على مدى أكثر من عشر سنوات، تولّى نيكولاس مادورو قيادة واحدة من أعمق الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أميركا اللاتينية. وعندما ورث الرئاسة عن هوغو شافيز عام 2013، كانت فنزويلا لا تزال تتغذى على لغة الثورة، ووعد التحول الاجتماعي. أما اليوم، فهي بلد يرزح تحت القمع والهجرة الجماعية وانهيار المؤسسات. ومع ذلك، لا يزال مادورو في السلطة، فما سرّ بقاء زعيم يفتقر إلى الجاذبية الشخصية، ويقود اقتصادا ينهار؟ الجواب يكمن في مزيج من الأداء الشعبوي، والسيطرة السلطوية، والتكيّف البرغماتي.
من سائق حافلة إلى رئيس دولة
لم يكن صعود مادورو متوقعا، ولكنه لم يكن أيضا محض صدفة. وُلد في كراكاس عام 1962 لأسرة من الطبقة العاملة، وقضى سنواته الأولى سائقاً للحافلات ومنظّما نقابيا. تلك السنوات في شوارع العاصمة صقلت مشروعا سياسيا تعلّم كيف يتفاعل ويتفاوض، ويصمد في بيئات عدائية. بالنسبة له، كانت السياسة اختبارا للجَلَد، أكثر من كونها تعبيرا عن قناعة أيديولوجية.
في ثمانينات القرن الماضي، انضم إلى رابطة الاشتراكيين، وهي مجموعة ماركسية صغيرة تحالفت لاحقا مع حركة شافيز البوليفارية، وسرعان ما جعلته موثوقيته وتكتّمه، شخصية مألوفة في الدائرة الثورية الناشئة، وعندما وصل شافيز إلى الحكم عام 1998، كانت سمعة مادورو كعنصر منضبط، كفيلة بتمهيد طريقه نحو التقدّم المستمر.
بحلول عام 1999، دخل مادورو الجمعية التأسيسية الوطنية، وأسهم في صياغة الدستور الذي أصبح حجر الأساس للدولة البوليفارية. ثم شغل عضوية البرلمان، فرئاسة الجمعية الوطنية، قبل أن يُعيّن في عام 2006 وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذي عزّز من خلاله علاقات فنزويلا مع كوبا وروسيا والصين وإيران. أسلوبه الهادئ والمتواضع أكسبه ثقة شافيز الشخصية، ما جعل الأخير يعينه في عام 2012 نائبا للرئيس. وإثر وفاة تشافيز في 2013، فاز بالرئاسة بفارق ضئيل.
من الصعب فصل الهوية السياسية لمادورو عن الظلّ الطويل لشافيز. فقد ورث رموز الثورة البوليفارية وشعاراتها، كما ورث تناقضاتها. ولكن بينما اتسمت شعبوية شافيز بالمسرحية والتحشيد، جاءت شعبوية مادورو دفاعية ومشحونة بالخوف. اكتسب وصف "شعبوي بلا شعبية"، زعيم يستخدم لغة الثورة لا ليُلهم الآخرين، بل ليبقى في السلطة.
تتغذى شعبوية مادورو على خطاب الحصار، وهو يصوّر انهيار فنزويلا كنتيجة لعدوان خارجي تقوده الولايات المتحدة، محوّلا بذلك الأزمة إلى دليل على الولاء. وتمزج خطاباته بين التديّن القومي والتحدي الوطني، وتُصوّر حكمه كرسالة مقدسة في مواجهة الأعداء الإمبرياليين. وقد أثبت هذا السرد قدرته على الاستمرار، محافظا على قاعدة مؤيدة لا تزال وفيةً له، على الرغم من التدهور المتواصل في مستوى المعيشة، وإن تكن تتضاءل يوما بعد يوم.
الحكم عبر التحكم
لكن بقاء مادورو لا يمكن تفسيره بالخطاب وحده. فصموده يعتمد على تحويل الدولة الفنزويلية إلى جهاز للسيطرة. يصف أستاذ السياسة المقارنة خافيير كوراليس (2023) هذه العملية بـ"التسلطن" أي التفكيك التدريجي للمؤسسات الديمقراطية، مع الحفاظ على مظهر الانتخابات والشرعية القانونية.
لقد بدأت ملامح تركز السلطة بالظهور تحت حكم شافيز، ولكن مادورو عمقها، حين دمج بين السلطة التنفيذية، والحزب الحاكم، والقوات المسلحة في كيان واحد تقدم فيه الولاءات على الكفاءات، ويرى كوراليس أن هذا التحول يمثل انتقالا من الشعبوية الثورية إلى السلطوية البيروقراطية. فاشتراكية مادورو لا تقوم على إعادة التوزيع، بل على البقاء من خلال الإقصاء الانتقائي والقمع.


