"وداعا جوليا"... قصة انفصال جنوب السودان عن شماله

يتناول بجرأة ثيمات العنصرية والتغريب وشيطنة الآخر

Mad-Distribution
Mad-Distribution

"وداعا جوليا"... قصة انفصال جنوب السودان عن شماله

قبل أن يُعرض في فرنسا، ومن هناك لفت أنظار العالم إليه حين مثّل السودان للمرة الاولى في تاريخ مهرجان "كانّ" وحصل على "جائزة الحرية"، بدأ العرض التجاري للفيلم السوداني المنتظَر، "وداعا جوليا"، أولا في القاهرة، في دور عدة للعرض، وإن كانت محطة انطلاقه الأساسية من سينما "زاوية" المملوكة لشركة "أفلام مصر العالمية" (شركة الإنتاج التي أسّسها يوسف شاهين) والمخصصة لعروض الأفلام الفنية. غير أن نجاحه على مستوى الإيرادات شجّع على انتقال عروضه إلى صالات أخرى في القاهرة، لا تستقبل عادة هذا النوع من الأفلام.

الواقع أن عرض الفيلم في القاهرة لا يخصّ المصريين فحسب، الذين كانوا قد تحمّسوا قبل سنوات للفيلم السوداني الشهير، "ستموت في العشرين"، للمخرج أمجد أبو العلا، بعدما صاغ سمعته الدولية المميزة، لكن العرض القاهري لـ"وداعا جوليا"، صار يخصّ اليوم أيضا في طبيعة الحال السودانيين المقيمين في القاهرة، النازحين من الحرب الدائرة هناك منذ أبريل/نيسان الماضي.

لذا لم يكن غريبا، أن يتابعوا أحداث الفيلم بتأثر شديد، وأن ينهض بعضهم، بعد نهاية الفيلم من على مقاعد السينما باكين، وفي حالات أخرى، ألا يتمكنوا من النهوض أساسا؛ بضغط من الزمن الذي يروي عنه الفيلم، بأحداثه الرهيبة، وبضغط، لا شك، كما نتخيّل، من الظرف الحالي ومأسويته، وربما أيضا بنوع من الحنين. الحنين إلى السودان بكل تأكيد، ولعلّه كذلك الحنين إلى سودان ما قبل الانفصال.

يركز الفيلم على ما يدور في البيوت المغلقة وفي نفوس النساء المقموعات تحديدا، وتأثير ذلك المُعطى على تماسك الوطن الكبير

الواقع أن "وداعا جوليا"، الذي يُنبئنا عنوانه مرة أخرى بتراجيدية النهاية، يتحدث عن الحرب التي سبقت هذا الانفصال، الحرب المباشرة لكن بصورة أكبر الحرب الداخلية، ويتناول ثيمات حسّاسة كالعنصرية، وتغريب الآخر وشيطنته تمهيدا للتخلص منه. كما يركّز على ما يدور في البيوت المغلقة وفي نفوس النساء المقموعات تحديدا، وتأثير ذلك المُعطى على تماسك الوطن الكبير، عدا عن التساؤلات المشروعة التي يطرحها مخرج العمل ومؤلفه محمد كردفاني عن معنى الوطن، وإمكان إعادة صياغة المفهوم بما يتلاءم مع الظروف الجديدة التي شارك في صناعتها وخضع لها في الآن نفسه، أبناء هذا الوطن.

عوالم النساء

على صفحات "المجلة"، كنا قد تحدثنا في يوليو/تموز الماضي عن فعالية عرض أفلام سودانية قصيرة في المعهد الفرنسي بالقاهرة. ضمن هذه الفعالية، جئنا على ذكر الفيلم القصير، "نيركوك"، للمخرج نفسه محمد كردفاني؛ الذي تبدت فيه بعض سمات الشخصية السينمائية لكردفاني، مما كان يمهِّد لانطلاقته الكبيرة في "وداعا جوليا". إنه هنا، يطوّر بعض الثيمات التي كان قد تناولها ويشتغل على العوالم البصرية التي أسسها وجرت فيها أحداث فيلمه القصير، كأنه يعود ليملأ الفراغات التي تركها. لكنه أيضا يقطع مسافة كبرى إلى الأمام، ولئن كان "نيركوك" قد افتقد بشدة حضور النساء، إذ دارت الأحداث حول صبي صغير، وعصابة من الأطفال ورئيس هذه العصابة ضد مواطن بورجوازي، وكل ذلك في أعقاب حرب ما، فإن "وداعا جوليا" يعوض هذا الافتقاد، وتدور أحداثه بشكل شبه حصري في عوالم النساء، في حميميتهن، وخلواتهن، في أحلامهن الكبيرة، وفي واقعهن المقيّد.

Mad-Distribution

تدور الأحداث بين 2005 و2010 في الخرطوم. الفيلم يبدأ عند البطلة الأولى منى (تؤدّي دورها الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف)، في بيتها الموسِر، حيث تُعدّ الفطور لزوجها أكرم (الممثل المخضرم نزار جمعة). يبدو كل شيء طبيعيا في بيت يشبه ذاك الذي أغرى اللص باقتحامه في "نيركوك"، الجو الهادئ، والجمالية التي تضفيها حركات منى ولفتاتها على المساحة الحميمية التي تتكوّن أساسا من المطبخ، لكن سرعان ما يواجهنا تفصيل "السقف اللي بينشع"، والكوب الذي يضعه أكرم أسفل هذا السقف، بعدما فشلت أعمال التصليح، مما يوحي بإشكالية خفية في العلاقة بين الزوجين، وبأن السلام الذي رأيناه ليس حقيقيا كما خلنا في البداية.

لا ينتهي النهار، قبل أن تُقاطِع أعمال الشغب في الشارع، مجددا هذا السلام المخادع داخل البيت، حين يصل المشاغبون إلى بيت أكرم، وجاره بكري، فيهدّدون الأول، ويحرقون سيارة الثاني، وتُستثار النعرة الذكورية عند الرجلين، وتتدافع عبارات العنصرية من فميهما. يصيح أكرم غاضبا على منى: "انظري العبيد دول!"، ويقرّر بمساعدة من بكري التدرب على استخدام السلاح للدفاع عن بيته ضد الجنوبيين الذين ليسوا عربا بالنسبة إليه، كما أنهم ليسوا مسلمين، أي أن موتهم لا يعني شيئا وفقا لمنطقه هو وجاره بكري.

في ذلك الزمن، كانت الحياة في مكان آخر بالنسبة إلى منى. تستمع الى دروس الموسيقى في الراديو، وتسأل عن حفل جاز مزمع إقامته في مطعم معين. ثم إلى هناك تذهب، مخفية وجهها تحت نقاب أسود. تعود خائبة الأمل، لأن أعمال الشغب أدت إلى إلغاء الحفل. على الجانب الآخر، كان يعيش سانتينو (يؤدّي دوره قير دوني)، لحظاته الجميلة مع زوجته جوليا (عارضة الأزياء الشهيرة وملكة جمال السودان السابقة سيران رياك)، وولدهما الصغير داني، على الرغم من اضطرارهما إلى التنقل بين أكثر من مكان، هربا من العنف الذي يوجّهه الشماليون لهم باعتبارهم جنوبيين. الحياة في غير مكان آمن، هي نقطة أخرى يشترك فيها "نيركوك" مع وداع جوليا، كما يشكّل داني قاسما مشتركا آخر بين العملين لكردفاني، إذ يشهد وهو الطفل على مأساة مروعة تسببت بها الحرب.

Mad-Distribution

يتقاطع عالم الأسرتين، أسرة أكرم الشمالية، وأسرة سانتينو الجنوبية، حين تصدم منى من دون قصد الصبي الصغير داني بسيارتها في رحلة عودتها من المطعم. ثم تفرّ مذعورة، ليلحق بها سانتينو، بعدما شعر بالغضب من إصرار السيدة على الابتعاد بلا اعتذار حتى. تقع المأساة من إصرار سانتينو على التحدث بكرامة إلى منى المعتدية ومن غضبته لأنها رفضت أن تتحمل مسؤولية فعلتها. أمام خوف منى المزدوج مما ارتكبته، ولا تعرف تبعاته، ومن أن يعرف أكرم خط سيرها قبل هذه الحادثة، أي قصة حفل الجاز الذي أرادت حضوره، تجد نفسها مضطرة إلى اختلاق قصة عن "الزول الجنوبي" الذي يتبعها في اتصالها مع أكرم، وفي بالها بالتأكيد أن تُخيف الرجل الباحث عن حقه، لكن أكرم يتصدى له، ويرديه قتيلا، أمام ناظريها.     

يطور المخرج بعض الثيمات التي كان قد تناولها ويشتغل على العوالم البصرية التي أسسها وجرت فيها أحداث فيلمه القصير "نيركوك"

"أنا منى يا جوليا"   

إلى هذا، لم نكن نعرف الكثير عن منى. ولا أعني فقط، ما سنعرفه لاحقا عن طبيعة عملها كمطربة في المرحلة التي تسبق زواجها من أكرم والتي انتهت باشتراطه عليها ترك الغناء ليتزوجها، مع أن هذا أيضا مما ستتحدث به فقط مع جوليا في خلوتهما، إنما أقصد ملامحها النفسية، فهل هي فعلا امرأة جبانة أو نذلة، لأنها بامتناعها عن قول الحقيقة في محضر زوجها، قد أدّت إلى قتل إنسان هو سانتينو؟ وإذ يتواطأ جهاز الشرطة مع أكرم، بإخفائه الأدلة، وتجهيل جثة القتيل، وإذ نرى لوعة جوليا على زوجها المفقود وبحثها اليائس عنه ولو ميتا مسجى في توابيت الكنيسة، كيف لا نتساءل مَنْ هي منى حقا؟

منى التي تتلاعب بالحقائق، كي تحافظ على وضعها الاجتماعي، كزوجة لأكرم الرجل الثري المحافظ والمتشدّد إلى درجة العنصرية، على الرغم من أن هذا الزواج لا يبدو ناجحا، مع إشارة الشرخ في السقف، ومع فشلهما في إنجاب طفل صغير على كثرة المحاولات الطبية، ليست أيضا سيئة تماما. فهي تقرّر الذهاب في رحلة بحث عن أسرة القتيل، بدافع من إحساس الذنب، معتمدة على ما بقي في ذاكرتها من مكان الحادث، وعلى علاقات زوجها نفسه مع بعض الضباط الفاسدين الذين ساهموا في إخفاء جريمته. وحين تصل فعلا إلى جوليا، وتفهم طبيعة وضعها الاجتماعي، كبائعة جوالة في الشارع، لا مستقر لها، وتعي طبيعة الفروق بينهما، تقرر أن تقدم لها نفسها كزبونة كريمة: "أنا منى يا جوليا"، ولاحقا أن تُدخلها في حياتها: "بتعرفي واحدة بتشتغل باليومية؟"، وتتخذها خادمة في بيتها، كطريقة ملتوية لتعويضها عن مأساتها.

Mad-Distribution

وماذا عن رؤية منى لهذه الفروق سواء الطبقية أو العنصرية بينها وبين جوليا؟ إن منى لم تطلب من أكرم مثلا أن يراقب ألفاظه حين نعت المتمردين بالعبيد في بداية الفيلم، وهي حين تضطر إلى قبول جوليا وابنها داني أكثر فأكثر داخل بيتها، لا تتورع مع ذلك عن تعيين الحدود لهما، لا الحدود النفسية والمعنوية، فمنى للمفارقة لا تجد غضاضة في أن تتخذ من جوليا صديقة بالمعنى الحقيقي، وأن تحكي لها أسرارها، لكنها الحدود الطبقية والعنصرية التي تصرّ منى على رسمها، وتتجسّد في علامة النقطة الحمراء التي تضعها على الأطباق والأكواب التي على جوليا وداني أن يستعملاها كي لا يستعملا أواني منى وأكرم، في نوع من الوصم. إن منى هي حاصل جمع كل ما سبق، الذنب والإحسان الممتزج بالازدراء والحاجة إلى الغفران عما قد لا يكون له غفران.

يعبّر محمد كردفاني عن هذا الالتباس بين الصداقة والاستعباد، بحساسية شديدة، وعبر القوة الأدائية للممثلتين إيمان وسيران

مزايا الطبقة

يعبّر محمد كردفاني عن هذا الالتباس بين الصداقة والاستعباد، بحساسية شديدة، وعبر القوة الأدائية للممثلتين إيمان وسيران. وتأتي العبارات التي يتبادل الثلاثي (أكرم – منى – جوليا) مكاشفة أحدهم الآخر بها، لتُسقِط ببساطة ومن دون مبالغة الأقنعة التي ترتديها الذات في محاولة للبقاء داخل مجتمع "لا تتوقف فيه الحرب" كما تقول جوليا. ويُعَدّ مشهد المواجهة بين منى وجوليا في النصف الثاني من الفيلم، ذروة في هذا الفيلم الجريء، لا سيما في ختامه، حين تُعلن منى نهاية العداء بحنان: "وين داني؟ مشتاقة له شديد". كما نلمس قدرة كردفاني على التعبير السردي عن دور نساء الطبقات الأكثر تميزا في غياب العدالة الاجتماعية، نظير ما يتمتعن به من مزايا، مما يضغط على نساء الطبقات الأقل، هي رؤية نافذة وشجاعة تستوجب التحية، ولا تنطبق فقط على المجتمع السوداني، إنما تتطابق مع أوضاع النساء في الكثير من المجتمعات العربية.  

Mad-Distribution

قد يكون المدى الذي ذهبت إليه منى في مساعدتها لجوليا وداني، هو مما يمكن مناقشته في الفيلم، وحتى اعتباره إلى حدّ ما مبالغة سينمائية. كذلك، يمكن التفكير في أن الرغبة في الحفاظ على الطابع السري لشخصية جوليا، قد جاء على حساب إضعاف حضورها، وهو نفس ما حدث مع خط شخصية "ماجير"، المعلم الجنوبي الذي ستلتقيه جوليا وتقع في حبه، ويُقنعها بأهمية انفصال الشمال عن الجنوب، وأفق المستقبل الذي يفتحه هذا الانفصال، بينما هي بتأثير من علاقتها الحميمة مع منى، لم تكن لتصوت لصالح هذا القرار.

تبدو هذه الخيوط واهنة إلى حد ما في "وداعا جوليا"، وحده يبقى مشهد داني الصغير وهو يحمل السلاح، في السيارة الراحلة إلى الجنوب، بليغا للغاية مع النهاية، في اختصار ألم حزنه للوداع.

font change

مقالات ذات صلة