مخرج لبناني صوّر المهمّشين في السودان

فيلمه "السدّ" نال اهتماما عالميا

يصوّر "السدّ" طوال ساعة ونيف عمالا سودانيين شبانا يصرفون أوقات نهاراتهم صامتين تقريبا أثناء جبلهم التراب بالماء طينا

مخرج لبناني صوّر المهمّشين في السودان

بيروت: بعدما حضرتُ عرض فيلم "السدّ" في بيروت نهايات مارس/آذار الماضي – وهو يصوّر عمالا سودانيين يصنعون أحجار طوب من طين في ورشة معزولة قرب سدّ مروي على نهر النيل شمال السودان - التقيتُ مخرجه اللبناني علي شري، المولود في بيروت سنة 1976، والمقيم متنقلا بينها وبين باريس منذ العام 2014. وبعدما روى لي شذرات سريعة من سيرته وسألته عما أوصله إلى السودان ليصوّر فيلمه الروائي الأول هناك، قال إنه ينجذب إلى تصوير أفلام عن أماكن مقفرة وموحشة، يعيش فيها بشر قلائل منسيون على هوامش العالم وصخبه، بل خارجه. أي في عزلة دهرية، ويكتنفهم صمت وهجران مديدان. كأنما من بداية حياتهم ووجودهم. بل منذ بدايات الخليفة التي تكوّنت ونشأت من طين على هذه الأرض.

ينجذب علي شري إلى تصوير أفلام عن أماكن مقفرة وموحشة، يعيش فيها بشر قلائل منسيون على هوامش العالم وصخبه، بل خارجه. أي في عزلة دهرية، ويكتنفهم صمت وهجران مديدان

أسئلة ساذجة

سألتُ عليا لماذا يجذبه القفر وبشر القفر والعزلة والصمت إلى حدّ إصراره على إقصاء المجتمع والاجتماع إقصاء يبديهما فيلمه "السد" نافلين أو زائدين على الحاجة وبلا معنى؟ ولما لم يقلْ سوى كلمات قليلة متقطّعة، فكرتُ أن الكلمات واللغة لا تقوى على إخراج الأفكار والهواجس والمشاعر الكثيفة التي تضطرب متدافعة في وعيه وصدره. وهو يجيد إخراجها بالصور التي بها خبر فن القول والتعبير، وليس باللغة. وهذا ما حملني على التدارك والتفكير بأن سؤالي ينطوي على شيء من سذاجة تقليدية رائجة في فهم أشكال التعبير الفني وأنواعه، وصلتها بأصحابها.

تكمن السذاجة في الافتراض الذي يعتبر أن الفنانين على اختلافهم واختلاف أنواع الفنون التي يحترفونها، يختارون بوعي أو إدراك إراديين مسبقين "موضوعات" أعمالهم الفنية وأساليب تعبيرهم عنها. وهذا ليس سوى خطأ شائع في فهم ماهية الفن والتفاعل معه. كأن تسأل شاعرا لماذا يكتب شعرا على هذا النحو وليس على نحو آخر؟ أو تسأل سينمائيا لماذا اختار هذا "الموضوع" لفيلمه وليس ذاك؟ أو تسأل مغنيا/مغنية لماذا يغنيان بهذا الصوت وليس بصوت آخر؟

Getty Images
المخرج علي شري خلال حضوره عرض فيلم "السد" خلال الدورة الستين لمهرجان نيويورك السينمائي في مسرح فرانشيسكا بيل في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 في مدينة نيويورك.

مثل هذه الأسئلة غالبا ما تنطلق من جهل أولي يستبعد العوامل اللاإرادية الغالبة في صلة الفنانين بالفنون التي ينتجونها وفي صلة الفنون بالمتفاعلين معها. وهي صلة تتصل اتصالا عضويا حميما بالتكوين والاختبارات والخبرات الحياتية الكيانية والوجودية الشخصية لهذا الشخص أو ذاك. وليست قطعا مسألة اختيارية وإرادية. كمثل قول الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري: "سواي راح للثمر/وأنا هِمْتُ بالشجر".

 

عمال الدهر والقدر

يصوّر "السدّ" طوال ساعة ونيف عمالا سودانيين شبانا يصرفون أوقات نهاراتهم صامتين تقريبا أثناء جبلهم التراب بالماء طينا، فيصبّونه في قوالب حديد بحركة سريعة خبروها واحترفوها بالتكرار وبجهد عضلي صامت يكتنفه صخب آلة الصبّ البدائية في ورشتهم قرب سد مروي السوداني على نهر النيل. ثم ينقلون القوالب بعربات يدوية يجرّونها إلى مكان قريب، فيُخرِجون قطع الطين الليّن من قوالبه، ويرتبونها صفوفا منتظمة، لتجفّفها حرارة الشمس في خلاء فسيح، فتصير بعد أيام أحجار لبن قاسية وجاهزة للبناء والعمران في عالم بعيد من عالم هؤلاء العمال البدائي في القفر الموحش. 

عند الغروب يأوي عمال الطين واللبن إلى مخيمهم قرب الورشة. بعضهم يغتسل في العراء على شاطئ النهر. آخرون يحضّرون أكلهم. أحدهم (ماهر، الشخصية الرئيسة في الفيلم) نراه في مشهد بعيد يجلس وحيدا على سقالة معدنية فوق مياه السد، منصرفا إلى مكالمة في هاتفه المحمول.

هذه الأمسيات شبه صامتة تقريبا، كأنما الكلام واللغة فائضان على الحاجة في هذا القفر وعزلته. لا يظهر أن لهؤلاء العمال المنقطعين شاغلا ما خارج هذا السرد البصري لحياتهم المادية الصامتة المتقشفة في كل شيء. إنهم عمال دهريون أو قدريون، وراضون بنصيبهم من قسمة الدهر والقدر. ولولا تلقّيهم بحيادٍ صامت واكتراثٍ ضئيل ما تبثّه هواتفهم المحمولة وشاشة تلفزيون وجهاز راديو قديم من كلمات وصور عن يوميات الثورة في الديار السودانية منذ العام 2019، لما علمنا - نحن مشاهدي الفيلم ولا علم العمال الذين يصور حياتهم - في أي زمن ومكان تحدث تلك الحياة التي لا يغيّر شيئا من وقائعها الدهرية استماعُهم إلى كلمات الثورة ومشاهدتهم صورها، على نحو سماعهم الأغاني في مخيمهم.

يصوّر الفيلم تصويرا حسيا نوم العمال الليلي، كأنما شهيقهم وزفيرهم ينفثان في الطين مناماتهم الغامضة التي يختلط فيها عرق أجسامهم بغطيط أنفاسهم الكثيفة، فينتفخ الطين ويتحرك بطيئا بطيئا بحياة رسوبية في صلصال يشبه ذاك الذي تحرك في بدايات الخلق.

سرعان ما ينعطف الفيلم منتقلا إلى تصوير حياة أخرى أو أخروية ينفرد بها ماهر، الشخصية الأساسية في "السد". فبعد فراغه من عمله اليومي ينتقل على دراجة نارية إلى مكان قفر في وادٍ ضيق، ويروح يشيد فيه وحيدا نصبا من الطين، فيما كلبه يقف على مرتفع صخري محدقا فيه تحديقا جامدا. يشبه النصب الطيني الذي يواظب ماهر على تشييده عرزالا أو وثنا يشبه أوثان شعوب بدائية، وقد يجسّد توقا بشريا بدائيا إلى عالم روحاني متعالٍ يفتح كوة أو فجوة تُخرج ماهر من دهرية عمله في الورشة والحياة في المخيم.

مشهد من فيلم "السدّ"

وينعطف الفيلم منعطفا آخر بموت صديق ماهر في الورشة غرقا أو انتحارا في النهر. وعندما ينهمر عليه المطر في نهار آخر أثناء متابعته تشييد نصبه، تذيب غزارة المطر طين النصب حتى تقوضه أخيرا. وفي المساء، ينصرف ماهر إلى إطعام كلبه ومداعبته. لكنه سرعان ما يفاجئنا بمعاجلة الكلب بضربة قاتلة على رأسه. ثم يبادر بعد ذلك إلى إشعال النار في المخيم. وفي مشهد الفيلم الأخير نرى ماهرا يسبح عاريا في مياه السد، فلا ندري إن كان يتطهر أو هو مقبل على الانتحار غرقا. وقد يلتقي هذه الأفعال كلها في دافع عدمي واحد.

يصوّر الفيلم تصويرا حسيا نوم العمال الليلي، كأنما شهيقهم وزفيرهم ينفثان في الطين مناماتهم الغامضة التي يختلط فيها عرق أجسامهم بغطيط أنفاسهم الكثيفة، فينتفخ الطين ويتحرك بطيئا بطيئا بحياة رسوبية في صلصال يشبه ذاك الذي تحرك في بدايات الخلق

بشر الصمت والعزلة

أخرج علي شري فيلمين آخرين غير "السد"، لكنهما مثله يصوّران بشر القفر والعزلة والصمت. وهو يقول إن أفلامه ثلاثية متصلة متكاملة. أول أفلامه "القلق" صوّره في لبنان سنة 2013. وقد يكون من آثار وذكريات طفولته وفتوّته في الحرب الأهلية بلبنان، عندما حمل كاميرا وراح يصوّر وسط بيروت مدمرا مهجورا بعد توقف الحرب سنة 1990. أما في "القلق" فصوّر لحظة كارثة زلزال ممطوطة إلى 20 دقيقة، راصدا فيها تصرفات البشر وهلعهم القدري الكارثي.

فيلم "السدّ"

أما فيلمه الثاني، "الحفّار"، فصوّره في موقع أثري مهجور في الصحراء خارج إمارة الشارقة: مقبرة أثرية تعود إلى 5 آلاف سنة، أُخليت قبورها من محتوياتها ووضعت في متحف الإمارة، وأُبقيت القبور الفارغة موقعا أثريا يحرسه عامل باكستاني منذ نحو 20 سنة. مدة الفيلم 25 دقيقة، ويصوّر حياة الحارس اليومية شبه الصامتة في القفر الصحراوي، حيث يحرس المقابر الأثرية الخالية.

هل تركت المآسي اللبنانية أثرها في تكوين حساسية علي شري التي جعلت القفر وبشر القفر مدار تعبيره الفني ورؤيته أو بصيرته السينمائية المتفرّدة؟

font change

مقالات ذات صلة