موسم هجرة شركات التكنولوجيا العملاقة الى السعودية

متجر "أبل" في السعودية...

شركة الدرعية
شركة الدرعية
ساحة الدرعية بالرياض

موسم هجرة شركات التكنولوجيا العملاقة الى السعودية

بدا واضحا منذ أن أعلنت شركة "أبل" اختيار العاصمة الرياض مقرا لأول أكاديمية تطوير برمجيات لها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2021، أن العلاقة بين عملاق التكنولوجيا الأميركي والمملكة العربية السعودية تدخل مرحلة جديدة من الشراكة العميقة والاستثمار الطويل الأمد. فالأكاديمية التي خُصصت في مرحلتها الأولى لتمكين المطورات والمبرمجات السعوديات، لم تكن مجرد مبادرة تعليمية، بل خطوة استراتيجية تتقاطع مع مستهدفات "رؤية 2030" في تمكين المرأة، وتعزيز الاقتصاد الرقمي، وتوطين التقنية.

جاء هذا الإعلان في وقت تتسارع فيه خطى المملكة نحو التحول الرقمي، ووسط دعم حكومي غير مسبوق للقطاع التقني، وقد شكلت الشراكة بين "أبل" من جهة، وكل من أكاديمية "طويق" وجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن من جهة أخرى، مظهرا فريدا من مظاهر التعاون بين القطاع الخاص العالمي والمؤسسات المحلية لتأهيل جيل جديد من رائدات الأعمال في مجالات البرمجة وتصميم التطبيقات وتطوير الأعمال.

وفي هذا السياق من التوسع المعرفي والاستثماري، أطلقت "أبل" أخيرا متجرها الإلكتروني وتطبيق "أبل ستور" رسميا في المملكة، للمرة الأولى مع دعم شامل باللغة العربية، معلنة بذلك دخولها المباشر إلى سوق التجزئة السعودي بخدمات متكاملة. هذا التوسع ليس منعزلا عن الأكاديمية، بل يشكل امتدادا طبيعيا له، في وقت تمهد فيه الشركة لافتتاح أول متجر فعلي لها في منطقة الدرعية عام 2026، في تمازج رمزي بين التقنية والهوية التاريخية.

بهذه الخطوات المتكاملة، تعيد "أبل" رسم استراتيجيتها في المنطقة، ليس فقط كمزود للتكنولوجيا، بل كشريك تنموي واقتصادي وتعليمي، يراهن على الإمكانات المحلية والعقول الشابة السعودية لبناء مستقبل رقمي مستدام.

محرك اقتصادي

يحتل قطاع التكنولوجيا موقع الصدارة في أولويات دول المنطقة، وخاصة دول الخليج التي تحولت إلى مراكز إقليمية وعالمية رائدة في هذا المجال. وتبرز السعودية كأحد كبار المستثمرين عالميا في التقنيات المتقدمة وصناعة الرقائق الإلكترونية، حيث لا تتعامل مع هذا القطاع باعتباره مجرد محرك اقتصادي، بل تنظر إليه كأداة استراتيجية لتحديث بنيتها التحتية الرقمية. وتعمل المملكة على ذلك من خلال شراكات مع شركات عالمية متفوقة في توظيف التكنولوجيا لخدمة الإنسان، وتوسيع تطبيقات إنترنت الأشياء في مدن ومشاريع تعتمد على الأتمتة والذكاء الاصطناعي، مثل "ذا لاين" و"أوكتاغون"، المتوقع أن تكون من بين أقل مناطق العالم من حيث انبعاثات الكربون.

خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرياض في مايو/أيار 2025، رافق وفده عدد من أبرز رؤساء الشركات التكنولوجية العالمية مثل سام ألتمان (أوبن أيه آي)، وآندي جاسي (أمازون)، وجينسن هوانغ (انفيديا)، بالإضافة إلى قيادات من شركات كبرى مثل "غوغل" و"سكيل أيه آي" وغيرهم.

وخلال فعاليات منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي الذي عقد بين 13 و14 مايو/أيار 2025، أعلنت صفقات ضخمة تجاوزت 600 مليار دولار، تعكس تحولا نوعيا في آلية التعاون الاقتصادي بين البلدين.

الاتفاقات لم تكن مجرد أرقام، بل تنبع من رؤية سعودية طموحة لتأسيس بنية تحتية رقمية قوية، عبر شراكة استراتيجية تضع السعودية في قلب التحول التقني العالمي

وخلال فعاليات ذلك المؤتمر، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، جنسن هوانغ، أن شركته ستزود شركة "هيوماين" السعودية أكثر من 18,000 من رقائقها المتطورة "GB300 Blackwell"، لاستخدامها في مركز بيانات ضخم بقدرة 500 ميغاوات داخل المملكة. وتعد "هيوماين" – التي أُطلقت رسميا بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتخضع لملكية صندوق الاستثمارات العامة – مشروعا استراتيجيا يستهدف تطوير أبرز تقنيات الذكاء الاصطناعي في المنطقة، وفي مقدمها نماذج لغوية كبيرة باللغة العربية، إلى جانب إنشاء بنية تحتية متقدمة للحوسبة السحابية ومراكز البيانات. وأكد هوانغ أن هذه الشراكة تعكس رؤية غير مسبوقة للمملكة في بناء قدرات الذكاء الاصطناعي محليا والمساهمة في رسم ملامح مستقبل هذه التقنية عالميا.

 كما أبرمت شركة "أيه أم دي" العملاقة اتفاقا بقيمة 10 مليارات دولار أيضا مع "هيوماين" لبناء بنية تحتية ضخمة للذكاء الاصطناعي ضمن السقف الزمني والطاقة المستهدفة وأعلنت "أمازون" استثمارا يزيد على 5 مليارات دولار لإنشاء ما يُعرف بـ"أيه آي زون" داخل السعودية بالتعاون مع "هيوماين"، في خطوة تهدف إلى بناء منظومة متكاملة لدعم التطبيقات الذكية والخدمات السحابية.

AFP
صورة التُقطت في مدينة جدة الساحلية السعودية على البحر الأحمر

إلى جانب ذلك، التزمت شركات مثل "غوغل" و"أوركل" و"سيلفورس" و"أوبر" باستثمارات تقنية جماعية تقدّر بنحو 80 مليار دولار، لتطوير الخدمات الرقمية والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي في السعودية والولايات المتحدة، علاوة على ذلك، أعلنت شركة "داتا فولت" السعودية أنها ستستثمر 20 مليار دولار في مراكز بيانات البنية التحتية للطاقة والذكاء الاصطناعي داخل الولايات المتحدة، ضمن إطار التعاون التكنولوجي المتبادل.

هذه الاتفاقات لم تكن مجرد أرقام، بل تنبع من رؤية سعودية طموحة لتأسيس بنية تحتية رقمية قوية، عبر شراكة استراتيجية تضع السعودية في قلب التحول التقني العالمي، وتفتح الباب أمام عشرات الشركات لتوسعة حضورها داخل المملكة، بخاصة تلك العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي والخدمات السحابية المتقدمة.

موسم الانتقالات

تعود بداية موسم توافد الشركات التكنولوجية إلى المملكة عند عام 2021 تقريبا عندما أعلن وزير الاتصالات وتقنية المعلومات فيصل السواحة قدوم عشر شركات تكنولوجية إلى الرياض وذلك خلال أول نسخة من قمة الذكاء الاصطناعي، ويبدو أنه مستمر حتى يحين وقت الحصاد الأكبر في الوقت الذي حددته الرؤية السعودية عند عام 2030.

 ومثّل العام الماضي ذروة موسم التوسع لعدد من الشركات التي كشفت عن مجموعة من البرامج والمشاريع، من ضمنها إعلان شركة "تيك توك" على هامش فعاليات مبادرة مستقبل الاستثمار عزمها على افتتاح مقرها الإقليمي، في العاصمة الرياض خلال العام الجاري، كما أبرمت "غوغل كلاود" شراكة مع صندوق الاستثمارات لإنشاء مركز للذكاء الاصطناعي في المنطقة الشرقية.

وتأتي هذه الخطوة بالتوازي مع ازدهار بيئة الشركات الناشئة، وزيادة الاستثمار في التعليم التقني، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية الرقمية، مما يجعل السوق السعودية بيئة واعدة لعمالقة التكنولوجيا الذين يسعون لتعزيز وجودهم المباشر فيها

وجاء إعلان شركة "أبل" في 22 يوليو/تموز الماضي بإطلاق متجر إلكتروني باللغة العربية للسوق السعودية، تمهيدا لإكمال لخطة "أبل" نحو التوسع في المملكة حيث كشفت في العام المنصرم عن نيتها للافتتاح فرعا إقليميا في منطقة الدرعية بالإضافة إلى مدن عدة، وتتمتع الشركة بشريحة واسعة من العملاء السعوديين الذين يعتمدون على نظام "آي أو أس" الخاص بها فضلا عن استخدامهم للخدمات التي توفرها الشركة مثل "أبل باي".

وتمثل الخطوة منعطفا مهما في علاقة "أبل" مع السوق السعودية، إذ تتيح للمستخدمين شراء جميع منتجات الشركة مباشرة من موقعها الإلكتروني أو التطبيق، دون الاعتماد على الوكلاء أو أطراف وسيطة، في تجربة رقمية تتماشى مع المعايير العالمية التي تطبقها الشركة في أسواقها المتقدمة.

ولأول مرة، تقدم "أبل" دعما مباشرا باللغة العربية على مستوى البيع والتواصل والدعم الفني داخل المتجر الرقمي، وهو ما وصفته "ديردري أوبراين" نائبة الرئيس الأول لقسم التجزئة في الشركة، بأنه "طريقة جديدة للتفاعل مع العملاء الشغوفين بالتكنولوجيا في المملكة"، مؤكدة أن المستخدمين سيتمكنون من استكشاف منتجات الشركة وطلبها بسهولة، إلى جانب خدمات الدعم الفني والإعداد الشخصي.

كما كشفت "أبل" عن نيتها افتتاح أول متجر فعلي لها في المملكة عام 2026، وتحديدا في منطقة الدرعية التاريخية – أحد أبرز مواقع التراث العالمي المدرجة على قائمة اليونسكو – وهي خطوة رمزية بقدر ما هي استراتيجية، إذ تجمع بين التكنولوجيا والهوية الوطنية السعودية، في موقع يعكس التحول الحضاري والاقتصادي الذي تمر به المملكة ضمن "رؤية 2030". وسيكون المتجر الفعلي ضمن خطة للتوسع في قطاع التجزئة في الخليج، ويأتي بعد سنوات من الاكتفاء بالحضور عبر وكلاء أو عبر الإنترنت، وهي سياسة انتهجتها "أبل" سابقا في أسواق مثل الإمارات قبل افتتاح متاجرها الفعلية في دبي وأبو ظبي.

يقدم متجر "أبل" الإلكتروني في السعودية تجربة متكاملة تتجاوز فكرة التسوق التقليدي، إذ يوفر مجموعة من الخدمات المصممة خصيصا لتلبية احتياجات المستخدم المحلي، من بينها دعم فني مباشر للمساعدة في إعداد الأجهزة الجديدة أو نقل البيانات، إلى جانب برنامج "أبل تريد إن" الذي يتيح استبدال الأجهزة القديمة برصيد لشراء أجهزة جديدة أو إعادة تدويرها مجانا. كما يوفر خيارات دفع مرنة بالتقسيط بدون فوائد عبر "تمارا"، وبرنامج "أبل كير بلس" الذي يضمن تغطية شاملة ودعما فنيا لمدة عامين، إضافة إلى حسوم تعليمية خاصة لطلاب التعليم العالي والمعلمين ضمن حملة "العودة إلى المدارس" التي تتضمن عروضا حصرية، منها الحصول على سماعات AirPods مجانية عند شراء أجهزة مؤهلة قبل نهاية سبتمبر/أيلول.

لا يمكن فصل تحرك "أبل" عن ديناميكية التحول الاقتصادي والتكنولوجي في السعودية، فالسوق تشهد طفرة في استخدام الأجهزة الذكية، وتزايدا في معدل تصفح الإنترنت وخدمات التجارة الإلكترونية.

يساهم المجتمع السعودي بشكل غير مباشر في تحفيز نمو الأسواق التكنولوجية عبر الإقبال المتزايد على استخدام الحلول الرقمية


وتأتي هذه الخطوة بالتوازي مع ازدهار بيئة الشركات الناشئة، وزيادة الاستثمار في التعليم التقني، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية الرقمية، مما يجعل السوق السعودية بيئة واعدة لعمالقة التكنولوجيا الذين يسعون لتعزيز وجودهم المباشر فيها، بدلا من الاكتفاء بالنموذج المعتمد على الموزعين فقط.

كما أن دخول "أبل" بهذا الزخم الرقمي يعطي إشارة إلى الشركات الأخرى – سواء كانت غربية أو محلية – بأن السوق السعودية جاهزة الآن لتجربة تسوق إلكتروني متكاملة، بلغته وبقوانينه وباحتياجاته الخاصة.

 شركة الدرعية
متحف "أسان" بالدرعية

لا يمكن فصل هذه الخطوة عن رؤية "السعودية 2030"، التي تركز على تنمية الاقتصاد الرقمي وجذب الشركات العالمية، خاصة تلك التي تتقاطع منتجاتها مع الابتكار والتقنية والتعليم.

وإذا ما سارت الأمور وفق المخطط، فإن الدرعية لن تكون فقط موطنا لأول متجر لـ"أبل"، بل نموذجا لاندماج التكنولوجيا مع التراث، حيث تصمم الشركة متجرها الجديد بما يراعي المعايير الثقافية والمعمارية للموقع التاريخي.

قاعدة أساس

أصبحت التكنولوجيا اليوم من الركائز الأساس التي يقوم عليها الاقتصاد السعودي، في ظل التحول الرقمي الشامل الذي تقوده الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا" عبر استراتيجيتها الوطنية التي تساهم في تحقيق 66 هدفا من مستهدفات رؤية 2030.

ومن المعروف أن رقمنة الاقتصاد أحد أبرز عوامل نجاح هذا التحول السريع، بدءا من أبسط المعاملات اليومية مثل أنظمة الدفع الإلكتروني، التي جذبت لاعبين كبارا مثل "موبايلي باي" و"أس تي سي باي" وانضمت أخيرا منصات دولية كـ"سامسونغ باي" و"غوغل باي"، مما يعكس حيوية السوق وتنافسيتها. ولم يتوقف التأثير عند قطاع التجزئة، بل امتد إلى عالم المال والاستثمار، حيث تُستخدم التكنولوجيا في تسهيل وإنجاز الصفقات، سواء كانت استثمارات مباشرة أو تداولات عبر البورصة، إذ تتم نحو 25% من عمليات التداول في السوق المالية السعودية "تاسي" باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لضمان الكفاءة والحفاظ على التوازن.

في مجال التحول الرقمي، تبوأت المملكة العربية السعودية الصدارة إقليميا، محتلة المركز الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال الخدمات الحكومية الإلكترونية، كما جاءت في المرتبة الثالثة عالميا وفقا لمؤشر نضج الحكومات الرقمية الصادر عن البنك الدولي. ويُعدّ هذا الإنجاز ثمرة لجهود استراتيجية متكاملة تقودها الحكومة السعودية لتحديث القطاع العام وتعزيز كفاءته الرقمية. وفي خطوة رائدة نحو بناء القدرات البشرية، أُطلقت أخيرا مبادرة "سماي" خلال النسخة الثالثة من قمة الذكاء الاصطناعي، التي تهدف إلى تدريب مليون سعودي على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، في أول برنامج من نوعه في المنطقة. هذا الاستثمار الضخم في رأس المال البشري لا يهدف فقط إلى تقليص الاعتماد على الخبراء الأجانب، بل أيضا إلى تهيئة السوق المحلية لتكون حاضنة طبيعية للشركات التكنولوجية العالمية.

ولا يقتصر تركيز المملكة على رقمنة الإجراءات الحكومية لتسريع الخدمات وتسهيل العمليات، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة هيكلة المنصات الرقمية، حيث تم دمج وإغلاق أكثر من 267 منصة وبرنامج لتوفير تجربة سلسة وموحدة للمستخدمين. وقد ساهم هذا التوجه في تحقيق وفر مالي قدره مليار ريال سعودي، بحسب هيئة الحوكمة الرقمية، من خلال خفض التكاليف المرتبطة بالمعاملات اليومية.

وعلى الجانب الشعبي، يساهم المجتمع السعودي بشكل غير مباشر في تحفيز نمو الأسواق التكنولوجية عبر الإقبال المتزايد على استخدام الحلول الرقمية، مما يدفع الشركات للاستثمار محليا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تنظيم كأس العالم للرياضات الإلكترونية في الرياض، وهو حدث عالمي استقطب كبرى الشركات التقنية ونخبة من مطوري الألعاب والمبرمجين، مما أتاح لهم التعرف الى السوق السعودية عن قرب واستكشاف فرص الاستثمار والنمو فيها.

font change