"بابا نويل ما أجا، أنا جحا"... محاولات مسرحية في غزة لاستعادة الفكاهة والحياة

حين يصبح المسرح اضطرارا إنسانيا

عروض مسرحية في غزة

"بابا نويل ما أجا، أنا جحا"... محاولات مسرحية في غزة لاستعادة الفكاهة والحياة

بين المدارس المكتظة بالنازحين، وفي ساحات المخيمات، يظهر ممثل مسرحي، يطوف بين جمهور من الأطفال والأهالي، ليصنع مشهدا مغايرا لما يعيشونه في واقعهم المرير. يلوح بيديه، بحركات وأصوات تبث الفكاهة، وتسترجع الضحكة وسط التيه والركام. خلفه ستارة صنعت من قماش الخيام، وقبالته وجوه تنظر بدهشة وارتباك. العرض اسمه "بابا نويل ما أجا، أنا جحا"، عنوان ساخر بقدر ما هو موجع، يستبدل الغائب الذي لم يأتِ أبدا بشخصية محلية تبحث عن المعنى والحكمة وسط الفوضى والجنون.

تقول أمل أبو داوود، مديرة برامج مؤسسة "أيام المسرح"، وهي الجهة المنفذة للعروض، لـ"المجلة" إنهم منذ الأيام الأولى للحرب أدركوا أن عليهم التحرك بسرعة: "الأطفال والنساء كانوا بحاجة إلى مساحة تنفس، إلى لحظة أمان وسط هذا الدمار. بدأنا بتنفيذ ورشات تعبير حر، دراما وسرد ورسوم متحركة، في كل مكان يمكننا الوصول إليه".

الخراب حين يتحول إلى مسرح

تصف أبو داوود ذلك كأنها تتحدث عن فعل إنقاذ، لا عن نشاط ثقافي. أكثر من ستين مدربا ومدربة من مناطق مختلفة عملوا متفرقين، كل في المكان الذي نزح إليه، ليخلقوا شبكة غير مرئية من الفن وسط الحرب.

لم يكن لديهم مسارح، ولا إضاءة، ولا أجهزة صوت، فالاحتلال الإسرائيلي هدم معظم المؤسسات الثقافية خلال حرب الإبادة، لكنهم امتلكوا شيئا آخر: الإيمان بأن الفن يمكن أن يكون جسرا بين الخوف والأمل، "صرنا نعمل في المدارس والساحات، وأحيانا داخل الخيام نفسها"، تقول أمل، "الفن لا يغير الواقع الخارجي، لكنه يعيد ترتيب الداخل، يعيد ترتيب الروح".

في كلماتها شيء من الحنين إلى زمن كان فيه الأطفال يجلسون في صفوف مرتبة أمام خشبة مضاءة، بينما يتجمعون الآن في دائرة حول ممثل يرفع صوته ليصل إلى آخر واحد منهم يجلس على رمل بين الخيام.

الفن لا يغير الواقع الخارجي، لكنه يعيد ترتيب الداخل، يعيد ترتيب الروح – أمل أبو داوود

المسرح في غزة لم يعد مكانا ثابتا، بل متغير، متكيف مع الواقع. ولم يعد بناء له جدران، إذ اقتصر على لحظة تماس بين إنسان يحكي العالم كما يتذكره، وإنسان يسمع بكل حواسه.
تقول أمل إنهم يصنعون ستائرهم من الحبال، وديكوراتهم من صناديق المساعدات، وملابسهم من القماش والورق. فكل شيء يمكن أن يتحول إلى مسرح، حتى الخراب نفسه يمكن تدويره، "حين نرى ضحكة تخرج من قلب الخوف، ننسى التعب كله"، تقولها كمن يتحدث عن معجزة صغيرة، لكنها في الحقيقة تتحدث عن سر الفن، أي أن يحول الألم إلى طاقة حياة.

أما المخرج المسرحي أحمد البنا، فوجد الزاوية الفنية للحدث، في سؤال بسيط طرحه على نفسه: لماذا لا يأتي بابا نويل إلى أطفال غزة؟

السؤال، في ظاهره طفولي، لكنه يحمل داخله مرارة جيل كامل لم يختبر معنى الهدايا أو المفاجآت. يقول البنا: "المغري في المزج بين الشخصيتين، هو أن جحا شخصية يعرفها الأطفال من النكتة والمثل، بينما بابا نويل شخصية يعرفها العالم كله إلا أطفالنا. فقررت أن أجعل جحا يأتي بدلا من بابا نويل، يبحث عن الحكمة وسط الفقد، عن الأمل وسط غياب غريب لغد ظل ينتظره الجميع هنا طوال عامين".

عروض مسرحية في غزة

العروض تقدم بأسلوب مسرح الشارع، أقرب إلى مدرسة بريخت، حيث الجمهور ليس متفرجا متلقيا فقط، بل جزء من المشهد. هنا، لا يعود المسرح خيارا جماليا بقدر ما هو اضطرار إنساني. فالممثلون يعرضون في الأزقة وبين الخيام، في أماكن مكتظة يختلط فيها صوت الطفل بصفير القذائف القاتلة.
"كان تحويل سور الخيمة الهش إلى خلفية مسرح، واستخدام أدوات الحياة اليومية كإكسسوارات، تحديا وجمالا في آن واحد"، يقول البنا. فالغياب الكامل للمعدات جعلهم يركزون أكثر على الأداء، على النص، على صدق التمثيل نفسه، "نحن لا نملك سوى حضورنا، وكلماتنا".

في حديثه، يمرر المخرج شعورا خفيا بالتمرد، وكأن المسرح هنا ليس مجرد عمل فني، بل فعل بقاء واستراتيجية لتعلم الحياة. يقول إن كل عرض عنده يبدأ بفكرة: "فكرة من أجل الصراع الداخلي الذي يخلق ثورة داخل المتلقي، ربما تكون الثورة ذكرى أو حلما أو أمنية مفقودة".

كان تحويل سور الخيمة الهش إلى خلفية مسرح، واستخدام أدوات الحياة اليومية كإكسسوارات، تحديا وجمالا في آن واحد

أحمد البنا

وهو لا يبحث عن الإجابات، بل عن الأسئلة، "السؤال يفتح الأفق، والجواب يطفئ الثورة الداخلية"، يقول البنا، وكأنه يكتب بيانا فلسفيا للمسرح في زمن الإبادة.

تعطّش للحظات سابقة

الفنان غسان سالم، أحد الممثلين المشاركين في هذه العروض، يتحدث بنبرة تتقاطع فيها الغصة مع الإصرار: "أشعر بثقل كبير وأنا أرى الأطفال، ونظراتهم المتعطشة لمثل هذه الأعمال. قبل الحرب، كان أطفال غزة ينتمون الى نوادٍ فنية، يشاركون في أنشطة، يشاهدون عروضا. اليوم تحولت حياتهم إلى مأساة يومية: جرادل ماء، صفوف انتظار أمام التكيات... المسرح بالنسبة لهم صار تذكيرا بأنهم كانوا يوما أحياء يضحكون"، يوم كان الشغف لا يقصف بالطائرات، ولا تفجره الروبوتات، خلال حرب قتلت عشرين ألف طفل فلسطيني على الأقل.

يصف لحظات اندهاش الأطفال حين يعرضون مشاهد عن المدرسة، ورمضان، والعيد، كيف تعود الذاكرة فجأة إلى أيام بدت بعيدة مثل حلم قديم. يقول: "حين نعيد تمثيل تلك المناسبات، أرى في عيونهم ومضات استرجاع، كأنهم يعيشون لحظة من الزمن المفقود".

وحين نسأله عن الفرق بين العرض في القاعات المغلقة والعرض في الشوارع المفتوحة، يجيب ببساطة حزينة: "هذا هو مسرح المضطهدين. نحن لا نختار المكان، المكان يفرض نفسه علينا".

عروض مسرحية في غزة

يصف كيف يقف الممثل في الحر والغبار، يصرخ ليسمع أبعد طفل، يضاعف حركاته كي تُرى بوضوح وسط الضجيج، "الضوضاء تشتت التركيز، الجمهور يقترب أحيانا أكثر من اللازم، لكن رغم كل شيء، هناك لحظة يشعر فيها الممثل بأن كل التعب يذوب، حين يرى نظرة طفل تفهم شيئا عميقا من خلف الصوت والحركة".

يصمت قليلا، قبل أن يقول عبارة تشبه اعترافا، وتبين مدى الصدمات التي تعرضت لها الحياة الفنية في غزة على مدار الحرب: "حين بدأت الحرب، توقفت عن العمل تماما لمدة عام،  كنت مصدوما. حيث هُدمت المسارح، واختفت الأدوات الفنية، لم يبقَ لنا شيء يمكننا من الاستمرار. لكنني في ما بعد، أدركت أن الفنان في هذه الأرض محكوم بأن يستمر، أن يحمل عبئا مضاعفا. الفن هنا ليس ترفا، إنه شكل من أشكال النجاة".

هذا هو مسرح المضطهدين. نحن لا نختار المكان، المكان يفرض نفسه علينا

غسان سالم

في صوته إدراك قاسٍ بأن الجمال في غزة لم يعد شيئا مكملا، بل ضرورة للبقاء الإنساني.
 يرى غسان أن العرض المسرحي يملك مساحة تعطي الفلسطينيين لغة مختلفة عن لغة الأخبار، لغة تسرد القصص لا الأرقام، وتكشف المعاني المخفية خلف المآسي اليومية.
 "الفن لا ينافس الواقع، بل يفسره"، يضيف، "هو وسيلة لقول شيء للعالم: نحن هنا، نحلم رغم أنف الموت".

يبدو من كلام الثلاثي، أن الفن ليس ترفا ولا زينة، بل فعل مقاومة ضد المحو والطرد من الحياة. ومسرحهم هو محاولة استثنائية لتثبيت ملامح الإنسان في مكان تتلاشى فيه الإنسانية بين غبار الحرب.

عروض مسرحية في غزة

تقول أمل: "إعادة بناء الإنسان يجب أن تسبق إعادة بناء الحجر. ما دمرته الحرب في النفوس لا يرمم بالإسمنت، بل بالكلمة واللون والحكاية".
ويقول البنا: "نحن نسرد الحكاية بعين فنية يمكن أن تغير شاشة الحرب التي فرضت على الأطفال وأهاليهم".

أما سالم فيخبرنا بأن صوت الفن سيبقى أعلى من صوت الطائرات والكوادكابتر التي لطالما انتشرت لتخيف أهل غزة وتطالبهم بالنزوح.

في غزة، جواب الأسئلة الصعبة يتجسد في الخيام، حيث يقف الممثلون حفاة فوق الرمل، يرفعون أصواتهم ضد الحرب والخذلان والصمت المحبط. فكل عرض هو إعادة تنشيط لحياة سابقة منحت أولئك الأطفال شيئا من التفكير والتأمل والسعادة. تلك لحظة مسرحية وسط الحرب، يمكن الإنسان من خلالها أن يتحقق من حواسه من جديد.
 ربما لا يستطيع المسرح أن يمحو ملامح حرب طويلة قتلت كل ما قابلها، لكنه وسط كل أغطية الدمار، ينادي من نافذة ملونة، بأن الحياة لا تزال ترن مثل جرس داخل الجسد. 

font change