غزة: في غزة، بقيت الحكايات تروى، ليس من أجل الترفيه فقط، بل من أجل النجاة، وجَسر الهوة مع حياة تبتعد في كل لحظة. فالحكواتي لا يقتصر على هيئة رجل يرتدي عباءة، ولا امرأة تجلس في وسط حلقة الأطفال بضحكة مطمئنة وإيماءات مشوقة، لكنه بناء ذكي يحمل تجريبا وخطى جريئة نحو كل ما هو عكس الحرب، وطريقة لتقليل أثرها.
لا يمكن تجريد الحكواتي، بأنه كتاب يضمّ شخصيات من عالم آخر، أو بابا نويل يدخل مساحة الحرب من عالم السلام، فيحققه. بل هو شخص يعاني ويلات الحرب، يستنشق أدخنتها، ويمشي كيلومترات في حرّ الشمس، أو يقطع الأزقة الترابية بين الخيم، ليصل إلى مجموعة أطفال مرعوبين تختزن عيونهم صورا لا يفترض أن يكونوا رأوها.
في الحرب إذن، يتحول الحكواتي من طقس شعبي موروث عن الأجداد، إلى طوق نجاة يحاول الإمساك بطفولة تتسرب مثل التراب من بين الأصابع. فـ"التقاء الأطفال في هذه الظروف قاس واستثنائي، لا يشبه أي شيء قبله"، تقول أشجان أبو عبيد الله، الفنانة الحكواتية التي تعمل وسط نزوح وجوع وفقد. تصف في حديثها إلى "المجلة" مشهدا يبدأ قبل الحكاية بكثير: أسماء الأطفال تأتيها عبر لجان مراكز الإيواء، تجمع الأسماء وترتب المواعيد، ثم تنقل إلى المكان عبر مؤسستها المحلية التي تحاول أن تمنح أولئك الصغار شكلا من أشكال التعليم المجتمعي، لكن كل شيء يظل هشا.
يصل الأطفال مثقلين بالهم والتعب. أحدهم جاء بعد أن نقل لعائلته غالونات الماء من مكان بعيد. آخر جاء يبكي بصمت لأنه فقد والده في القصف الأخير. أجسادهم منهكة من المجاعة، بطونهم فارغة، وأذهانهم موزعة بين ذكريات البيت المدمر وصورة الطابور الطويل أمام "التكية".
خيال يتقلص، أم يستمر في التجدد؟
تقول أبو عبيد الله: "قبل الحرب، كنا نحكي للأطفال عن أحلامهم، عن طموحاتهم، عن ذواتهم. كان الطفل يستطيع أن يبحر في القصة كما يبحر في نفسه. الآن، تغير الأمر. صار لزاما أن نبدأ بالحديث عن المتفجرات، عن الألغام، عن الأجسام الغريبة. هذه صارت جزءا من بيئة الطفل اليومية، وصارت القصص وسيلة لتحذيره من الموت".