبحت الصين، منذ عام 2017، الشريك التجاري الأول لدول الخليج، متقدمة على الولايات المتحدة التي تراجعت في عام 2024 إلى المرتبة الرابعة بعد كل من الهند ودول الاتحاد الأوروبي.

ويوضح تشاو تشي جيون، الباحث والكاتب الصيني المتخصص في الشؤون الدولية، في تصريح لـ"المجلة"، أن حجم التبادل التجاري بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بلغ 286 مليار دولار في عام 2023. وفي عام 2024، تجاوز هذا الرقم حاجز 300 مليار دولار، بزيادة سنوية بلغت 12.7 في المئة، وهو ما يعكس تزايد الاعتماد المتبادل بين الجانبين، وتنامي الثقة في الشراكة الاقتصادية.

وفي مجال الطاقة، لا تزال الصين أكبر مستورد للنفط الخام من الخليج الذي يمثل حوالي 30 في المئة من واردات الصين النفطية، و10 في المئة من واردات الغاز الطبيعي. ويشير تشاو إلى أن التعاون في مجال الطاقة لم يعد يقتصر على التبادل التقليدي، بل تطور إلى شراكة في سلسلة الإنتاج الكاملة، بما في ذلك الاستكشاف المشترك، والمعالجة، والنقل، فضلا عن مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والهيدروجين.

وتشهد مجالات أخرى مثل التكنولوجيا المتقدمة والبنية التحتية الرقمية، تطورات مماثلة. وتشير بيانات الاستثمارات الصينية إلى ضخ مبالغ ضخمة في مشاريع المدن الذكية، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء الصناعي، ما يتماشى مع أهداف التحول الرقمي والاقتصادي لدول الخليج.

وقد ارتفعت استثمارات الصين في قطاعات التكنولوجيا والخدمات المالية في الخليج خلال عام 2024 بنسبة فاقت 20 في المئة، شملت مجالات التصنيع الذكي، والدفع الإلكتروني، والتمويل الأخضر.

وفي تطور لافت، من المقرر أن تحمل المهمة الصينية "تشانغ إيه-7" مركبة قمرية إماراتية إلى الفضاء، فيما سبق أن حمل القمر الصناعي "تشانغ إيه-4" أجهزة استشعار سعودية، في مؤشر واضح على الثقة المتبادلة في القدرات التقنية.

ويخلص تشاو إلى أن هذه المؤشرات تُظهر أن العلاقات بين الصين ودول الخليج تحولت من نموذج يعتمد على الطاقة إلى شراكة شاملة، ما يؤكد تنامي البعد التنموي والهيكلي لهذه العلاقات.

في المقابل، يلاحظ تشاو أن العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة ودول الخليج لا تزال تتركز في الأساس على مبيعات الأسلحة والتعاون الأمني. ويعتبر أن أحد أبرز دوافع زيارة ترمب إلى المنطقة هو السعي لتوقيع صفقات دفاعية جديدة، إلى جانب استقطاب رؤوس الأموال الخليجية إلى السوق الأميركية. إلا أن هذه المقاربة، بحسب تشاو، تفتقر إلى البُعد التنموي والتكامل المؤسسي الذي يميز الشراكة الصينية ـ الخليجية، وهو ما يجعل بكين لا تنظر إلى زيارة ترمب كعامل تهديد حقيقي.

يُقر مسؤولون وخبراء صينيون بأن الولايات المتحدة لا تزال- وستبقى، إذا رغبت- الفاعل الرئيس في الشرق الأوسط، غير أنهم يتساءلون عن طبيعة ما يمكن أن تقدمه واشنطن في المرحلة الراهنة

ويرى الدكتور لي زيكسين، الباحث في معهد الصين للدراسات الدولية، في تصريح لـ"المجلة"، أن "الإفراط الأميركي في توظيف مفاهيم الأمن القومي في المجال الاقتصادي" يمثل توجهاً غير مستدام، ينذر باضطرابات في الأسواق وأزمات اقتصادية.

ويؤكد لي أن البُعد الاقتصادي يشكل جوهر زيارة ترمب، مشيرا إلى أن تعهدات دول الخليج بضخ استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، إلى جانب الصفقات التجارية، ولا سيما في مجال الدفاع، كانت من الدوافع الرئيسة لاختيار الشرق الأوسط كأولى محطاته الخارجية مجددا.

لكنه يلفت إلى أن الأولوية الراهنة لدول الخليج تتمثل في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والتحول الصناعي، وهو ما يتطلب مزيدا من الانفتاح على الأسواق، وتعزيز تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتنويع الشراكات التكنولوجية، وبالتالي فهي ليست في وارد تقييد أنشطتها التجارية.

اختراقات دبلوماسية

في الوقت الذي ظلت فيه العلاقات الأميركية-السعودية تتحرك ضمن منطقة رمادية منذ عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، على خلفية الحديث الأميركي المتكرر، عبر الإدارات المتعاقبة، عن تحويل الاهتمام من الشرق الأوسط وإعادة التموضع في آسيا، استطاعت الصين تحقيق اختراقات دبلوماسية لافتة في المنطقة. ففي عام 2022، زار الرئيس شي جينبينغ السعودية، حيث عُقدت ثلاث قمم: صينية-سعودية، وصينية-خليجية، وصينية-عربية، على غرار القمم الأميركية-العربية الثلاث التي رافقت زيارة ترمب إلى المملكة في عام 2017.

غيتي
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود (يمين) يستقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ (يسار) في قصر اليمامة بالرياض، المملكة العربية السعودية، 8 ديسمبر 2022

وفي مارس/آذار 2023، نجحت بكين في رعاية اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران، في خطوة وُصفت بأنها تحول دبلوماسي نوعي. ومع اندلاع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاه من تصاعد في التوترات الإقليمية عبر خمس جبهات على الأقل، وجدت دول عربية كثيرة نفسها أقرب في الموقف إلى الصين، خصوصا لجهة التشديد على ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين في ظل دعم أميركي غير مشروط لإسرائيل.

ويُقر مسؤولون وخبراء صينيون بأن الولايات المتحدة لا تزال- وستبقى، إذا رغبت- الفاعل الرئيس في الشرق الأوسط، غير أنهم يتساءلون عن طبيعة ما يمكن أن تقدمه واشنطن في المرحلة الراهنة. في المقابل، يرون أن بكين باتت تتموضع بطريقة أكثر ملاءمة لمعالجة قضايا الإقليم. فالمفاوضات الأميركية مع إيران، على سبيل المثال، لم تحقق تقدما ملموسا، وسط تعقيدات داخل الإدارة الأميركية بين صقور يتبنون موقفا متشددا يتماهى مع الخط الإسرائيلي، وآخرين يؤيدون اعتماد دبلوماسية الصفقات.

في هذه الأثناء، نجحت السعودية في تحييد نفسها عن تداعيات أي تصعيد مع إيران، مستندة إلى تفاهم بكين الذي يقوم على مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل. ويشدد الصينيون على دورهم في صيانة هذا التفاهم وتحفيزه، كآلية للحد من احتمالات الانزلاق مجددا نحو العداء بين طهران والرياض، كما كان الحال في مراحل سابقة.

أما في الملف الفلسطيني، فرغم التسريبات عن خطة أميركية للمشاركة في إدارة غزة، يبدو فريق ترمب بعيدا عن المطالب العربية المتعلقة بضرورة التوصل إلى حل للأزمة في القطاع، في ظل غياب أي تصور واضح للأوضاع في غزة بعد وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية.  

كما أن الإدارة الجمهورية لا تملك تصورا متكاملا للاتفاق الشامل الذي سعت إليه إدارة بايدن، والذي كان يتضمن معاهدة دفاع مشترك بين واشنطن والرياض، ودعما أميركيا للبرنامج النووي السعودي، مقابل حوافز اقتصادية وانضمام المملكة إلى اتفاقات إبراهيم.

وبحسب التسريبات عشية الزيارة تتجه إدارة ترمب إلى تبني مبدأ فصل الدعم الأميركي للبرنامج النووي المدني السعودي عن التطبيع مع إسرائيل، وهو الاتجاه الذي بدأت إدارة سلفه الديمقراطي جو بايدن تميل إليه في أيامها الأخيرة. وهنا يبرز خصوصا دور الصين في التعاون النووي المدني مع الخليج. وكان لافتا انعقاد منتدى في الصين حول هذا الأمر الأسبوع الماضي تخلله توقيع اتفاق سعودي-صيني وذلك بعد أيام من تصريحات لوزير الطاقة الأميركي كريس رايت خلال زيارته إلى الرياض تحدث فيها صراحة أن واشنطن لا تحبذ قيام تعاون نووي صيني-سعودي.

ليس هناك قلق صيني من أن دول الخليج ستنحاز لطرف معين تحت ضغط ترمب

الدكتور تانغ تشي تشاو

وفي سياق موازٍ، أثار أداء إدارة ترمب مع الحوثيين وتشديد الحملة ضدهم لدفعهم إلى وقف الهجمات على الملاحة في البحر الأحمر، ثم وقف الضربات من دون اتفاق ببنود واضحة، أسئلة بشأن مستقبل جهود تسوية الأزمة اليمنية. ومن دون خطة أميركية شاملة تتضمن بعدا سياسيا يتيح إشراك أطراف النزاع اليمني، من المرجح أن يبقى الموقف الخليجي متحفظا، وهو ما ينسجم أيضا مع الرؤية الصينية.

تآكل العلاقات

يقول الدكتور لي أن النقاشات الجيوسياسية ستحتل حيزا مهما من زيارة ترمب. ويشير في هذا السياق إلى نهج الرئيس ترمب الذي يتسم بالحذر من المخاطر، فهو يُصعد الضغوط على خصومه في المنطقة، لكن هدفه النهائي هو الدفع نحو التفاوض باستخدام أدوات الإكراه، وذلك عبر تبني أساليب قصوى للحصول على مواقع تفاوضية مريحة.

ويرى لي أنه "إذا أبدت دول الخليج كرما تجاه ترمب، ثم وجدت نفسها أمام تصعيد أميركي جديد في النزاعات الإقليمية، فستُضطر حينها إلى إعادة تقييم الدور الأميركي في المنطقة وعلاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة".

من ناحيته، يرى الدكتور تانغ تشي تشاو، الباحث الأول في معهد دراسات غرب آسيا وأفريقيا، ومدير قسم الدراسات السياسية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ونائب رئيس وأمين عام الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط، أن الدول العربية والخليجية باتت تفهم جيدا طابع الدبلوماسية التبادلية (المبنية على المعاملات) التي يتبناها ترمب، وتُدرك أبعادها بوضوح بالنظر إلى التجربة السابقة معه في ولايته الأولى.

ويضيف أن مقترح ترمب بطرد الفلسطينيين من غزة، ومطالبته بحرية المرور في قناة السويس، وانحيازه لإسرائيل، تعزز بعض التصورات المتزايدة في المنطقة التي ترى أن الولايات المتحدة تتحول إلى حليف غير موثوق تماما.

ويقول تانغ إنه ليس هناك قلق صيني من أن دول الخليج ستنحاز لطرف معين تحت ضغط ترمب. وبرأيه لم تكن إدارة ترمب صادقة في رغبتها بتطوير العلاقات مع دول الخليج. ويعتبر أن الصين تعد في المقابل، "صديقا حقيقيا وشريكا متكافئا" للدول العربية، لافتا إلى أن بكين "قوة رئيسة لا غنى عنها في دعم التنمية الاقتصادية والتحول في الدول العربية، كما أنها المحرك الأساسي لعملية التصنيع وتطوير الصناعات التقنية المتقدمة فيها. وأن رأس المال والتكنولوجيا والسوق الصينية، وبشكل خاص روح التعاون الصادق والمتكافئ والمربح للطرفين، هي أمور لا تستطيع الولايات المتحدة أن تضاهيها".

تنافس غير متماثل

ولا تستبعد الدكتورة تشوتشو تشانغ، نائبة مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة فودان، والأستاذة المشاركة في كلية العلاقات الدولية والشؤون العامة في جامعة فودان، أن يصور ترمب التعاون مع الصين بوصفه "خيارا صفريا" خلال زيارته، لكنها تشير، في تصريح لـ"المجلة"، إلى أن قضايا ملحة مثل البرنامج النووي الإيراني والصراع في غزة من المرجح أن تتصدر جدول الأعمال. وبالتالي، من غير المتوقع أن تهيمن العلاقات الخليجية-الصينية على المحادثات.

مع وعيها لحجم التحالفات الأمنية التقليدية التي تجمع واشنطن بدول الخليج، تدرك بكين أن ميزان القوى الاقتصادي يميل لصالحها في هذه المرحلة

وتشير تشوتشو إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي دأبت على تنويع شراكاتها الاستراتيجية لتفادي الاعتماد المفرط على أي قوة عالمية واحدة، وبالتالي فإن الصين تتوقع أن تتجنب هذه الدول اتخاذ موقف حاسم بين أميركا والصين، نظرا لأن استقلاليتها الاستراتيجية تركز على البرغماتية الاقتصادية.

وتعتقد الخبيرة والأكاديمية الصينية أنه مع تنامي النفوذ الإقليمي والدولي لدول الخليج، فإنها تبدو في موقع يمكنها من الحفاظ على نهجها المتوازن، والمناورة بمهارة بين القوى الكبرى لضمان استمرار دورها المحوري.

أ.ف.ب
الأعلام الأميركية والسعودية ترفرف على الطرق السريعة في الرياض قبيل وصول ترامب إلى الرياض، المملكة العربية السعودية، 12 مايو

وترجح أن تتمكن دول الخليج من الحفاظ على حيادها وشراكاتها القوية مع كلتا القوتين، كما أظهرت من خلال استراتيجيات موازنة برغماتية، وترد ذلك إلى أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين ليس مباشرا أو موحد الطابع، بل هو تنافس غير متماثل، تحدده أولويات ومجالات تأثير مختلفة، حيث تركز كل قوة على ميادين نفوذ معينة. وتعتبر تشوتشو أن الشرق الأوسط ليس الساحة الرئيسة للنزاع الأميركي-الصيني، الذي يتمحور أساسا حول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتكنولوجيا، والتجارة، ما يمنح دول الخليج هامشا واسعا للمناورة.

في ضوء كل ما سبق، يبدو أن الصين تتابع جولة ترمب الخليجية بكثير من الحذر، ولكن من دون قلق استراتيجي. فمع إدراكها لحجم التحالفات الأمنية التقليدية التي تجمع واشنطن بدول الخليج، تدرك بكين أيضا أن ميزان القوى الاقتصادي يميل لصالحها في هذه المرحلة. ولا تتوقع القيادة الصينية أن يلجأ ترمب إلى الضغط على دول الخليج للانخراط في الحرب التجارية ضدها، خصوصا أن دول الخليج باتت تملك اليوم هامشا أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية، وهي لا تكتفي بالتحوط بين القوى الكبرى، بل أصبحت تلعب أدوار الوسيط وصانع التوازن.

في المحصلة، ففي ظلّ بيئة دولية متحولة، باتت منطقة الخليج شريكا لا يمكن تجاهله، لا ساحة صراع قابلة للاحتواء.

font change