دور قيادي للخليج في الذكاء الاصطناعي واحتدام التنافس الأميركي – الصيني

جيسون ليون
جيسون ليون

دور قيادي للخليج في الذكاء الاصطناعي واحتدام التنافس الأميركي – الصيني

رسخت الجولة الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب في منطقة الخليج بداية حقبة جديدة من الشراكة بين الولايات المتحدة ودول الخليج في مجال الذكاء الاصطناعي، شراكة تتجاوز قيمتها تريليونات الدولارات، وترتكز على القدرات الحسابية الأميركية، ورأس المال الخليجي، ووفرة الطاقة، إلى جانب التحول الاستراتيجي الأميركي عن السياسات المقيدة التي سادت في عهد الرئيس جو بايدن.

وراء هذا الزخم، تبرز طموحات الخليج في التحول إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي، بالتوازي مع إصرار واشنطن على الحد من النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة. فهل تنجح الولايات المتحدة؟

مقامرة أميركية في الذكاء الاصطناعي الخليجي

شكّلت زيارة الرئيس ترمب الأخيرة إلى منطقة الخليج لحظة فارقة في السباق العالمي على الذكاء الاصطناعي. وتشير الصفقات التي تُقدَّر بتريليونات الدولارات إلى إصرار واشنطن على ترسيخ تفوقها التكنولوجي، بينما تسعى دول الخليج إلى تثبيت موقعها كمركز عالمي مثالي لهذا القطاع الحيوي.

ففي السعودية، أعلن إلى جانب كبار قادة التكنولوجيا في وادي السيليكون عن تأسيس شركة ناشئة جديدة في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي تُدعى "هيوماين" بدعم من الدولة، على أن تضم 18 ألف شريحة متطورة من إنتاج "إنفيديا"، ضمن مركز بيانات بطاقة 500 ميغاواط.

توفّر الولايات المتحدة الأدوات التي تحتاجها دول الخليج للتحوّل التكنولوجي: شرائح متقدّمة، ونماذج رائدة في الذكاء الاصطناعي، وبنية تحتية حسابية تؤهّلها للمنافسة


أما في الإمارات، فقد حصلت أبوظبي على ترخيص لاستيراد ما يصل إلى مليون شريحة ذكاء اصطناعي من الولايات المتحدة. كما يُخطط لإنشاء حرم ذكاء اصطناعي جديد في العاصمة تحت اسم "ستارغيت"، بقدرة 5 غيغاواط، ليكون من بين الأكبر عالميا خارج الولايات المتحدة.

تعكس هذه الأرقام واقعا جديدا في الجغرافيا السياسية للذكاء الاصطناعي، حيث يبدو المنطق الاستراتيجي مغريا للطرفين. فدول الخليج تقدّم ما تحتاجه بشدّة شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية: رأسمال طويل الأجل، طاقة منخفضة التكلفة وموثوقة، وموقع جغرافي استثنائي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا.

تمتلك دول الخليج موارد مالية تتجاوز ميزانيات معظم الدول، إذ يُتوقَّع أن ترتفع ثروات دول مجلس التعاون الخليجي من 2.7 إلى 3.5 تريليون دولار بحلول عام 2026. وبالإضافة إلى السيولة المالية، توفّر هذه الدول موردا لا يقل أهمية: طاقة موثوقة ومستقرة تُعدّ عنصرا أساسيا في تطوير الذكاء الاصطناعي.

في المقابل، توفّر الولايات المتحدة الأدوات التي تحتاجها دول الخليج للتحوّل التكنولوجي: شرائح متقدّمة، ونماذج رائدة في الذكاء الاصطناعي، وبنية تحتية حسابية تؤهّلها للمنافسة في عصر تتسارع فيه الابتكارات. فالشركات الأميركية تهيمن على أكثر تصاميم الشرائح تطورا، وأدق مناهج تدريب الذكاء الاصطناعي، وأكبر تجمعات للخبرات والمهارات في هذا القطاع الحيوي.

وتُعد هذه الشراكة تحالفا طبيعيا بين أطراف تتكامل قدراتها، في زمن يتطلب فيه تطوير الذكاء الاصطناعي موارد هائلة تعجز دولة واحدة عن توفيرها بمفردها.

يفسر هذا البُعد الطاقي أيضا انفتاح الشركات الأميركية على تقاسم تقنياتها المتقدمة مع شركائها الخليجيين


حسابات الطاقة في عصر الذكاء الاصطناعي

تزداد الشراكة بين الولايات المتحدة ودول الخليج إقناعا عند النظر إلى التحديات الطاقية التي تواجهها واشنطن في عصر الذكاء الاصطناعي. فالارتفاع الكبير في استهلاك الطاقة من قبل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب ازدياد تكاليف الطاقة في الداخل الأميركي، أسهما في تقليص الفجوة بين التفوق الأميركي ونظيره الصيني، الذي يستفيد من كهرباء منخفضة الكلفة ومنشآت ضخمة للطاقة المتجددة.

وبفضل الطاقة الرخيصة والوفيرة– التي تبلغ في بعض المناطق نحو 0.03 دولار لكل كيلوواط/ساعة– تبدو منطقة الخليج خيارا مثاليا لاستضافة مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي كثيفة الاستهلاك للطاقة، والتي قد تصل بحلول 2028 إلى استهلاك 12 في المئة من إجمالي الكهرباء في الولايات المتحدة إذا أُنشئت هناك. أما المنشآت التي تخطط السعودية والإمارات لبنائها، بقدرات تُقاس بالغيغاواط، فستعمل كمراكز دعم خلفية للذكاء الاصطناعي في الأسواق الناشئة عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، عبر تصدير القدرة الحاسوبية باستخدام التقنيات الأميركية.

توفّر هذه الميزة الطاقية حوافز قوية لشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية لتوسيع حضورها في الخليج. وقد عملت الإمارات على بناء قدراتها في هذا المجال بشكل منهجي منذ تعيين أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم، فيما تخطط السعودية لإقامة مراكز بيانات ضخمة تعتمد على مزيج من الطاقة التقليدية والمتجددة.

AFP
امرأة تسير أمام جناح مدينة مصدر في معرض القمة العالمية لطاقة المستقبل بأبوظبي

ويفسر هذا البُعد الطاقي أيضا انفتاح الشركات الأميركية على تقاسم تقنياتها المتقدمة مع شركائها الخليجيين. ففي هذا السياق، تستثمر "غوغل كلاود" وصندوق الاستثمارات العامة السعودي 10 مليارات دولار لبناء وتشغيل مركز ذكاء اصطناعي مشترك في المملكة. كما أعلنت "أمازون ويب سيرفيسر" و"هيوماين" عن استثمار بقيمة 5 مليارات دولار لإنشاء "منطقة ذكاء اصطناعي" في السعودية لتطوير خدمات متقدمة. وتُعد هذه المبادرات استجابة استراتيجية لحسابات الطاقة الجديدة في مسار تطور الذكاء الاصطناعي.

يتماشى هذا النهج القائم على المصدر المفتوح تماما مع تطلعات الخليج نحو تحقيق السيادة التكنولوجية


تُهيمن الصين على سلسلة إمداد الثورة الخضراء، ما يمنحها نفوذا كبيرا في مسار التحول العالمي للطاقة، وهو ركيزة أساسية لتطور الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا تزال دول الخليج حتى الآن تعتمد بشكل رئيس على مصادر الطاقة التقليدية في تشغيل بنيتها التحتية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، ما يخلق ديناميكية استراتيجية مغايرة.

وتمنح البنية الطاقية المتقدمة دول الخليج قدرا من الاستقلالية الاستراتيجية في سباق الذكاء الاصطناعي، إذ تتيح لها توفير بنية تحتية قادرة على خدمة أنظمة تكنولوجية متعددة في آن واحد. وسواء دُرِّبت نماذج الذكاء الاصطناعي على شرائح أميركية أو صينية، فإنها جميعا تحتاج إلى بنية تحتية طاقية ضخمة وموقع جغرافي محوري، وهذان العنصران تمتلكهما دول الخليج بوضوح.

الخيار الصيني: المصدر المفتوح كأداة للتبني العالمي

خلف ما يبدو انتصارا أميركيا واضحا، تتوارى حقيقة أكثر تعقيدا في المشهد الخليجي. فعلى الرغم من تصدّر شراكات الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة ودول الخليج لعناوين الأخبار، فإن هذه الدول تنتهج في الوقت ذاته ما يمكن وصفه بتحوّط تكنولوجي عالي المستوى.

فقد باتت ملامح القوة لدى الأطراف الكبرى في جغرافيا الذكاء الاصطناعي أكثر وضوحا: الولايات المتحدة تهيمن على القدرات الحوسبية وتصميمات الشرائح، ودول الخليج توفّر احتياطيات مالية هائلة وبنية طاقية غزيرة، في حين تطرح الصين بدائل منخفضة التكلفة، مفتوحة المصدر، في مجال الذكاء الاصطناعي، إلى جانب حلول فعّالة للطاقة المتجددة.

وعلى الرغم من تخلّف الصين في مجال الشرائح المتقدمة، فقد طورت قدرات بديلة حيوية تجعلها شريكا مغريا لدول الخليج ضمن استراتيجيات التحوط الذكية. إذ تسد النماذج الصينية للذكاء الاصطناعي الفجوة تدريجيا مع نظيراتها الأميركية، وتُشغَّل بتكاليف منخفضة للغاية. كما يوفر نهج الصين المعتمد على المصدر المفتوح سيادة تكنولوجية لا توفرها الأنظمة الأميركية ذات الطبيعة الاحتكارية.

في يناير/كانون الثاني، فاجأت شركة "ديب سيك"، وهي شركة صينية ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، العالم التكنولوجي من خلال نهجها الفعّال في استهلاك الموارد، وذلك بإطلاق نموذج متقدّم يتحدى هيمنة وادي السيليكون. وعلى عكس "تشات جي بي تي" التابع لشركة "أوبن إيه آي" ونظرائه من شركات وادي السيليكون التي تحتكر نماذجها وبياناتها وخوارزمياتها، تتبنى "ديب سيك" سياسة المصدر المفتوح، ما يجعل تقنياتها متاحة للجميع: للتحميل، والنسخ، والتطوير.

يتماشى هذا النهج القائم على المصدر المفتوح تماما مع تطلعات الخليج نحو تحقيق السيادة التكنولوجية. إذ تتجه شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، من عمالقة مثل "بايدو" إلى شركات ناشئة كـ"مانوس إيه آي"، بشكل متزايد نحو نماذج التراخيص المفتوحة، ما يخلق لحظة تشبه "لحظة أندرويد"، حين حوّل نهج "غوغل" في الهواتف المحمولة إلى منظومة ابتكار عالمية.

تمنح هذه الشراكة دول الخليج خيارات تقنية بديلة في حال قررت واشنطن مجددا استخدام ضوابط تصدير الذكاء الاصطناعي كسلاح جيوسياسي ضد المنطقة


كما أن العوامل الاقتصادية لا تقل جاذبية. فقد أعلنت "ديب سيك" أن تكلفة تدريب نموذجها "في-3" بلغت 6 ملايين دولار فقط، أي نحو 6 في المئة من تكلفة "تشات جي بي تي-4"، وباستخدام ما يقارب عُشر القدرة الحوسبية المطلوبة لنموذج "لاما-3.1" من شركة "ميتا". وبالنسبة للمطورين الخليجيين الساعين إلى بناء قدرات محلية دون الاعتماد على موارد حوسبة ضخمة، تُعد النماذج الصينية بدائل واعدة لأنظمة الذكاء الاصطناعي الأميركية.

لكن الأهم من ذلك أن الذكاء الاصطناعي الصيني يمنح دول الخليج ورقة ضغط حقيقية في مسارها التنموي الاستراتيجي. فوجود بدائل صينية موثوقة يعزّز الموقف التفاوضي الخليجي بشأن نقل التكنولوجيا، والتسعير، والالتزامات الاستراتيجية من جانب الشركات الأميركية.

المسألة لا تدور حول المفاضلة بين واشنطن وبكين، بل حول تحوّط ذكي. الهدف هو تفادي تحوّل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية إلى نقطة ضعف استراتيجية.

استراتيجية التحوط: انتشار "ديب سيك" في الخليج

تجسّد تعقيد استراتيجية التحوّط الخليجية حين بدأت شركة "ديب سيك" الصينية للذكاء الاصطناعي تشغيل أنظمتها عبر مراكز البيانات التابعة لـ"أرامكو ديجيتال" في الدمام، شرق المملكة العربية السعودية، في خطوة تُعد تطورا مهماً ضمن البنية التحتية المتنامية للذكاء الاصطناعي في المملكة. هذا الانتشار يُمثل حضورا صينيا تقنيا داخل أراضي أحد أبرز الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة، كخيار بديل يلفت الانتباه في ظل الشراكات الأميركية.

وقد صيغ هذا الترتيب بعناية لتفادي أي صدام مباشر مع المصالح الأميركية. إذ تلبّي استراتيجية توطين البيانات هواجس السيادة، وتمنح في الوقت ذاته دول الخليج إمكانية الوصول إلى القدرات الصينية بما يُكمل الشراكات الأميركية بدلا من أن يتعارض معها.

ما يجعل هذا الانتشار لافتا جيوسياسيا هو توقيته وآليته. إذ قد يمنح وجود "ديب سيك" في الخليج إمكانية الوصول إلى بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي، قد تشمل شرائح خاضعة للقيود الأميركية، وذلك عبر ترتيبات تأجير بدلا من التملّك المباشر، في ما يشبه "مقايضة جيوسياسية" تستثمر تعقيدات مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي.

وتمنح هذه الشراكة دول الخليج خيارات تقنية بديلة في حال قررت واشنطن مجددا استخدام ضوابط تصدير الذكاء الاصطناعي كسلاح جيوسياسي ضد المنطقة. وبدلا من الارتهان إلى نموذج واحد، تستطيع الشركات في الشرق الأوسط دمج نماذج متعددة، مثل "أوبن إيه آي"، و"فالكون"، و"ديب سيك"، لتحقيق أداء أعلى، وتكاليف أقل، وتحوط أوسع من المخاطر الجيوسياسية. فهذه الاستراتيجية تُوزّع مخاطر تطوير الذكاء الاصطناعي في الخليج بعيدا عن الاعتماد على شريك تقني وحيد.

والمفارقة لافتة. ففي الوقت الذي تضخ فيه دول الخليج استثمارات ضخمة في تقنيات الذكاء الاصطناعي الأميركية، تتعاون بالتوازي مع التكنولوجيا الصينية، كخيار تحوّطي يحميها من الارتهان المفرط للمنصات الأميركية.

وينتج عن هذا الواقع نمط من الاعتماد التقني المتبادل والمعقّد، تتشابك فيه الشراكات داخل الخليج عبر ترتيبات متعددة الأبعاد ومع أطراف متباينة.

تخشى واشنطن أن تُقدم الشركات الأميركية على نقل مراكز بياناتها، التي تشكّل العمود الفقري لتطوير الذكاء الاصطناعي، إلى الخليج


تحدي ضوابط التصدير

يزداد المشهد الثلاثي العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي تعقيدا، بقيادة الولايات المتحدة، والصين، ودول الخليج، بفعل ضوابط التصدير الأميركية المصممة للحد من وصول بكين إلى الشرائح المتقدمة المنتَجة أميركيا.

وبالنسبة لدول الخليج، تخلق هذه القيود مزيجا من الفرص والمخاطر. فمن جهة، تُضفي القيود المفروضة على الصين مزيدا من الأهمية على الشراكات الخليجية مع الشركات الأميركية، إذ توفر دول الخليج لهذه الشركات إمكانية الوصول إلى أسواقها ومواردها الطاقية، فضلا عن مواقع بديلة لنشر الأنظمة المتقدمة، التي قد تُمنع في أماكن أخرى.

لكن من جهة أخرى، قد تُهدّد تلك الضوابط استراتيجيات التحوّط الخليجية. فإذا فُرضت قيود على الشركات الأميركية تمنعها من نشر تقنياتها في بلدان تقيم شراكات موازية مع الصين، فقد تُجبر دول الخليج على الاختيار بين التكنولوجيا الأميركية وعلاقاتها التشغيلية مع بكين، وهو خيار من شأنه أن ينسف فلسفة التحوّط التي تضمن مرونتها الاستراتيجية.

ويتمثل التحدي الأكبر أمام دول الخليج في الحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من الولايات المتحدة والصين، دون تجاوز خطوط حمراء قد تُفعل قيود التصدير. ويتطلب ذلك إدارة دقيقة للتحالفات التشغيلية، وتدفق الاستثمارات، وآليات نشر التكنولوجيا، لتجنّب فقدان الخيارات الاستراتيجية.

خطوة محدودة ومتأخرة؟

جاء رد واشنطن، كالعادة، متسما بالتوجس والانفعال. فالمعضلة الأساسية تكمن في محاولتها التوفيق بين التعاون الاقتصادي ومبدأ "أميركا أولا"، ضمن استراتيجية تنطوي على تناقض داخلي.

يتمثّل القلق الآني لدى بعض المسؤولين الأميركيين في احتمال تسرب الشرائح المتقدمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي إلى الصين، عبر السعودية أو الإمارات أو عبر أطراف ثالثة.

AFP
الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يقف مع قادة دول الخليج قبل اجتماع مجلس التعاون الخليجي في الرياض

وعلى المدى الأبعد، تخشى واشنطن أن تُقدم الشركات الأميركية على نقل مراكز بياناتها، التي تشكّل العمود الفقري لتطوير الذكاء الاصطناعي، إلى الخليج، حيث يمكن خفض التكاليف بدرجة كبيرة، بدعم سياسي، مقارنة بما هو ممكن داخل الأراضي الأميركية. وبينما تسعى إدارة ترمب لإعادة التصنيع إلى الداخل، يبدو أن البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بدأت بالفعل تتجه نحو الخارج.

لم يعد السؤال: هل ستُعيد الشراكات الخليجية تشكيل مشهد الذكاء الاصطناعي عالميا؟ بل: هل سيتمكّن الآخرون من التكيف بالسرعة الكافية للحفاظ على دورهم في النظام الدولي الجديد؟


ويُضاعف البعد الطاقي من هشاشة الموقف الأميركي. إذ يسعى الجمهوريون إلى تقليص الدعم لمصادر الطاقة المتجددة، كالطاقة الشمسية والرياح، ما يزيد من تراجع القدرة التنافسية للطاقة الأميركية. وفي الوقت الذي تُسرّع فيه الصين من وتيرة نشر الطاقة النظيفة، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تُقوّض "عمدا" مسار انتقالها إلى مصادر طاقة أكثر استدامة، وهي ركيزة أساسية في معادلة التنافس في عصر الذكاء الاصطناعي.

أما على الصعيد التكنولوجي، فلا يقل المشهد زخما. فقد طوّرت الإمارات نماذج لغوية متقدمة مثل "فالكون"، ومنصة "ASK71"، القادرة على توليد رؤى مؤتمتة انطلاقا من المعرفة المتوفرة، وقد اعتُمدت رسميا على مستوى وزارات الدولة، بدعم من مساعدين ذكيين ثنائيي اللغة (عربي–إنكليزي) لتبسيط الخدمات العامة. وهذا لا يُعد تبنّيا للتكنولوجيا فحسب، بل بناء لقدرات محلية قد تنافس لاحقا النماذج الأميركية في الذكاء الاصطناعي.

هل أصبح الخليج قطبا جيوسياسيا جديدا؟

يعكس اهتمام السعودية والإمارات مؤخرا بتكتل "بريكس"،  الذي كان يضم سابقا البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وأصبح اليوم منظمة موسعة من عشرة أعضاء، تحوّلات عميقة في بنية النظام الدولي. وتعمل دول الخليج على ترسيخ موقعها كجسر استراتيجي بين الشرق والغرب، من خلال انتهاج سياسة تحوّط مدروسة، وبناء علاقات اقتصادية تقلّل من اعتمادها على الشركاء الغربيين التقليديين.

وتسعى هذه الدول، بوتيرة متسارعة، إلى توسيع نفوذها في المناطق المجاورة، لا سيما آسيا الوسطى (أوزبكستان، طاجيكستان، كازاخستان وغيرها) وأفريقيا،  وهي مناطق سبقتها إليها الشركات الصينية ضمن مبادرة "الحزام والطريق". وينتج عن هذا التفاعل ما يشبه "التأثير المضاعف"، حيث تتكامل التكنولوجيا الصينية مع رأس المال الخليجي لإعادة رسم أنماط التنمية في بلدان الجنوب العالمي.

أصبح التحكم في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والطاقة عاملا حاسما في رسم ملامح الازدهار الاقتصادي، والتفوق التكنولوجي، والقوة الجيوسياسية. ويُظهر النموذج الخليجي أن  المستقبل لا تُحدده القوى العظمى التقليدية وحدها، بل تُعيد تشكيله تحالفات استراتيجية تجمع بين عناصر القوة المتكاملة في مجالات متعددة.

ومع التقدّم في عقد العشرينات، لم يعد السؤال: هل ستُعيد الشراكات الخليجية تشكيل مشهد الذكاء الاصطناعي عالميا؟ بل: هل سيتمكّن الآخرون من التكيف بالسرعة الكافية للحفاظ على دورهم في النظام الدولي الجديد؟ إذ يبدو أن مرحلة الهيمنة التكنولوجية الأميركية تقترب من نهايتها، لتحل محلها مرحلة عالم متعدد الأقطاب، تُعاد فيه موازين النفوذ لمن يتقن الجمع بين الطاقة والتكنولوجيا والتحالفات الذكية. وفي هذا السياق، تُظهر الصين ودول الخليج استعدادا أوضح من غيرهما لمواكبة هذا التحول.

font change