نيكولاس مادورو… استمرار الدولة بـ "الإرهاق" والتكيّف مع بيئات عدائية

زعيم "شعبوي" ولكن بلا شعبية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بعد أداء اليمين الدستورية في مبنى الكابيتوليو، مقر الجمعية الوطنية، في كاراكاس، في 10 يناير 2025.

نيكولاس مادورو… استمرار الدولة بـ "الإرهاق" والتكيّف مع بيئات عدائية

على مدى أكثر من عشر سنوات، تولّى نيكولاس مادورو قيادة واحدة من أعمق الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أميركا اللاتينية. وعندما ورث الرئاسة عن هوغو شافيز عام 2013، كانت فنزويلا لا تزال تتغذى على لغة الثورة، ووعد التحول الاجتماعي. أما اليوم، فهي بلد يرزح تحت القمع والهجرة الجماعية وانهيار المؤسسات. ومع ذلك، لا يزال مادورو في السلطة، فما سرّ بقاء زعيم يفتقر إلى الجاذبية الشخصية، ويقود اقتصادا ينهار؟ الجواب يكمن في مزيج من الأداء الشعبوي، والسيطرة السلطوية، والتكيّف البرغماتي.

من سائق حافلة إلى رئيس دولة

لم يكن صعود مادورو متوقعا، ولكنه لم يكن أيضا محض صدفة. وُلد في كراكاس عام 1962 لأسرة من الطبقة العاملة، وقضى سنواته الأولى سائقاً للحافلات ومنظّما نقابيا. تلك السنوات في شوارع العاصمة صقلت مشروعا سياسيا تعلّم كيف يتفاعل ويتفاوض، ويصمد في بيئات عدائية. بالنسبة له، كانت السياسة اختبارا للجَلَد، أكثر من كونها تعبيرا عن قناعة أيديولوجية.

في ثمانينات القرن الماضي، انضم إلى رابطة الاشتراكيين، وهي مجموعة ماركسية صغيرة تحالفت لاحقا مع حركة شافيز البوليفارية، وسرعان ما جعلته موثوقيته وتكتّمه، شخصية مألوفة في الدائرة الثورية الناشئة، وعندما وصل شافيز إلى الحكم عام 1998، كانت سمعة مادورو كعنصر منضبط، كفيلة بتمهيد طريقه نحو التقدّم المستمر.

بحلول عام 1999، دخل مادورو الجمعية التأسيسية الوطنية، وأسهم في صياغة الدستور الذي أصبح حجر الأساس للدولة البوليفارية. ثم شغل عضوية البرلمان، فرئاسة الجمعية الوطنية، قبل أن يُعيّن في عام 2006 وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذي عزّز من خلاله علاقات فنزويلا مع كوبا وروسيا والصين وإيران. أسلوبه الهادئ والمتواضع أكسبه ثقة شافيز الشخصية، ما جعل الأخير يعينه في عام 2012 نائبا للرئيس. وإثر وفاة تشافيز في 2013، فاز بالرئاسة بفارق ضئيل.

من الصعب فصل الهوية السياسية لمادورو عن الظلّ الطويل لشافيز. فقد ورث رموز الثورة البوليفارية وشعاراتها، كما ورث تناقضاتها. ولكن بينما اتسمت شعبوية شافيز بالمسرحية والتحشيد، جاءت شعبوية مادورو دفاعية ومشحونة بالخوف. اكتسب وصف "شعبوي بلا شعبية"، زعيم يستخدم لغة الثورة لا ليُلهم الآخرين، بل ليبقى في السلطة.

تتغذى شعبوية مادورو على خطاب الحصار، وهو يصوّر انهيار فنزويلا كنتيجة لعدوان خارجي تقوده الولايات المتحدة، محوّلا بذلك الأزمة إلى دليل على الولاء. وتمزج خطاباته بين التديّن القومي والتحدي الوطني، وتُصوّر حكمه كرسالة مقدسة في مواجهة الأعداء الإمبرياليين. وقد أثبت هذا السرد قدرته على الاستمرار، محافظا على قاعدة مؤيدة لا تزال وفيةً له، على الرغم من التدهور المتواصل في مستوى المعيشة، وإن تكن تتضاءل يوما بعد يوم.

الحكم عبر التحكم

لكن بقاء مادورو لا يمكن تفسيره بالخطاب وحده. فصموده يعتمد على تحويل الدولة الفنزويلية إلى جهاز للسيطرة. يصف أستاذ السياسة المقارنة خافيير كوراليس (2023) هذه العملية بـ"التسلطن" أي التفكيك التدريجي للمؤسسات الديمقراطية، مع الحفاظ على مظهر الانتخابات والشرعية القانونية.

لقد بدأت ملامح تركز السلطة بالظهور تحت حكم شافيز، ولكن مادورو عمقها، حين دمج بين السلطة التنفيذية، والحزب الحاكم، والقوات المسلحة في كيان واحد تقدم فيه الولاءات على الكفاءات، ويرى كوراليس أن هذا التحول يمثل انتقالا من الشعبوية الثورية إلى السلطوية البيروقراطية. فاشتراكية مادورو لا تقوم على إعادة التوزيع، بل على البقاء من خلال الإقصاء الانتقائي والقمع.

في ثمانينات القرن الماضي، انضم إلى رابطة الاشتراكيين، وهي مجموعة ماركسية صغيرة تحالفت لاحقا مع حركة شافيز البوليفارية. وسرعان ما جعلته موثوقيته وتكتّمه شخصية مألوفة في الدائرة الثورية الناشئة

يرتكز هذا النظام على ثلاث آليات رئيسة:

أولا: عسكرة السياسة. فبعد أن كانت القوات المسلحة مؤسسة مهنية، أصبحت اليوم متغلغلة في مفاصل الدولة والاقتصاد، وبات كبار الضباط هم من يديرون الوزارات والشركات الحكومية وشبكات توزيع الغذاء، ويجازَون بامتيازات وحصانة من الملاحقة القضائية.

ثانيا: دمج الحزب الحاكم بالدولة من خلال الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا(PSUV) ، فلم يعد الحزب حركة أيديولوجية، بقدر ما أصبح شبكة واسعة من الزبائنية والمراقبة. فالوصول إلى الوظائف، والمساعدات، والسلع الأساسية غالبا ما يرتبط بالانتماء السياسي.

أ.ف.ب
اشتبك معارضو حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو مع شرطة مكافحة الشغب خلال احتجاج في حي كاتيا بكاراكاس في 29 يوليو 2024، بعد يوم من الانتخابات الرئاسية الفنزويلية.

ثالثا: القمع الانتقائي، الذي لا يقضي على المعارضة، بل يديرها، فزعماء المعارضة يتعرضون للمضايقة أو يُستقطبون، والصحافة تُقيد، والمنظمات المدنية تُضعف. ومع ذلك، تستمر الانتخابات بشكل مدروس ومحكم، مما يبقي على وهم الشرعية الديمقراطية.

اللينينية المدارية وفراغ الشافيزية

كان شافيز يمثّل الشعبوية الثورية، فيما يرى كوراليس في مادورو العقل المدبر وراء السيطرة البيروقراطية. أما المؤرخ أندرياس كابلر (2024) فيقدم قراءة ثالثة، إذ يصف نظام مادورو بـ"اللينينية المدارية"، ويصفها بأنها منظومة تتكيف مع الظروف، عبر تحويل ضعف الأيديولوجيا إلى مصدر للقوة السياسية.

بالنسبة لكابلر، ليست حكومة مادورو امتدادا لاشتراكية شافيز، ولا هي بالديكتاتورية التقليدية، بل هي نظام هجين تصبح فيه الأيديولوجيا أداة لتكريس السلطة الشخصية والمؤسسية. وكما فعل لينين، يرأس مادورو بنية حزبية واحدة تدمج بين الدولة والحزب، وتخضع الجيش، وتساوي بين المعارضة والخيانة. لكن على عكس لينين، لا تسعى ثورته إلى التغيير، بل إلى الاستمرار.

تتغذى شعبوية مادورو على خطاب الحصار، وهو يصوّر انهيار فنزويلا كنتيجة لعدوان خارجي تقوده الولايات المتحدة، كما أنه بارع في إدارة المعارضة

ينمو هذا الشكل المداري من اللينينية، بحسب كابلر، "في بيئة الندرة، والزبائنية، واستنزاف الأيديولوجيا" حيث يتحول ضعف الدولة إلى مورد أساسي، ويعتمد المواطنون على شبكات الدولة في الغذاء والعمل والأمن، مما يربط بقاءهم بالولاء السياسي. الزبائنية تحل محل الإقناع، والسيطرة تمارس بدافع الضرورة لا القناعة.

ولا تزال الرموز الثورية، من الرايات الحمراء، والمسيرات، والخطابات المناهضة للإمبريالية، حاضرة، لكن معناها قد تلاشى. لقد أصبحت الشافيزية طقسا بلا إيمان، لغة سلطة منفصلة عن المبادئ التي وعدت بها يوما.

الحكم بلا شرعية

يواجه نيكولاس مادورو تحديا جوهريا: حُكم مجتمع لم يعد يؤمن. فالكاريزما والمشاركة الجماهيرية اللتان ميّزتا عهد هوغو شافيز تلاشتا، ليحلّ محلهما تعب عام وإرهاق متراكم واعتماد قسري على الدولة. برامج مثل "اللجان المحلية للإمداد والإنتاج" توزّع السلع الأساسية على المؤيدين المسجّلين، ضامنة الولاء عبر الندرة.

أ.ف.ب
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يتحدث إلى أنصاره خلال التجمع الانتخابي الختامي للحزب الاشتراكي الموحد الحاكم في فنزويلا (PSUV) قبل الانتخابات البرلمانية والإقليمية في كاراكاس في 22 مايو 2025.

في المقابل، لا تزال المعارضة عاجزة بفعل الانقسامات الداخلية وخيبات الأمل المتراكمة. العقوبات الدولية والعزلة الدبلوماسية، بدلا من تقويض النظام، عززت لديه سردية الحصار. فكل إدانة خارجية تُقدَّم كبرهان على أن الثورة الفنزويلية مستهدفة. ويسمي كابلر (2024) هذا النمط "الشرعية التفاعلية"، حيث يقود الضغط الخارجي– بطريقة متناقضة– إلى تعزيز السيطرة الداخلية. في هذا المنطق، تصبح العزلة مكسبا سياسيا.

التكيف كوسيلة للبقاء

تكمن قوة مادورو السياسية في قدرته على التكيف. فعلى خلاف الحماسة الأيديولوجية التي اتسم بها شافيز، يقوم حكم مادورو على البرغماتية والمرونة. وخلال العقد الماضي، أعاد تشكيل الشافيزية لتعمل من دون ثروة نفطية، أو زخم جماهيري، أو حلفاء دوليين أقوياء.

اقتصاديا، سمح بانفتاح محدود، متساهلا مع الدولرة وتوسع التجارة الخاصة، من دون التفريط بالسيطرة السياسية على القطاعات الحيوية. أما سياسيا، فيتنقل بين التفاوض والقمع، مستخدما الحوار لتفكيك المعارضة، والقوة لرفع كلفة الانشقاق. أيديولوجياً، يحتفظ بلغة الاشتراكية لكنه يفرغها من مضمونها التوزيعي.

يصف كوراليس هذا النموذج بأنه حكم يقوم على "الإقصاء الانتقائي" و"الاحتواء"، في معادلة دقيقة تكافئ الولاء وتحيّد التهديدات. ويرى أونر أنه المرحلة الأخيرة من الشعبوية: نمط لا يُلهم، بل يفرض الامتثال، فيما يعتبره كابلر ذروة التكيف اللينيني، حيث تتحول الأيديولوجيا إلى أداة للسلطة، لا إلى خريطة للتغيير.

رويترز
المدمرة التابعة للبحرية الأميركية يو إس إس جرافيلي (DDG-107) تبحر من ميناء إسبانيا وسط توترات متزايدة في المنطقة بين الولايات المتحدة وفنزويلا، كما شوهدت من ميناء إسبانيا، ترينيداد وتوباغو، 30 أكتوبر 2025.

تقدم هذه القراءات صورة متكاملة لنظام سياسي لا يستند إلى قناعة أيديولوجية، بل إلى إدارة محكمة للسيطرة. ففي هذا السياق، تصبح الشرعية مسألة تحمّل مُدار، لا تعبيرا عن دعم شعبي. ومع تفاقم إرهاق المجتمع وتراجع حضور الدولة، تشدّد الحكومة قبضتها أكثر على شروط الحياة اليومية، وتربطها بالولاء. وهكذا يتبقى نظام قائم على الضغط والندرة والعزلة. وفي هذا الحيز الضيق، تبرز أداة مادورو الأكثر فاعلية: قدرته على التكيف أسرع من الأزمة التي تحيط به.

مفارقة الصمود

تكشف تجربة فنزويلا تحت حكم مادورو عن مفارقة مركزية: أن النظام صمد عبر الأزمات التي كان يفترض أن تطيح به، فالندرة تولد الاعتماد، والقمع يضمن الامتثال، والضعف يتحول إلى أسلوب حكم.

ومع ذلك، يبقى هذا الصمود هشّا. فالانتعاش الاقتصادي محدود، والفساد متجذر، والثقة العامة شبه منهارة. التحالفات مع روسيا والصين وإيران توفر غطاء دبلوماسيا، لكنها لا تخفف من معاناة الفنزويليين. وكلما تركزت السلطة في القمة، ابتعدت القيادة أكثر عن المجتمع الذي تزعم تمثيله.

فنزويلا في عهد مادورو لا تستمر بالقوة، بقدر ما تستمر بالإرهاق؛ نظام جعل الأزمة روتينا يوميا، والولاء أداة للبقاء. لغة الثورة لا تزال حاضرة، لكنها فقدت غايتها، وتحولت إلى طقس للاستمرار أكثر مما هي تعبير عن إيمان.

font change