"عائشة لا تستطيع الطيران" لكن هل يستطيع الفيلم؟

يروي اللاواقع بوصفه واقعا فلا يقيم صلة مع الجمهور

ملصق فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران"

"عائشة لا تستطيع الطيران" لكن هل يستطيع الفيلم؟

لفت فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران" الاهتمام إليه حين عُرِض للمرة الأولى في الدورة الماضية من "مهرجان كان السينمائي"، ضمن قسم "نظرة خاصة" Un Certain Regard. وهي المعروفة باختيارها أفلاما ذات أسلوب سينمائي خاص، بغض النظر عن جودتها أو تقييمها النقدي أو الجماهيري. كُتبِت عن الفيلم مراجعات نقدية بالإنكليزية والفرنسية، بعضها رأى الفيلم "فيلم مهرجانات كلاسيكيا"، وبعضها الآخر أُعجب بأسلوبه السينمائي مع التحفظ عن ضعف السيناريو أو سطحيته، كما قالت الناقدة أوليفيا بوب في موقع "سينيوربا".

لم يحصل الفيلم على جائزة في المهرجان، لكنه حصد جوائز في فعاليات سينمائية أخرى. وكان يمكن رحلته مع المهرجانات أن تُنسى، ما دام لم يُعرض جماهيريا رغم كل هذه الدعاية، لولا واقعة طرح نسخة مسربة منه على الإنترنت خلال الأيام الماضية. فجأة عاد "عائشة لا تستطيع الطيران" إلى الواجهة، ناقشه رواد التواصل الاجتماعي، بحدة أحيانا. ثم دخل مخرج الفيلم وأفراد من فريق العمل على الخط، ليدافعوا عن فيلمهم، أحيانا بلغة انفعالية، ذاهبين إلى أن عرض الفيلم في "مهرجان كان"، يجعله أرفع شأنا من مثل هذه النقاشات التي لا ترقى الى مستواه.

الفيلم من تأليف مراد مصطفى ومحمد عبد القادر وسوسن يوسف، وإخراج مراد مصطفى، وهو إنتاج مشترك بين مصر والسودان وتونس والسعودية وقطر وفرنسا وألمانيا. واحتُسبت مشاركة الفيلم في "مهرجان كان"، كنقطة لصالح السينما العربية، ويمثلها هنا مخرج مصري شاب يقدم فيلمه الطويل الأول، ويحكي قصة لاجئة سودانية تعيش في القاهرة.

يُعد "عائشة لا تستطيع الطيران" استكمالا لمشروع المخرج السابق في "عيسى"، وهو فيلم قصير أثار جدلا كبيرا حين عرضه، وبطله أيضا لاجئ سوداني يعاني الاضطهاد والقهر في القاهرة، مثلما تعاني عائشة في هذا الفيلم الطويل من الاغتراب والخوف المزمن. وبعيدا من كون قصص المهاجرين كما يقدمها مراد مصطفى، تبدو غير واقعية في تفاصيلها أو في طريقة تقديمها سينمائيا، كشف "عيسى" عن هوس مخرجه الشديد بالأسلوب السينمائي، على حساب السيناريو أو الحكاية. هذا على الرغم من أن أفلامه القصيرة السابقة، بدت أبسط وأقل افتعالا وتكلفا من الأسلوب السينمائي الذي بدأ ينتهجه منذ قدم حكايته في "عيسى".

يصعب القول إن الفيلم يعبر عن مشاكل اللاجئين السودانيين في مصر، أو أنه يكشف عن معايشة المخرج لهم ولعوالمهم، قبل عمله على مشروعه

على أي حال، البعد عن الواقع، أو انتقاء عناصر محددة منه ثم التحليق في الخيال، ليس عيبا في ذاته. الإشكالية التي تطرحها الفرجة على "عيسى" من قبل، أو "عائشة لا تستطيع الطيران" اليوم، هو أن المتفرج قد يميز سريعا أن الفيلم يحكي اللاواقع على أنه واقع. وقد يؤدي هذا التمييز، لا سيما عند المتفرج المحلي، إلى عدم تصديق بقية الحكاية، وبالتالي عدم القدرة على الانسجام مع الفيلم، أو استقباله كما هو. إننا نرى في الفيلم القاهرة وشوارعها، لكننا نحس أن هذه ليست القاهرة ولا تلك شوارعها. يصعب القول إن الفيلم يعبر عن مشاكل اللاجئين السودانيين في مصر، أو أنه يكشف عن معايشة المخرج لهم ولعوالمهم، قبل عمله على مشروعه. وهي في المناسبة عوالم حاضرة، من قبل حتى أن تندلع الحرب بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" في السودان. هناك قصص لم تُحك فعلا عن مهاجرين غير شرعيين، يصلون إلى القاهرة، أو غيرها من محافظات، من طريق التهريب. يختبرون حياة اجتماعية كاملة، يعملون ويتزوجون، وينخرطون. هذه قصص تستحق أبحاثا اجتماعية وأدبية وإنسانية صادقة وغير مبنية على نتائج أو تصورات ذهنية مسبقة.

مع ذلك، يحق لمخرج "عائشة لا تستطيع الطيران"، أن يرى العكس، وأن يقدم رؤيته القطبية للوضع. كأنها حرب، مثل حروب ألعاب الفيديو، بين عصابات من السود والبيض، أو السودانيين والمصريين في شوارع تلك القاهرة، وهذا أحد مشاهد الفيلم.

تأثيرات من "ريش"

في الواقع، أول ما يلفت النظر في "عائشة لا تستطيع الطيران" هو تذكيره بفيلم مصري آخر عُرض في "مهرجان كان" قبل أعوام، وأثار جدلا ربما أكبر مما أثاره فيلم "عائشة"، لأن الانتقادات التي وُجهت إليه اتخذت طابعا سلطويا وحرمت الفيلم من حقه في العرض الجماهيري. المقصود فيلم "ريش" من إخراج عمر زهيري، الذي عُرض في "أسبوع النقاد" عام 2021، وحصد جائزة الفعالية الكبرى، إضافة إلى جائزة "الفيبرسي" من الدورة نفسها. يحمل "ريش" رؤية أنضج للعالم، ويتضمن أسلوبا فنيا لافتا، يتكامل مع حكايته، رغم أنه لم يربط نفسه إلى بقعة مكانية محددة. سبق أن تناولناه هنا على صفحات "المجلة". ومن المبرر، أن يجد صُناع فيلم "عائشة" بعض الإلهام فيه.

Miguel MEDINA / AFP
الممثل زياد زازا والمخرج والكاتب مراد مصطفى والممثلة بوليانا سيمونا خلال جلسة تصوير لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران»

يتشابه "عائشة" مع "ريش" في أن بطلته امرأة تعيش على هامش المجتمع. وبينما يبدأ الصراع في حياة بطلة "ريش" بتحوّل زوجها إلى ديك، بعد ممارسة فقرة سحرية خائبة. وعليه، تضطر هي المحرومة من كل ميزة تعليمية أو فكرية، أن تعارك الحياة بسوريالية مع ابنيها. ينتهي "عائشة لا تستطيع الطيران" يتحوّل بطلته إلى نعامة. وهو رمز مباشر إلى حد ما، عن عدم قدرتها على الطيران، كما يقول عنوان الفيلم، ويعني عجز عائشة عن الخروج من القاهرة، أو الهجرة من مصر، مسرح العذابات المستمرة التي تتعرض لها. سينمائيا لا تعبر عائشة بأي شكل عن رغبتها في الطيران، إنها مستنزفة تماما في حياتها كخادمة أو ممرضة في بيوت مخدوميها من أبناء الطبقة المتوسطة المصرية.

Bertrand GUAY / AFP
من اليسار: فريق فيلم «عائشة لا تستطيع الطيران» خلال جلسة تصوير في مهرجان كان السينمائي الـ78، 21 أيار 2025

عالم ديستوبي

عائشة (تؤديها الممثلة من جنوب السودان بوليانا سايمون) نراها في حركة دائمة بين وسائل المواصلات بنقابها المميز، للذهاب إلى بيوت مخدوميها أو العودة. عائشة مجبرة على التردد باستمرار على أحد مكاتب التشغيل، هناك حيث يسومونها هي وزميلاتها الخادمات السودانيات الأخريات صنوفا من المهانة. حين تكشف مثلا لأحد الموظفين عن تعرضها للتحرش في بيت رجل تخدمه، يجيب الموظف: "إنتي ملكيش حق تختاري. إنتي هنا تنفذي اللي يتقالك وبس". لكن قبل ذلك، نكتشف تورط عائشة مع أحد أفراد عصابة في حيها (يؤديه زياد ظاظا). إنه أشبه بفتوة، يقع الحي تحت إمرته، وهي لا تدفع له إيجار شقتها الصغيرة، التي تعيش وحيدة فيها. مقابل أن تقدم له مفاتيح البيوت التي تعمل فيها، كي يتسنى له سرقتها مع أفراد العصابة الآخرين.

تبقى هذه الحركة بين العوالم، عالم عائشة أو عالم البلطجي أو عالم المخدومين، حركة على السطح، كأننا أمام لعبة لوحية، لا بشر من لحم ودم


بدءا من هنا، نلاحظ ضعف المنطق الدرامي، وتضاربه مع ما يطرحه الفيلم نفسه. أظهرت كاميرا الفيلم تلك البيوت من قبل، شبه فارغة تقريبا، بجدران متسخة، ومقتنيات غير ثمينة. فلماذا يصر الفتوة على سرقة هذه البيوت؟ ومتى احتاج اللصوص إلى دخول البيوت من أبوابها، وبالاستعانة بمفاتيحها؟ هذه أسئلة لا يُجهد السيناريو نفسه في محاولة الإجابة عنها. إنما يكتفي بوضع بطلته في هذه المتاهة، وإحكام الإغلاق عليها.

في مشهد لاحق سيقدم الفيلم علاقة لن نعرف أبعادها ولا تاريخها بين عائشة وعامل في مطعم اسمه عبده. ولبعض الوقت، سيبدو صعبا أن نميز إن كان عبده يعطف على عائشة، أو إن كان يحبها حقا. كل ما يهم هو إثبات أنه لا مخرج لعائشة من سيطرة بلطجي الحي على حياتها. في مشهد آخر، نرى إخوة عبده يحيطون به ويهددونه كأنهم فتوات بدورهم ليجبروه على الزواج من شابة أخرى غير تلك "السودة" عائشة، في نوع من المسبة.

التتابع الأهم، يحدث حين تنتقل عائشة إلى بيت ذلك المسنّ السبعيني الذي يعاني من تآكل الأطراف. تستعرض الكاميرا لا فقط هذه الأطراف المتآكلة، إنما أيضا اضطرار عائشة إلى العناية بها، وبيت الرجل الذي لا يخلو من قذارة. ولأن عائشة، بلا من يحميها، ومن تعترف له بأسرارها، يُحكم الرجل العاجز الخناق عليها، ويجبرها على ممارسة جنسية ترفضها. في ذلك الجزء من الفيلم، سيكتمل ضياع عائشة، وسيرسخ هذا الشعور بمشهد لعبها الاستغماية مع حفيد الرجل. يقترح عليها الطفل أن ترتدي قناع "باتمان"، كما يظهر ملصق الفيلم، وتفعل كأنها تختبر لحظة اختباء داخل اختباء. هي أصلا غير مرئية لأفراد المجتمع الآخرين، أو هي مرئية كضحية منتهكة فقط. إنه عالم ديستوبي ذلك الذي تعيشه عائشة، ونعيشه معها أثناء المشاهدة.

Miguel MEDINA / AFP
المخرج والكاتب المصري مراد مصطفى خلال جلسة تصوير لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران»

الأسلوب السينمائي

سوى أن هذا العالم السينمائي الديستوبي يبقى ناقصا أو مهتزا على مستوى بنائه، تماما مثل كادرات مشاهد الفيلم المأخوذة بكاميرا محمولة. تبقى هذه الحركة بين العوالم، عالم عائشة أو عالم البلطجي أو عالم المخدومين، حركة على السطح، كأننا أمام لعبة لوحية، لا بشر من لحم ودم. من جانب آخر، متى تبدأ النعامة في الظهور لعائشة، يتأكد هذا الشعور بما يجوز تسميته بصورية الفيلم. كأننا نرى صورا عن الشخصيات لا الشخصيات نفسها، من غير أن نقترب منها فعلا. إننا كمتفرجين غير متصلين مع عالمها الداخلي لا أحلامها ولا كوابيسها. عائشة هنا غريبة مرتين، مرة في قصتها، ومرة معنا كمتفرجين.

Imdb
فيلم "عائشة لا تستطيع الطيران"

رؤية عائشة وشخصيات محيطها الأخرى، على هذه المسافة، يصيب المتفرج بالملل أحيانا، كما يضخم الشعور بثقل تجربة المُشاهدة.

إن لعائشة في الفيلم عينا زرقاء، وعينا أخرى بنية. وهي صفة خاصة جدا، تجعلنا نرغب في معرفة المزيد عن شخصيتها، لكن الفيلم لا يقدم هذا المزيد. كما أن الافتقار ربما الى خط واضح في القصة، يجعل كل شيء ممكن الحدوث في الفيلم، لا لأن السيناريو يسمح بذلك، إنما لحاجة صُناع الفيلم إلى ملء الفراغ في قلبه بالمزيد من الأحداث التي لا تتناغم منطقيا بعضها مع بعض، إلى أن يأتي مشهد الحرب الأهلية الكبير في نهاية الفيلم.

لعل أجمل مشاهد هذا الفيلم، هو مشهد زيارة عائشة لمجموعة من رفيقاتها السودانيات المقيمات في بيت كبير يخصهن. مشهد رقصهن معها، أغانيهن السودانية وطعامهن والمودة بينهن. رغم خجلهن قليلا أمام الكاميرا. إنها المرة الوحيدة التي نرى فيها عائشة تبتسم. لكن الفيلم يمر سريعا على هذا العالم، هاجرا باب حكاية آخر، عائدا إلى ضيقه وثقله. ولا يمنع هذا من الإشادة بقدرة مراد مصطفى على انتهاج أسلوب سينمائي خاص يتشكل من خيارات عديدة منها التصوير بالكاميرا المحمولة، واستخدام مونتاج يستخدم القطع الحاد فقط، لا أي وسائل انتقال أخرى، وكذلك تخلي الفيلم عن الموسيقى المصاحبة، واعتماده على أصوات الواقع المتناثرة بشكل حصري. 

مشهد من الفيلم

مشهد سينمائي سائل

من المتوقع أن يتمكن مراد مصطفى من تطوير أدواته السينمائية وقدرته على الحكي في أفلامه المقبلة. لكن ما يلفت حقا في الحالة التي أثارتها الفرجة على "عائشة لا تستطيع الطيران" خلال الفترة الأخيرة، هو أننا بتنا نعيش مشهدا سينمائيا شبه سائل. يذكرنا بمبدأ الحداثة السائلة كما طرحه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، في كتابه الشهير الصادر بالعنوان نفسه عام 2000. بمعنى آخر، لم يعد وصول الأفلام إلى المهرجانات السينمائية الكبرى مسألة صعبة كما كانت في الماضي. ولم يعد هذا الوصول يدل على جودة سينمائية معينة. هناك سمات مشتركة في التصوير وبطء الحركة ورد الفعل وحتى في افتعال طريقة معينة لنطق الحوار، يمكن ملاحظتها في أفلام مصرية عديدة تُعرض في مهرجانات دولية، على تفاوت مستواها الفني. وكأنها كلمة السر، علامة الأناقة، بغض النظر عن مناطق الضعف الأخرى، التي غالبا ما تنصب على الركن الأهم من الفيلم، وهو ركن السيناريو.

في هذا المشهد السينمائي السائل، ليس أمامنا سوى التسليم بالأمر الواقع، والاستمرار في البحث عن أعمال تستطيع التحليق حقا بين الواقع والخيال


لم تعد الفرجة على الأفلام حكرا على السينمات ولا حتى المنصات المتخصصة. ضغطة على رابط عابر وجهول، يمكن أن تجعلك تطلع بسهولة على الفيلم المراد. صار في وسع صانع الفيلم أن يتحدث مباشرة إلى مشاهديه من طريق صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، أن يوبخهم إن لم تعجبهم أعماله، أو يمدح الذكاء إن أعجبتهم. من ناحية أخرى، الدعاية عبر وسائل التواصل، وشبكات العلاقات بين صُناع الأفلام وأصحابهم من النقاد المجاملين، أمست تضمن الإرضاء الزائد والمكبر لنرجسية صُناع السينما الشباب، مما قد يزيد عزلتهم واكتفاءهم بأفكارهم عن العالم. في هذا المشهد السينمائي السائل، ليس أمامنا سوى التسليم بالأمر الواقع، والاستمرار في البحث عن أعمال تستطيع التحليق حقا بين الواقع والخيال.  

font change

مقالات ذات صلة